هنا تنتشر تجارة المخدرات، وتزدهر حرب العصابات، وينتشر العاطلون عن العمل والمهمَّشون، هنا يعاني آلاف الشباب المنحدرون من أصول شمال إفريقية من شتى أنواع التمييز.. مرحبا بك في “Banlieu”، أو الأحياء الهامشية في كبريات المدن الفرنسية، التي تعتبر مركزاً لتجمّع المهاجرين منذ عقود.
أعادت الاحتجاجات المتواصلة على حادث مقتل الفتى نائل، ذي الـ17 ربيعاً، وما تخلّلها من أحداث شغب، قضيةَ الأحياء المهمّشة إلى دائرة الضوء، وعاد الحديث مجدداً عن السياسة الفاشلة للحكومات الفرنسية المتعاقبة في إدماج شبان مولودين في بلد موليير، لكن عقولهم وقلوبهم ظلت متعلقة بأوطانهم الأصلية.
وأسهمت سياسة الدولة الفرنسية، القائمة على التهميش والإقصاء وتجميع الأجانب في مناطق بعينها، في إنتاج جيل حاقد مستلب الهوية، يعتبر فرنسا عدواً أولاً له ويقتنص الفرص للانتقام منها.
وخرج المتظاهرون في أكبر المدن الفرنسية، وهي باريس وليون ومارسيليا، وهو ما دفع وزارة الداخلية لتعبئة 45 ألف عنصر من قوات الشرطة والدرك، بينهم 7 آلاف في باريس وضواحيها المجاورة فقط.
نانتير.. بداية الشرارة
وتُعتبر مدينة نانتير، التي تقع في الضاحية الغربية للعاصمة الفرنسية باريس، ولها بلدية مستقلة عنها، إحدى المدن التي تم تسليط الضوء عليها منذ مقتل الشاب نائل، الذي كان يعمل في توصيل طلبات البيتزا عبر سيارة صفراء.
وتضم هذه المدينة الصغيرة التي تقع في هامش باريس مقرات شركات عالمية، وواحدة من أشهر الجامعات في العالم، كما أن نسبة 25% من السكان، البالغ عددهم 90 ألفاً، هم مهاجرون.
وبعد مقتل الشاب نائل على يد شرطي، كما يُوضح الفيديو الذي تم تصويره خلسة، خرج المئات من سكان مدينة نانتير للاحتجاج على الجريمة، فكانت هذه المظاهرات شرارة اندلاع احتجاجات كبيرة في فرنسا.
وولد الشاب نائل وعاش في أحد الأحياء الصغيرة، وسط مدينة نانتير رفقة جدته ووالدته، التي لم تلد أبناء آخرين غيره، وكانت تعمل طيلة اليوم لتعول أسرتها الصغيرة، حسب وسائل الإعلام الفرنسية.
وغالباً ما تُعطي هذه الأحياء لزائرها انطباعاً بأنه خارج فرنسا، حيث تتجلى فيها كل مظاهر الفقر، وانتشار المخدرات، والعيش غير الكريم، والسرقة، وعدم الأمن، وذلك دون تدخل الشرطة التي تقف متفرجة على الوضع.
وحسب عالِم الاجتماع الفرنسي في بوابة سيبريان أفينيل، cairn.info، المهتمة بنشر منشورات العلوم الإنسانية والاجتماعية باللغة الفرنسية، فإن “وصم الضواحي استخدم للمرة الأولى في القرن الـ12، لتعيين مساحة قانونية حول المدينة، يمارس عليها حق “الحظر”.
وحسب المتحدث فإن الضواحي تشكلت في النصف الأول من القرن الـ19، في وقت التصنيع الأولي، وهي تعني الأحياء خارج الأسوار، تجمَع فيها الأنشطة التي رفضتها المدينة أولاً، وتستقبل السكان المهمشين ثانياً.
ثريا العلوي قالت في مؤلفها “شبكات الكتاب الإسلامي”، الذي سلّطت فيه الضوء على فئات المهاجرين العرب والمسلمين في بعض ضواحي العاصمة باريس، إن هذه الأحياء بالنسبة للمهاجرين نوع من الامتداد لبلدهم الأصلي.
أحياء الهامش في فرنسا.. قنابل موقوتة
كانت أحياء الهامش في فرنسا محط صراع دائم وسط الجمعية الوطنية بين اليساريين واليمينيين، باعتبارها قنابل موقوتة قابلة للانفجار في أي وقت، لأن أغلب سكانها من الطبقة الفقيرة المهمشة.
ويسكن هذه الأحياء الواقعة على أطراف المدن الكبرى طبقة تعتبر نفسها خارج حسابات الدولة الفرنسية، ويحتل المهاجرون نسبة كبيرة من هؤلاء السكان، أغلبهم من دول المغرب العربي، خصوصاً المغرب والجزائر.
ومع تعاقُب الحكومات الفرنسية كانت تُرصد ميزانيات للنهوض بوضعية هذه الأحياء الهامشية في فرنسا، فكان الرئيس الفرنسي الأسبق فرانسوا أولاند قد وضع خطة عاجلة بقيمة 5 مليارات يورو، تستهدف إعادة تأهيل وهيكلة الأحياء.
ورغم أن الحكومات الفرنسية كانت تقول إن الميزانيات التي ترصدها هي لإعادة الاعتبار لهذه الأحياء الهامشية، ذات الكثافة السكانية المهاجرة والمسلمة، فإن الهدف غير المعلن هو تفادي أحداث عنف ومواجهات مع الشرطة، كثيراً ما تنطلق شرارتها الأولى من هذه الأحياء.
ويرغب سكان هؤلاء الأحياء، سواء أكانوا فرنسيين أو أجانب، في تسليط الضوء في كل مرة يحتجون فيها على الأوضاع التي يعيشونها، وليجلبوا أيضاً اهتمام الطبقة السياسية الفرنسية، بعيداً عن فترة الانتخابات التي يُصبحون فيها ورقةً انتخابية في يد السياسيين.
رغم الواقع المزري الذي يعيشه سكان الهامش، فإن مثل هذه الأحياء تُسيل لعاب السياسيين حين اقتراب موعد الانتخابات، ذلك أنها تمثل خزاناً انتخابياً مهماً، كما يُعد سكانها الحلقة الأضعف والأكثر قابلية للتأثر والاستمالة؛ نظراً لوضعهم الاجتماعي الهش.
وحتى إن كان نوع من الوعي بدأ يتشكل في أوساط بعضهم بفضل خيبة أمل التجارب السابقة، فإن معظم سكان هذه المنطقة ما زال يضع أمل التغيير في صناديق الاقتراع.
سان دوني.. أكبر أحياء الهامش
ومع الاحتجاجات التي تشهدها فرنسا منذ مقتل الشاب نائل، خرج المئات من المتظاهرين من هذه الأحياء المهمشة، خصوصاً في باريس، حيث يوجد أكبر تجمع للمهاجرين في حي سان دوني، وأيضاً في مدينة مارساي.
ويُعتبر حي سين سان دوني (Seine-Saint-Denis)، ضواحي العاصمة الفرنسية باريس، أكبر هذه الأحياء الهامشية في فرنسا، ذات الكثافة السكانية المهاجرة والمسلمة.
وفي السنوات الماضية عُرفت سان دوني بكونها خزاناً لعشرات الشباب، تصفهم الدولة بـ”المفتونين بفكر التنظيمات الجهادية، والراغبين في الالتحاق ببؤر التوتر في منطقة الشرق الأوسط، مثل سوريا والعراق واليمن”.
عضو حزب فرنسا الأبية، وأستاذ التعليم الثانوي محسن يوسف، قال لـ”عربي بوست”، إن “أكثر من 60 شاباً من منطقة سان دوني التحقوا بالجماعات الجهادية في سوريا والعراق (تنظيم الدولة الإسلامية في سوريا والعراق)”.
لعل من بين أهم الأحداث التي ارتبطت بسان دوني عملية مداهمة الشرطة لبعض أحيائها؛ بحثاً عن المُخطِّط الرئيسي لأحداث 2015 الإرهابية، التي هزت فرنسا، عبد الحميد أبا عود.
ففجر الأربعاء 18 نوفمبر 2015، نفّذت قوات الأمن الفرنسية مداهمةً واسعةً في ضاحية سان دوني، في محاولةٍ لإلقاء القبض على عبد الحميد أباعود، المشتبه به الرئيسي في التخطيط لاعتداءات باريس.
(عربي بوست)
تعليقات الزوار ( 0 )