فرض الله تعالى على عباده المؤمنين صيام شهر رمضان فقال: (يأيها الذين ءامنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون)[البقرة 163]، والصيام من أسس الإسلام وأركانه العظمى، وهو شعيرة لها تعظيم خاص في قلوب المؤمنين، فقد يتهاون المسلم في أداء الصلاة فيتركها أو يصليها خارج وقتها، ويكنز أمواله ولا يطهرها بإخراج الزكاة، وينشغل بتنميتها ولا يعير أي اهتمام لفريضة الحج رغم أنه قد يكون لمن استطاع إليه سبيلا، لكنه لا يتقاعس عن صيام رمضان فيفطر ولا يصوم، وحتى المريض الذي يوصيه الطبيب بالإفطار؛ يجد أهلُه صعوبة في إقناعه بعدم الصيام، وفي الشهر الفضيل أيضا، تكثر الأسئلة الدينية المتعلقة بهذه الفريضة، وتزدحم المساجد بالمصلين، سواء في أداء الصلوات الخمس أو في قيام رمضان بعد صلاة العشاء، مستجيبين لترغيب الرسول صلى الله عليه وسلم في قيام هذا الشهر، والاجتهاد في نيل فضله وثوابه، قال عليه السلام: “من قام رمضان إيمانا واحتسابا، غفر له ما تقدم من ذنبه“.
وإذا كان صيام رمضان معروفا عند الناس كافة، وهو الإمساك عن شهوتي البطن والفرج من طلوع الفجر إلى غروب الشمس شهرا كاملا بالتقويم القمري، ولم يختلف في ذلك أحد من المسلمين؛ فإن قيامه ليس كذلك، فقد كثر فيه النقاش بين من يدافع عنه باعتباره سنة أو واجبا؛ وبين طائفة أخرى تراه بدعة عمرية ما أنزل الله بها من سلطان، وقصدنا هنا، مناقشة هذا الاختلاف من خلال النظر في أصول المسألة وتحريرها وفق ضوابط أصولية وفقهية بعيدا عن التحيزات إلى هذه الطائفة أو تلك، وذلك في إطار الاجتهاد البشري الذي لا يدعي لنفسه العصمة من الخطأ، لكن حسبه أنه اجتهاد استفرغ فيه صاحبه الوسع والموفق من وفقه الله.
أولا: مفهوم قيام رمضان
أصل مشروعية قيام رمضان ما رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم من أحاديث صحيحة ترغب في قيام هذا الشهر، ومنها ما رواه مالك رحمه الله في الموطأ عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ” كان يرغب في قيام رمضان، من غير أن يأمر بعزيمة، فيقول: من قام رمضان إيمانا واحتسابا؛ غفر له ما تقدم من ذنبه”. وقبل بيان حكم هذا القيام وفضله؛ لا بد أن نحدد أولا مفهوم القيام نفسه؛ فما معنى قيام رمضان الذي رغب فيه عليه الصلاة والسلام؟
يشير شراح الحديث من أهل الفقه والحديث إلى أن المقصود ب (القيام) في رمضان هو الصلاة ليلا، يقول أبو الوليد الباجي: “وقيام رمضان يجب أن يكون صلاة تختص به” وبتعبير ابن حجر: ” أي قام لياليه مصليا” فقيام رمضان إذن، ليس هو صيامه، فالصيام يكون بالنهار، وهو الإمساك عن شهوتي البطن والفرج من طلوع الفجر إلى غروب الشمس بنية التعبد؛ أما القيام؛ فيكون ليلا من خلال أداء صلاة تقربا لله تعالى. ولعل حصر مفهوم القيام المرغب فيه في أداء الصلاة دون سواها من الذكر وقراءة القرآن؛ مأخوذ من كون هذا اللفظ، أعني (القيام)؛ مختص بالصلاة، كما يختص لفظ (الإيتاء) بالزكاة، كما نجد ذلك في كثير من الآيات والأحاديث قال تعال: (الذين يقيمون الصلاة ويوتون الزكاة)[المائدة 55] (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة)[البقرة 43] ومن الحديث:( بني الإسلام على خمس: شهادة أن لاإله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان) فيما يعبر عن فريضتي الصوم والحج بالفعل أو المصدر من مادتيهما اللغوية (الحج والصوم) دون اللجوء إلى استعمال فعل آخر من خارج الجذر اللغوي كما هو الشأن مع الصلاة والزكاة.
وإذا كانوا متفقين على أن المقصود بالقيام هو الصلاة ليلا؛ فإنهم قد اختلفوا في تحقق هذا القيام، يقول ابن حجر العسقلاني: “والمراد من قيام الليل ما يحصل به مطلق القيام (…) وذكر النووي أن المراد بقيام رمضان صلاة التراويح، يعني أنه يحصل بها المطلوب من القيام لا أن قيام رمضان لا يكون إلا بها، وأغرب الكرماني فقال: اتفقوا على أن المراد بقيام رمضان صلاة التراويح” أما السيوطي فقد صنف النووي من القائلين بأن قيام رمضان لا يتحقق إلا بالتراويح، أي أنه على مذهب الكرماني، يقول: ” قال النووي والمراد بقيام رمضان صلاة التراويح، وقال غيره: ليس المراد بقيام رمضان صلاة التراويح؛ بل مطلق الصلاة الحاصل بها قيام الليل”. فمن صلى ركعات في أول الليل أو آخره؛ فقد قام رمضان حسب المذهب القائل بمطلق القيام، سواء كان ذلك في صلاة التراويح في المسجد أو صلاها في بيته منفردا، فكل ذلك يتحقق فيه معنى القيام، أما على المذهب الآخر التي يمثله الكرماني، والنووي على رأي السيوطي؛ فمن لم يصل التراويح لم يقم رمضان وإن ركع وسجد ليلا، وهذه النتيجة المترتبة عن هذا القول؛ هي التي قصدها ابن حجر عندما وصف نقل الكرماني بالغرابة، إضافة إلى زعمه الاتفاق مع حصول الاختلاف.
لكن الذي استقر عليه الأمر عند عامة الفقهاء أن قيام رمضان هو صلاة التراويح، جاء في الموسوعة الفقهية: “وقال الفقهاء: إن التراويح هي قيام رمضان، ولذلك فالأفضل استيعاب أكثر الليل بها؛ لأنها قيام الليل”، والتراويح لغة: “جمع ترويحة، وهي في الأصل اسم للجلسة مطلقا، ثم سميت بها الجلسة التي بعد أربع ركعات في ليالي رمضان لاستراحة الناس بها، ثم سميت كل أربع ركعات ترويحة مجازا” وفي الاصطلاح الفقهي، يستنتج من كلام الفقهاء عن صلاة التراويح أنها: هي الصلاة في أول الليل بعد أداء صلاة العشاء في رمضان، سواء في المسجد جماعة أو في البيت فردا. أما خارج ليالي رمضان؛ فكل صلاة في أول الليل تسمى ( قيام الليل)، وفي آخره بعد النوم تسمى (تهجدا) أما إذا قام الإنسان نصف الليل أو ثلثه، صلاة ودعاء وقراءة للقرآن الكريم؛ فيسمى ذلك (إحياء الليل).
وإذن، قيام رمضان ورد الترغيب فيه بالسنة النبوية مطلقا، ومعناه: أداء الصلاة ليلا، غير أن هذا الإطلاق شاع تقييده عند الفقهاء بالتراويح، وهو اصطلاح أطلقوه على فعل عمر رضي الله عنه الذي جمع الناس على إمام واحد في المسجد بعد صلاة العشاء.
ثانيا: حكم قيام رمضان
روى مسلم في صحيحيه عن أبي هريرة رضي الله عنها قال: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرغب في قيام رمضان من غير أن يأمرهم فيه بعزيمة، فيقول: «من قام رمضان إيمانا واحتسابا، غفر له ما تقدم من ذنبه»”، والترغيب هو الحث على إتيان الفعل المرغب فيه، لكن على وجه الندب والاستحباب، لا على وجه الإلزام والوجوب، أو بتعبير راوي الحديث، “من غير أن يأمرهم فيه بعزيمة”، أي رغب في قيامه لكنه لم يوجبه فيلحقه بالصلوات الخمس، فمن قامه فله من الأجر ما ذكر، وهو غفران الذنوب، ومن تقاعس عنه؛ فهو محروم من هذا الأجر ولا يعاقب على تركه.
أما عند السادة الفقهاء فقد تباينت اصطلاحاتهم في حكم صلاة التراويح، يقول عبد الرحمن الجزيري: “هي سنة عين مؤكدة للرجال والنساء عند ثلاثة من الأئمة؛ وخالف المالكية” فقالوا: “هي مندوبة ندبا أكيدا لكل مصل من رجال ونساء”، فحكمها إذن، عند الإمام أبي حنيفة والشافعي وأحمد؛ سنة عين مؤكدة، أي على كل واحد بعينه رجلا وامرأة، وعند المالكية؛ فهي مندوبة فقط على الرجال والنساء، والندب عند المالكية أقل مرتبة من السنة المؤكدة، أي أنها مستحبة فحسب، والمندوب عند الفقهاء، هو: ما يثاب على فعله ولا يعاقب على تركه، ويعبر عنه أيضا بالسنة، والمستحب، والنفل، والتطوع عند الشافعية، أما المالكية والحنفية؛ فقد جعلوا المندوب مراتب، أعلاه السنة المؤكدة باصطلاح المالكية، أو سنة الهدى باصطلاح الأحناف، وعلى أي، فليس المقام هنا مقام تحقيق في هذه الاصطلاحات الفقهية، فلنا عودة إليها في مناسبة أخرى، أما الآن، فيكفي الإشارة إلى أن ما ذهب إليه الجمهور هو الصواب، وهو أن حكم قيام رمضان، أو التراويح باصطلاح الفقهاء؛ أنها سنة مؤكدة في حق الذكور والإناث، ومعنى السنة المؤكدة عند المالكية: ما كثر ثوابه، وتعريفهم هذا ينطبق على قيام رمضان الذي كثر ثوابه وفضله.
وهذا الحكم يتعلق بقيام ليالي رمضان مطلقا، أما قيامه في المسجد جماعة؛ فله حكم آخر كما سنبينه على الشكل التالي:
ثالثا: حكم الجماعة في قيام رمضان
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرغب في قيام رمضان كما سبق بيان ذلك، أما كيفية هذا القيام؛ فقد ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان يقوم في بيته، والصحابة يقومون أوزاعا وجماعات في المسجد، أي بعضهم يصلي في جماعة خلف إمام، وبعضهم يصلي منفردا بقراءته على قدر طاقته، إلا ثلاث ليال قامها النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد وصلى خلفه الصحابة، روى البخاري في صحيحه أن “رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ليلة من جوف الليل، فصلى في المسجد، وصلى رجالٌ بصلاته، فأصبح الناس فتحدثوا، فاجتمع أكثر منهم فصلى فصلوا معه، فأصبح الناس فتحدثوا، فكثر أهل المسجد من الليلة الثالثة، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى فصلوا بصلاته، فلما كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله، حتى خرج لصلاة الصبح، فلما قضى الفجر أقبل على الناس، فتشهد، ثم قال: «أما بعد، فإنه لم يخف علي مكانكم، ولكني خشيت أن تفترض عليكم، فتعجزوا عنها»، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك” وفي الموطأ وصحيح مسلم – واللفظ لمسلم- زيادة: ” فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك، ثم كان الأمر على ذلك في خلافة أبي بكر، وصدرا من خلافة عمر على ذلك”.
توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك؛ أي أنه عليه السلام كان يقوم رمضان في بيته وليس في المسجد، لكن الذي منعه من ذلك، بعد أن صلى بهم في المسجد ثلاث ليال؛ هو خشية أن تفرض عليهم فيعجزوا عنها، وبقي الصحابة يصلون في المسجد فرادى وجماعات في حياته، وبعد مماته طيلة خلافة أبي بكر، ومدة من خلافة عمر، وبعدها سيجتهد الفاروق ويجمعهم على إمام واحد، روى البخاري في صحيحه: “عن عبد الرحمن بن عبد القاري، أنه قال: خرجت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ليلة في رمضان إلى المسجد، فإذا الناس أوزاعٌ متفرقون، يصلي الرجل لنفسه، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط، فقال عمر: «إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد، لكان أمثل» ثم عزم، فجمعهم على أبي بن كعب، ثم خرجت معه ليلة أخرى، والناس يصلون بصلاة قارئهم، قال عمر: «نعم البدعة هذه، والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون» يريد آخر الليل وكان الناس يقومون أوله”.
نستخلص مما سبق؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام رمضان في المسجد ثلاث ليال، وصلى بالناس جماعة، ثم انقطع عنهم خشية وجوبها، والصحابة كانوا يقومون رمضان في المسجد فرادى وجماعات، وأقرهم النبي عليه السلام على ذلك ولم يأمرهم بالانصراف والقيام في بيوتهم، وبقيت هذه الحالة هي السنة النبوية إلى أن رآى الخليفة الثاني أن يجمعهم على إمام واحد، ووافقه الصحابة على ذلك؛ بدليل أنهم لم يعترضوا على اجتهاده، لأنهم صلوا خلف النبي عليه السلام جماعة قبل أن يصلوا خلف أبي بن كعب رضي الله عنه، كما أنه في نفس الوقت؛ لم يفعل عمر ذلك على جهة التشريع والإيجاب، ولا فهم ذلك أحد من الصحابة والفقهاء الكبار من التابعين وغيرهم؛ وآية ذلك؛ أن بعض الصحابة كانوا يتخلفون عن هذه الجماعة ويقومون في بيوتهم، ومنهم عمر رضي الله عنه الذي خرج في ليلة أخرى فسمعهم يصلون فقال (نعم البدعة هذه)، أي أنه رضي الله عنه لم يكن يصلي معهم في المسجد جماعة، أو على الأقل لم يكن يواظب على ذلك.
وفي حديث آخر رواه البخاري؛ قد يفهم منه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقر صحابته على قيام رمضان في المسجد، سواء فردا أو جماعة، وبالتالي يكون اجتهاد عمر رضي الله عنه مخالفا لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم الفعلية والقولية، ففي صحيح البخاري: “عن زيد بن ثابت: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اتخذ حجرة، قال: حسبت أنه قال: من حصير في رمضان، فصلى فيها ليالي، فصلى بصلاته ناسٌ من أصحابه، فلما علم بهم جعل يقعد، فخرج إليهم فقال: «قد عرفت الذي رأيت من صنيعكم، فصلوا أيها الناس في بيوتكم، فإن أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة»” ! ففي هذه الرواية أمر صريح من النبي صلى الله عليه وسلم لصحابته بأن يصلوا النوافل في بيوتهم، لكن عند التحقيق في المسألة، نجد أن ذلك حصل في قيام الليل في غير رمضان، فمن جهة؛ أن الراوي ذكر زيادة (في رمضان) على وجه الشك وليس اليقين، ومن جهة ثانية؛ جميع الروايات الأخرى الصحيحة تذكر فقط؛ أنه قال لهم: خشيت أن تفرض عليكم، وليس فيها زيادة ( فصلوا أيها الناس في بيوتكم)، ومن جهة ثالثة؛ أخرج مسلم في صحيحه رواية أخرى عن زيد ابن ثابت نفسه، وليس فيها ( في رمضان)، ففي صحيحه: “عن زيد بن ثابت، قال: احتجر رسول الله صلى الله عليه وسلم حجيرة بخصفة، أو حصير، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي فيها، قال: فتتبع إليه رجالٌ وجاءوا يصلون بصلاته، قال: ثم جاءوا ليلة فحضروا، وأبطأ رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم، قال: فلم يخرج إليهم، فرفعوا أصواتهم وحصبوا الباب، فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مغضبا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما زال بكم صنيعكم حتى ظننت أنه سيكتب عليكم، فعليكم بالصلاة في بيوتكم، فإن خير صلاة المرء في بيته إلا الصلاة المكتوبة»”
والفقهاء أيضا لم يجعلوا الجماعة شرطا في صحة صلاة التراويح، ولا اعتبروها سنة نبوية ينبغي المواظبة عليها اقتداء به عليه الصلاة والسلام، بل نظروا إليها نظرا مصلحيا كما فعل سلفهم عمر رضي الله عنه، فاختلفوا تبعا لذلك، فقال الأحناف والحنابلة: الأفضل في قيام رمضان أن يكون في المسجد جماعة، قال السرخسي الحنفي: ” الجماعة أحب وأفضل، وهو المشهور عن عامة الفقهاء رحمهم الله تعالى” وقال ابن قدامة الحنبلي: ” الجماعة في التراويح أفضل”. أما المالكية والشافعية؛ فقد قالو: الأفضل أن يكون قيام رمضان في البيوت منفردا، جاء في المدونة: “وسألت مالكا عن قيام الرجل في رمضان أمع الناس أحب إليك أم في بيته؟ فقال: إن كان يقوى في بيته فهو أحب إلي، وليس كل الناس يقوى على ذلك، وقد كان ابن هرمز ينصرف فيقوم بأهله، وكان ربيعة وعددٌ غير واحد من علمائهم ينصرف ولا يقوم مع الناس، قال مالكٌ: وأنا أفعل مثل ذلك”. وفي الحاوي في فقه الشافعية، نقل عن إمام المذهب: “وقيام شهر رمضان؛ فصلاة المنفرد أحب إلي منه”.
والذي يستخلص من كلام الفقهاء في جميع المذاهب، أنه إذا اؤتمن خلو المساجد من المصلين؛ فالصلاة في البيوت أفضل، وهذا هو النظر المصلحي الذي أشرت إليه قبل، وهو أن تبقى المساجد عامرة بالمصلين تتعلق بها قلوب المؤمنين ولا تهجر بيوت الله، كما أن كثيرا من الناس لا يحسنون قراءة القرآن ولا ينشطون في أدائها فردا بخلاف الجماعة، ، يقول أبو الوليد الباجي: “وقول عمر والله إني لأراني لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل؛ فبان أن ذلك فيما أدى إليه اجتهاده ورأيه، واستنباطه ذلك من إقرار النبي – صلى الله عليه وسلم – الناس على الصلاة معه في الليلتين، وقيامه ذلك على جمع الناس على إمام واحد في الصلوات المفروضة، ولما في اختلاف الأئمة من اختلاف الكلمة، وأسباب الحقد، ولأن هذا الشرط يجمع الكثير من الناس على الصلاة، وقوله أمثل: يريد أفضل”. أما من خاف على نفسه من الرياء، ويستطيع أن يقوم في بيته؛ لأنه يحسن ترتيل القرآن؛ فالصلاة في البيت أفضل، والذي يهمنا من هذا كله؛ تعبير الفقهاء ب (الأفضل والأحب) سواء عند القائلين في البيت أو في المسجد، ولم يعبر أحدهم بالسنة وما يدخل في معناها، والفرق بينهما كبير جدا، فالسنة في العبادات ما سنه النبي صلى الله عليه وسلم فقط، وما سوى ذلك؛ يدخل في خانة الأفضل والأحب كما يعبر الفقهاء، قال ابن رشد: ” وأن التراويح التي جمع عليها عمر بن الخطاب الناس مرغبٌ فيها، وإن كانوا اختلفوا أيٌ أفضل: أهي أو الصلاة آخر الليل؟ – أعني: التي كانت صلاة رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، لكن الجمهور على أن الصلاة آخر الليل أفضل لقوله – عليه الصلاة والسلام : «أفضل الصلاة صلاتكم في بيوتكم إلا المكتوبة» ولقول عمر فيها: (والتي تنامون عنها أفضل)”.
رابعا: فضل قيام رمضان
فضل قيام رمضان هو غفران الذنوب كما قال عليه الصلاة والسلام: (من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه) والذنوب المقصودة هنا ليست على إطلاقها عند العلماء، يقول النووي: ” المعروف عند الفقهاء أن هذا مختصٌ بغفران الصغائر دون الكبائر”، وسواء كانت هذه الذنوب صغيرة فقط أو كبيرة؛ فالثواب عظيم لا حَرَمَ الله منه أحدا من المؤمنين، وقبل بيان شروط استحقاق هذا الثواب؛ أريد الإشارة هنا إلى مسألة أساسية، وهي: هل هذا الفضل يتحقق فقط بقيام رمضان؟ وأين فضل صيام رمضان وليلة القدر؟
للصيام فضل كبير ذُكر في أحاديث أخرى، ومنه؛ غفران الذنوب، وكذلك ليلة القدر، ففي صحيح البخاري: ” من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه” نلاحظ هنا أن ثواب صيام رمضان، وقيامه، وقيام ليلة القدر؛ هو نفس الثواب بنفس الشروط؛ إيمانا واحتسابا، فهل هذا الفضل لا يحصل إلا بفعل المجموع؟
الذي أميل إليه وأرجحه -والله أعلم- أن هذا الثواب لا يتحقق إلا بفعل المجموع، أي الصيام، والقيام عامة، وليلة القدر خاصة، والدليل على ذلك ما يلي:
– أن الثواب واحد (غفر له ما تقدم من ذنبه)، وبنفس الشروط، وهي الإيمان والاحتساب، وهو عمل لا يتجزأ، فالذي يصوم رمضان ابتغاء وجه الله؛ لا يتكاسل عن قيامه، والذي يقومه لا يمكن أن تفوته ليلة القدر ويغفل عنها.
– أن الذي يقوم رمضان وليلة القدر، لكنه لا يصوم، أي يفطر عمدا ولم يمنعه مانع شرعي؛ فلا أجر له ولا ثواب وإن كان يبيت الليل كله ساجدا راكعا، فثبت من خلال هذا أن الثواب يحصل بفعل المجموع.
– أن حديث (من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه)؛ ورد في بعض رواياته (من صام رمضان..) بدلا من (من قام)، كما حقق ذلك المحدث ابن عبد البر في التمهيد.
– وقد يقال إن من صام رمضان، وقام ليلة القدر، وكان يتقاعس عن قيام ليالي رمضان؛ يحصل على فضل غفران الذنوب، بدليل الحديث النبوي الذي جمع بينهما (من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه)، والجواب عن ذلك من جهتين؛ من جهة أولى: إن قيام رمضان لا يعني بالضرورة قيام جميع لياليه بدون استثناء، فمن تكاسل في العشر الأوائل، ولم يجتهد في العشر التي تلتها؛ يمكن أن يستدرك في العشر الأواخر، وبذلك يكون قد قام رمضان، والأعمال عند الله بالنيات والإتقان لا بالعدد وعدم الإخلاص. ومن جهة ثانية: فإن ليلة القدر ليست معلومة بالتحديد، والرسول صلى الله عليه وسلم طلب منا أن نلتمسها في العشر الأواخر، ومن أراد أن يحصل على فضلها فيجب عليه أن يقوم العشر الأواخر كلها، وبهذا يتبين أن ليلة القدر جزء من قيام رمضان.
وإذن، فمن صام رمضان، وقام لياليه، حصل على فضل غفران ذنوبه إذا حقق شرطين اثنين، وهما:
– الإيمان: أي أنه صام وقام إيمانا بوجوب الصيام ومندوبية القيام، ولا يصوم ويقوم عادة فقط، يفعل ما يفعله الناس ولا يدري لماذا، فيكون الخوف من السلطة الاجتماعية هي التي دفعته إلى الفعل وليس الاقتناع والخوف من الله.
– الاحتساب: وهو أن يحتسب المؤمن أجره عند الله من صيامه وقيامه، لا أن يفعل ذلك نفاقا ورياء، فقد يكون المرء مقتنعا بوجوب الصيام وسنية القيام، ومدركا لمقاصدهما؛ لكنه لا يحتسب أجره عند الله فيخلص في عمله؛ بل يود من وراء ذلك مدح الناس وثناءهم فيحبط عمله.
خامسا: الخلاصة والاستنتاج
قيام رمضان هو الصلاة ليلا من بعد صلاة العشاء إلى صلاة الصبح، فمن صلى ركعات خالصة لوجه الله تعالى، سواء في أول الليل أو آخره، منفردا أو في جماعة؛ فقد قام رمضان، أما تحديد عدد الركعات؛ فقد اختلف في ذلك الصحابة والتابعون ومن بعدهم، وما ذهب إليه كل فريق إنما هو اجتهاد في التطوع فقط، غير ملزم لأحد من جهة، وقيام رمضان لا يتوقف على أداء عدد معين من الركعات من جهة أخرى، والنبي عليه الصلاة والسلام رغب في قيام رمضان بشكل عام من خلال بيان فضله وثوابه، وترك الكيفية والعدد للاجتهاد كل على قدر طاقته.
حكم قيام رمضان سنة مؤكدة، وهي أعلى مرتبة في المندوب؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام حثنا على قيامه ورغبنا في الفوز بثوابه، فمن قامه فله أجر عظيم، ومن تقاعس عنه؛ فقد حرم نفسه من خير كثير ولا يعاقب على ذلك، والجماعة في المسجد ليست شرطا في صحة قيام رمضان، فمن قامه في بيته منفردا، أو جماعة يؤم أسرته؛ فقد قام رمضان الذي رغب فيه المصطفى عليه السلام، وفي نفس الوقت؛ فإن قيام رمضان في المسجد فردا أو جماعة مستثنى من ترغيب الرسول صلى الله عليه وسلم في أداء النوافل في البيوت، والتحق من هذه الجهة بنوافل أخرى مثل صلاة العيدين، وإن كان يختلف عنها من جهات أخرى ليس هنا مقام تفصيل ذلك.
إننا لا نستطيع أن نطلق على اجتهاد عمر رضي الله عنه في جمع الناس على إمام واحد (سنة نبوية)؛ لأن السنة النبوية –في هذا السياق- هي ما واظب عليه صلى الله عليه وسلم ولم يتركه إلا مرة أو مرتين مع قرينة تفيد عدم الوجوب، والناظر في قيام رمضان؛ يجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم واظب على القيام في بيته، ولم يصل في المسجد إلا ثلاث ليال، وفد فرض الصيام في السنة الثانية من الهجرة، وصام عليه السلام تسعة رمضانات، وجميع هذه الشهور الرمضانية لم يصل فيها جماعة إلا ثلاث مرات، لكن في نفس الوقت، وبدون تحيز؛ فإننا لا نستطيع أن نصف قيام رمضان/التراويح في المسجد جماعة ب (البدعة)؛ لأن الصحابة كانوا يصلون في المسجد جماعة وفرادى وأقرهم النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، كما جاء في الحديث (فإذا الناس أوزاعٌ متفرقون، يصلي الرجل لنفسه، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط)، وقد بقيت هذه السنة من عهد الرسول صلى الله عليه وسلم الذي توفي وهم على ذلك، وإذن، فالجماعة في المسجد كانت في زمن رسول الله التي أقرها ولم ينكرها، إلا أن الناس كانوا على الاختيار، فمن شاء أن يأتم بإمام فيصلي في جماعة، ومن شاء صلى منفردا، أما عمر رضي الله عنه، فلم يزد في اجتهاده إلا أن جمعهم على إمام واحد بدلا من جماعات شتى، وقراءات متعددة يشوش بعضها على بعض، ولم يفعل ذلك تشريعا وسنة؛ بل رآى أن ذلك هو الأفضل لما يحققه من مقاصد التوحيد ونبذ الفرقة، وقد أدرك الصحابة حدود هذا الاجتهاد وفحواه، ووافقوه ولم يعترض أحد منهم، وهم أحرص الناس على الالتزام بالسنة والابتعاد عن البدعة، كما أن الفقهاء الكبار من التابعين وغيرهم لم يعتبروا قيام رمضان في المسجد جماعة سنة؛ بل قالوا كما قال عمر؛ إنها الأفضل والأحب، خاصة لمن لا يقوى على ذلك في بيته، ولا يحسن قراءة القرآن الكريم، فضلا عن إعمار بيوت الله والتعلق بها، وإذن، يجانب الصواب من يعتقد أن صلاة التراويح بدعة عمرية، كما يغلو من يرفع ذلك إلى مرتبة السنة التي لا يجوز تركها، وينكر على من يقوم في بيته ويتهمه بالخروج من الجماعة.
إن فضل قيام رمضان مرتبط بتحقيق الفعل الرمضاني كله، وهو الصيام الذي يكون عن اقتناع تام بوجوبه من الله، مع احتساب الأجر عنده سبحانه، وتجنب النفاق والرياء، إلا إن كان الإنسان من بعض أهل الرخص، مثل المرض، فليس كل مريض لا يستطيع الصيام فهو عاجز عن القيام، فحينئذ يكيفه القيام لينال الأجر والثواب.
والذي أنصح به في هذا الحجر الصحي؛ أن يصلي الإنسان في بيته بما يحفظه من كتاب الله، وليس شرطا أن يختم القرآن أو يقرأ بالسور الطوال، إذ تكفيه السور القصار التي يحفظها، ورمضان فرصة ليحفظ سورا أخرى، واقتداء بخير المرسلين على وجه الاستحباب؛ ينبغي أن يحرص المؤمن في هذا الشهر الفضيل على صلاة إحدى عشرة ركعة، وقد سئلت عائشة رضي الله عنها ” كيف كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان؟ فقالت: «ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة، يصلي أربعا، فلا تَسَلْ عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعا، فلا تسل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي ثلاثا “. والله المستعان.
أستاذ مادة التربية الإسلامية
باحث في علوم الشريعة والفكر الإسلامي.
تعليقات الزوار ( 0 )