في إحدى خطبه الشهيرة أمام القادة العرب والمسلمين، في لجنة القدس، أواخر التسعينيات، علق الملك الراحل الحسن الثاني رحمه الله على قرارات رئيس الحكومة الإسرائيلية، وقتها، ، وهو نفسه الحالي، بنيامين نتنياهو، والتي كان مفادها التراجع عن حل الدولتين وضرب اتفاقات أوسلو عرض الحائط، علق عليها الملك الراحل بكون نتنياهو يريد أن يؤسس مدرسة جديدة في القانون الدولي أسماها الملك وقتها بمدرسة “الفجور السياسي”.
ولعل الذين اهتموا بخطاب الملك الراحل حول القضية الفلسطينية وعلى رأسها قضية القدس، يلاحظون أنه كان مبنيا على توابث لم تتغير منذ اعتلائه العرش، وأنه اعتبرها من خلال خطبه وتصريحاته وعلاقاته الدولية سواء مع الزعماء الدوليين أو مع قادة المنطقة، أنها قضيته الأولى ولا يمكنه أن يفرط فيها مهما حدث.
ونحن نشاهد خطب الملك الراحل بخصوص القضية الفلسطينية، والمنتشرة في شبكات التواصل الاجتماعي، ينتابنا شعور قوي من طريقة طرح إشكالاتها واختيار الألفاظ ونظام الجملة وطريقة العرض والإلقاء بنفس حاد وقوي، أنها كانت قضية الحسن الثاني في نفس مستوى قضية الصحراء المغربية.
بل إن مدير القضية بجميع تشعباتها الإقليمية والدولية كان هو الحسن الثاني، وكان رجل توازن في الصراع يحسب له حساب غير عادي، نظرا لقدرته على اختراق اللوبيات الضاغطة في الملف، ونظرا لمقترحاته القوية لحلحلة هذا النزاع التاريخي في شقه المرتبط بالشرعية الدولية وصيانة القدس كعاصمة للديانات السماوية الثلاث. وكان في خطبه أمام القادة العرب والمسلمين يطلب منهم شيئا واحدا، هو إعطاء المعونة للفلسطينيين والابتعاد عن جعل قضيتهم بابا للمساومة والغدر. كما لم يكن الملك يخشى تبعات اتصالاته الخارجية في الموضوع، فقد استقبل شيمون بيريز في إفران سنة 1986 وقبله كان أجرى عدة اتصالات مع قادة إسرائيليين. لم يكن يخشى هذه اللقاءات والاتصالات لأنه كان يحمل صدق القضية وصدق نية حلها بما يرضي الفلسطينيين و الإسرائيليين، حتى أن هناك من قال عند وفاته أن القضية أصبحت يتيمة وفقدت مدبرا ماهرا صادقا وقويا.
ورغم كل الضغوطات في قضية الصحراء المغربية، وكل التهديدات والمخاطر المحدقة بالقضية الوطنية، لم يجعلها الحسن الثاني في ميزان التفاوض من أجل حل لقضية فلسطين. بل إنه كان دائما يقول أننا في صحرائنا يشرب الشاي من يشرب الشاي ويشرب الماء الزلال من يشرب الماء، وسنبقى في أرضنا إلى يوم يبعثون.
كان الملك الراحل يعي جيدا خطورة فتح الباب لدمج ملفات الصحراء وفلسطين، ولم يربط بينهما أبدا في أحلك أيام القضية الوطنية خصوصا في فترة الحديث عن الاستفتاء أو عن التقسيم أو مخطط الحكم الذاتي والاستفتاء في أواخر التسعينيات.
السبب العميق لهذا الارتباط الوثيق بين الملك الراحل والقضية الفلسطينية أكثر من أي قائد عربي أو مسلم، وربما أكثر من بعض الفلسطينيين أنفسهم، هذا الارتباط الذي أثار الكثير من الأسئلة سببه العميق يكمن في مقومات إمارة المؤمنين التي تنبني عليها مشروعية النظام السياسي المغربي ككل.
الحسن الثاني رحمه الله كان مشبعا بالمدرسة التقليدية لتنزيل الدين بشكل معتدل في دعم مشروعية النظام السياسي من خلال مؤسسة إمارة المؤمنين. فالقدس هي أولى القبلتين وثالث الحرمين لأهم ركن في الإسلام ألا وهو الصلاة ولايستقيم الإيمان أو إمارة المؤمنين بدون هذا الركن.
كما أن القدس هي أيضا ملاذ المؤمنين في الديانات السماوية، ولا يمكن أن يستقر الحكم بإسم إمارة المؤمنين إذا لم تتم صيانة المقدسات الإيمانية، التي تعتبر لبنات عضوية وثيقة من إمارة المؤمنين. فلم يكن ابدا ليسمح الملك الراحل بأن تصبح السيادة ثابتة ومعترف بها دوليا وقانونا لإسرائيل على القدس، لأنه حينها ستفعل ما تشاء في قبلة المسلمين الأولى وفي معابد المسيحيين، وعندها لا يمكن لأحد أن يحتج على ذلك.
الملك محمد السادس سار على نهج والده الملك الراحل، واعتبر التزامات الملك الأب في قضية القدس، قيودا تطوق عنقه للتاريخ والأمانة، فلم يفسح المجال أبدا لأي كان بأن يتلاعب بقضية هي في صلبها قضية إمارة المؤمنين.
لكنير بعض المجتهدين في الكسل السياسي في الخارجية المغربية، الذي لم يمارسوا العمل السياسي والنضالي، بدل أن يقفوا وقفة الرجال حرصا على مشاعر المغاربة، باعتبار قضية القدس هي قضية دينية وجدانية إلى جانب كونها قضية إنسانية و سياسية تحارب احتلالا دمويا عنيفا قتل مئات الأطفال والنساء وشرد آلاف العائلات، يختارون الطرق السهلة لحل قضية الصحراء المغربية رغم خطورة المآلات والانعكاسات الداخلية والإقليمية، ويحاولون إبراز مواهبهم لنيل العطف والرضى، بربط أمور غير قابلة للربط التفاوضي، قضية الصحراء الوطنية المغربية، وقضية فلسطين الدينية السياسية الإنسانية.
لذلك يجب التنبيه إلى خطورة الموقف أمام التاريخ وأمام الملك الذي ائتمنهم على القضايا العادلة، وأمام الشعب وأمام القيم التي أرساها الرواد في حل القضيتين.
* باحث في العلوم السياسية
تعليقات الزوار ( 0 )