مع مرور 454 يوماً على الحرب الوحشية على غزة، تشهد إسرائيل تساؤلات وانتقادات تتعلق بمستقبلها وأثمانها، لكنها في سوادها الأعظم تنطلق من حسابات الربح والخسارة، وسط تغييب للاعتبارات الأخلاقية، وتجاهل مريع للكارثة الإنسانية التي تعصف بالمدنيين الفلسطينيين الذين يموتون قصفاً وجوعاً وبرداً ومرضاً.
في هذا الإطار، يواصل مراقبون إسرائيليون توجيه الانتقادات لحكومة الاحتلال بالقول إن الضربات العسكرية في قطاع غزة مهمة، لكنها لن تؤدي للنتيجة المشتهاة، إسقاط “حماس”، طالما لا يُطرح بديل مدني لها.
مع احتفاظ المقاومة في شمال القطاع بالقدرة على استهداف جنود الاحتلال، بعث ثمانية نواب أعضاء لجنة الخارجية والأمن في الكنيست مذكرة لوزير الأمن يسرائيل كاتس يحذرون فيها من التورط بحرب استنزاف في غزة.
وطبقاً لصحيفة “يسرائيل هيوم”، دعا هؤلاء النواب الثمانية لتغيير “قواعد اللعبة” والانتقال لتطبيق “خطة الجنرالات” الداعية لتهجير الغزيين من شمال القطاع بالكامل واحتلاله.
ويقول هؤلاء، في مذكّرتهم المشتركة، إن الحملة البرية لا تؤدي لحسم “حماس”: “جنودنا يدخلون كل مرة من جديد لمناطق قمنا بتطهيرها ويسدّدون ثمناً باهظاً”، ويدعون لنزع سلاح غزة، وفرض حكم عسكري من أجل تدمير حكم “حماس”.
من جهتها، تُواصل صحيفة “هآرتس” فضح جرائم الحرب الإسرائيلية داخل قطاع غزة، وتقول، اليوم، الخميس، في كشف جديد، إن جنود الاحتلال يمنعون سكان شمال قطاع غزة، وهم يُجبرون على مغادرة منازلهم، أن يأخذوا ممتلكاتهم الشخصية حتى الملابس.
تنقل الصحيفة عن مصدر إسرائيلي كان في غزة قوله: “لقد رأيت على الحاجز الإسرائيلي الذي يتم توجيه المدنيين المطرودين نحوه أكواماً من الممتلكات”، فيما تنقل عن فلسطيني أُجبر على النزوح من شمال القطاع قوله: “أجبروني على ترك ما تبقى من بيتنا، وفي الحاجز أجبرني الجنود تحت تهديد السلاح بالتخلي عن ملابس أطفالي وزوجتي رغم البرد الشديد الذي ينتظرنا في خيام الجنوب”.
من هو الإرهابي؟
“هآرتس”، الصوت الصحفي الوحيد في البرية الإسرائيلية الذي ينطق بوجع الفلسطينيين في غزة، تكرّس افتتاحيتها، لليوم الثاني على التوالي، لجرائم الاحتلال في غزة، خاصة تلك التي يرتكبها الجنرال يهودا فاخ قائد فرقة 252. وتكشف عن كونه مستوطناً متطرفاً ولد ونشأ في مستوطنة “كريات أرباع” المجاورة للخليل، وعن معتقداته وتصريحاته البربرية، كالقول إنه لا يوجد مدنيون داخل القطاع، وإن كافة الغزيين “مخرّبون”.
وبعد كشف “هآرتس” عن قيام فاخ باستدعاء شقيقه الضابط غولان فاخ وإيكاله مهمة “تخريب بيوت غزة بشكل منهجي”، فمن يكون المخرب والإرهابي الحقيقي؟
تشير “هآرتس”، في افتتاحيتها اليوم، إلى أن فاخ يعمل منذ بدء العملية البرية في شمال القطاع، في أكتوبر الماضي، لاقتلاع نحو 250 ألف فلسطيني من شمال غزة، زاعماً أن انتزاع الأرض منهم هو الطريق لتعليمهم درساً.
يُشار إلى أن اسم فاخ ورد قبل أسبوعين ضمن تحقيق “هآرتس” الذي تحدث عن منهجية قتل الاحتلال للفلسطينيين في محور “نيتساريم” واعتبار كل من يُقتل منهم “مخرّباً”، حتى لو كان طفلاً.
وتخلص “هآرتس” لدعوة الجيش للتحقيق في تصرفات فاخ وإبعاده عن مواقع قيادية بارزة. هذه “التصرفات”، هذه الجرائم التي يقودها فاخ، تذكّر بمواقف أوساط إسرائيلية أخرى دعت لعدم التمييز بين عسكريين ومدنيين في غزة، أبرزهم مستشار الأمن القومي الأسبق الجنرال في الاحتياط غيورا آيلاند، الذي قال عشرات المرات إن النساء الفلسطينيات هدف شرعي لأنهن شقيقات وزوجات وبنات جنود “حماس”.
مسؤولية إسرائيل
في ظل جرائم الحرب المتتالية، وحرب الإبادة التي تشارك فيها الولايات المتحدة بشكل مباشر مع إسرائيل في غزة، كما أكد الكاتب الصحفي الأمريكي المالطي الأصل جو ساكو داعياً لأمر اعتقال بحق بايدن أيضاً، فإن الجريمة أكبر وأخطر من فاخ وأمثاله، ويتحمل رئيس حكومة الاحتلال نتنياهو ووزير الأمن المستقيل من الكنيست غالانت وبقية المسؤولين مسؤولية هذه المذبحة.
بل تتحمل إسرائيل مسؤولية هذه الكارثة، ومعها الإسرائيليون (أغلبيتهم الساحقة)، ممن يؤيدون بأشكال مختلفة المسؤولية عن هذا النزيف الفلسطيني، وكذلك الولايات المتحدة ودول الغرب والشرق التي لا تسعى حقاً لوقف موت الأطفال الغزيين برداً وجوعاً.
إلى جانب ذلك، يُشار إلى أن التعبير عن صوت الوجع الفلسطيني في “هآرتس” ينعكس في مقالات كثيرة اليوم أيضاً، ومن أبرزها صرخة لمحاضرة في التربية وناشطة اجتماعية إسرائيلية تدعى تمار فارتا زهافي، وهي تستذكر في مقالها قصة “بائعة الكبريت” للكاتب الدنماركي هانز كريستيان أندرسن، من منتصف القرن التاسع عشر.
في القصة التاريخية، “بائعة الكبريت” طفلة فقيرة تجوب عشية عيد الميلاد شوارع المدينة، لكنها لا تجد من يشتري عيدان الكبريت منها، وتخاف أن تعود لوالديها بصفر اليدين، تسترق النظر عبر نوافذ البيوت لمشاهدة عائلات تجتمع حول طاولة العيد وهي ممتلئة بالطعام. إلى أن يستبدّ بها التعب واليأس، فترتمي لجانب جدار بين عمارتين على حافة شارع، فتتجمد بالتدريج وتحاول تدفئة ذاتها بإشعال ما لديها من عيدان الثقاب دون جدوى.
فتستذكر قول جدتها الراحلة إنه كلما يخرّ نيزك في السماء يكون شخص ما قد مات، وعندها تشعل كل عيدان الثقاب علّها تنتج ضوءاً كالنيزك فتلحق بجدتها للسماء. لم تكن النهاية حزينة بالنسبة لـ”بائعة الكبريت” بل كانت نهاية سعيدة، لأنها صعدت إلى السماء مع جدتها، تاركة وراءها الكبريت، والبرد الشديد، والجوع، وهذه هي أحوال طفلات غزة اليوم.
عن هذه الحالة الخيالية والواقعية تقول الكاتبة الإسرائيلية زهافي إن بائعة الكبريت الصغيرة همست في أذنها أن “هناك عشرات آلاف الأولاد في غزة مثلي”.
“في حزن على وسع المدى”
في مقالها، تمضي زهافي في توجيه الانتقادات للإسرائيليين بالقول: “في طفولتي أثّرت عليّ عميقاً قصة “بائعة الكبريت”. في البداية روى لي أهلي القصة، ولاحقاً، وبعدما تعلمت القراءة، قرأتها عدة مرات، وفي كل مرة كنت أتمنى أن تتغير نهاية القصة، وقد حاولت إنقاذها. لم أستطع تحمل حقيقة موتها برداً، ورغبت أن أستضيفها في بيتنا، وأن تكون أختي. كذلك صرخت في سري مخاطبة الدنماركيين اللامبالين ممن يسارعون لمنازلهم لتناول عشاء عيد الميلاد: أنتم مقزّزون، قساة، أي نوع من البشر أنتم؟ أنقذوا الطفلة. رغم أنني كنت طفلة صغيرة حرّكتني القصة لتفكير نقدي وللحراك والمبادرة وعدم الاكتفاء بالأقوال”.
فإذا كان موت الأطفال في غزة برداً وجوعاً يؤرق زهافي ويخرجها عن صمتها حيال جرائم الإسرائيليين في الواقع، وصمت الدنماركيين في الخيال، فهل تحرك هذه الملحمة الغزية الأشقاء الفلسطينيين على طرفي الخط الأخضر، والأصدقاء في العالم، لوقف النزيف في غزة، حيث “الحزن وسع المدى، لا صوت باقٍ ولا صدى”؟
تعليقات الزوار ( 0 )