كانت محطة القطار شبه خالية، باستثناء بعض حراس الأمن، والجو باردا بالرغم من أن الفصل كان ربيعا. راقبت لدقائق زوجا من الحمام يجولان فوق الرصيف في حالة ترقب، وعندما أشارت عقارب الساعة الى منتصف الليل دخل قطاري مُكسّرا سُكون المكان، فطار الحمام بعيدا . صعدتُ إلى القطار واجتزت الممرّ الطويل الذي كان يفصلني عن مقصورتي، فجلست قبالة المسافر الوحيد في المقصورة. بالرغم من أن وجه الرجل كان مختفيا خلف جريدة يتصفحها إلا أنني استنتجت من شيب شعر رأسه ومن العروق البارزة في يديه، أنه رجل مُسنّ.
ألقيت عليه التحية بصوت منخفض كأنني خشيت إيقاظ أحد ما:
مساء الخير سيدي
أجابني بصوت أجش دون أن يبعد الجريدة عن وجهه:
صباح الخير أيها الفتى.
ابتسمت وصحّحتُ
صباح الخير.
ساد صمت قصير، وقال لي بعد أن أدرك أني أطلت النظر إلى رجليه اللتين كانتا تتحركان دون توقف:
– هذه الحركة غير إرادية تُعرف بمتلازمة تململ الساقين، ووفقا لطبيبي فذلك راجع لنقص مادة الحديد في دمي.
لم أكن أشعر بالنعاس، وأردت أن أتجاذب معه أطراف الحديث فسألته:
إلى أين أنت ذاهب سيدي؟
توقف عن تحريك رجليه واعتدل في جلسته بعد أن أزاح الجريدة كاشفا عن وجهه دون أن ينبس بكلمة واحدة.
تعرّفت عليه للتّو فصرختُ من الدّهشة.
يالها من مفاجأة جميلة! هل أنا في حلم؟ سيدي، أنا من أشدّ المعجبين بك وبرواياتك.
ابتسم وخلع نظارته الطّبية، ثم مد يده لي للسلام:
تشرفت بمعرفتك يا فتى. ما اسمك؟
اسمي موسى سيدي.
موسى اسم جميل وأصيل، وهل أعجبتك رواياتي؟
كثيرا سيدي.
ناديني باسمي؛ إدريس من فضلك.
حاضر سيدي…أنا أيضا أرغب في أن أكون كاتبا…
وما يمنعك يا موسى؟
لا شيء سيدي، أظن. هل من نصائح تسديها لي؟
لتكتب جيدا أم لتكون إنسانا جيدا؟
الصفتان كلتاهما على حد سواء سيدي.
إذا أردت أن تكتب جيداً اقرأ كثيراً، ثم إن القراءة يا بني تبارك في العمر، ولتكون شخصا صالحا فلابد أن تهب أكثر مما تأخذ، وإذا شعرت بسعادة الغير فاعلم أن بمقدورك أن تلمس السعادة.
هل من مزيد سيدي إدريس؟
كن مالكا لوقتك، فالوقت هو العملة الوحيدة التي تعتبر ذات قيمة.
وماذا بعد؟
تصالح مع ماضيك ليهنأ حاضرك. أخرج الطفل الحبيس بداخلك ليمرح من حين لآخر.
وهل أنت سعيد سيدي؟
سأجيبك يا موسى بكلمات “بابلو نيرودا”:
أحببت كل ما يستحق العناء، وبالكاد فقدت ما لم يكن ملكي.
ثم أضاف بعد دقائق صمت:
أدِرْ ظهرك دائما لأمجادك، ولا تتوقف أبدا عند أي معركة سواء فزتَ أو خسرتَ. سافر خفيف المتاع، ولا تغلق كل الأبواب من ورائك.
بعد صمت دام دقائق، وقد غرز خلالها عينيه في أرضية المقصورة، أعدت عليه السؤال مرة أخرى:
إلى أين أنت ذاهب يا سيدي؟
كأنه لم يسمع سؤالي عاد لجريدته، التي كانت مؤرّخة لذلك اليوم؛ فاتح أبريل 2007. وهو يتصفحها لمحت في صفحة الوفيات صورته ونعي وفاته. تسارعت دقات قلبي، ولمّا شعر بارتباكي قال لي، وقد تغيرت نبرات صوته بعد أن ترك الجريدة تسقط من بين يديه:
أما تزال ترغب في معرفة وجهتي؟
بدأت أرتجف وحبّات العرق تتجمد فوق جبيني بالرغم من برودة المكان، فلم أستطع أن أفوه بكلمة واحدة. في تلك اللحظة توقف القطار وانطفأت أنوار المقصورة، فسمعته يقول لي هامسا:
لا تخف يا صديقي وانزل، فلقد أخطأت القطار.
فجأة، غمر النور المكان، فاستيقظت وأنا في المستشفى. كنت محاطًا بأجهزة إلكترونية متصلة بصدري وأحد ذراعي وكان قلبي ما يزال ينبض بقوة.
لم يمض وقت طويل حتى دخلت ممرضة الى الغرفة. ابتسمت وقالت لي وهي تجفف عرق جبيني:
أنت محظوظ، نجوت بأعجوبة؛ لقد أصبت بنوبة قلبية، ولكن اِطمئن! أنت الآن بخير. سيدي، اُعذرني على تطفلي، لكن هل تربطك بالكاتب إدريس الشرايبي علاقة قرابة؟
نفيت ذلك محركا رأسي.
ثم أضافت بعد أن رأت معالم الحيرة مرتسمة على محياي:
عندما كنت غائبا عن وعيك لم تتوقف عن مناداته، وسمعت منذ قليل عبر المذياع أنه توفي هذا الصباح في مستشفى فالنس الفرنسي، فليرقد في سلام!.
انفلتت من عيني دمعة، وكان صوت القطار ما يزال يصدح في أذنيّ.
*أستاذ جامعي في إسبانيا
حبكة سردية رائعة رحم الله كاتبنا الكبير إدريس الشرايبي وجعلكم خيرا خلف له