شارك المقال
  • تم النسخ

قصور اللسان الجامعي المغربي وإنعكاساته على البحث العلمي والسيادة الترابية

تُعبر هذه المقالة عن وجهة نظر نقدية للدراسات الإنجليزية في الجامعات المغربية وعلاقتها بموضوع التحرر والسيادة الترابية وخفوت مساهمتها في الفكر العالمي الذي يسمى بمدرسة ما بعد الاستعمار وحاليا بمدرسة اللاإستعمار أو دراسات نقض الفكر الإستعماري المكتوب باللغة الإنجليزية. سأرمي هنا بإشارات سريعة للتفاكر.

محمد حصحاص

أولا، لا تعني ملاحظاتي هذه أنني أرهن فكري بما تفكر فيه السياسة المغربية والنظام السياسي المغربي. فللسياسة أولوياتها وطرق تدبيرها وللفكر طرق إشتغاله، ولو أنه واجب عليهما معا أن يعرف كلٌ ما يفكر فيه الآخر وما يقوم به، للتفاعل معه وتطويره ونقده، وهذا هو دور الفكر والجامعة عموما. فالفكر الذي يعبر عن أسمى توجهات الإنسان وخصاله العليا يجب أن يسبقَ ويقودَ السياسة التي ترتهن غالبا لرغبات الأفراد والجماعات الضيقة.

ثانيا، خلال دراساتي الابتدائية والثانوية المليئة بدروس في الوطنية والدفاع عن السيادة الوطنية والأرض والعِرض في المغرب، وهو مطلوب كما في كل الدول، لم تكن هناك، ولحد الآن ليس هناك، نظرة بيداغوجية وجغرافية واضحة تقدَم للتلميذ، وهو مُواطن الغد، أو للطالب وهو باحث الغد او موظف الغد، عن المدينتين المحتلتين سبتة ومليلية شمال المغرب، ولا عن الجزر المحتلة على الشواطئ المغربية على البحر المتوسط وعلى الاطلسي، ولا عن موضوع الصحراء لإستكمال أهم جزء من الوحدة الترابية للبلد. أتمنى أن يكون عصر الانترنيت الآن ن قد سهل الامر على قطاع التربية والتكوين، لكنني مع ذلك أشك في أن توضيح هذه الامور أصبح واضحا للتلاميذ في الأقسام والمدارس حاليا، ولدى العامة من المواطنين. ما تزال الدولة تحتكر هذا الموضوع، وما يزال المواطن يدافع عن الوطن وهو لم يسافر في جل أقطاره، وخاصة الأقطار التي تسمى “متنازع عنها دوليا” وهي في حقيقة الأمر أغلبها تحت السيادة المغربية ويسكنها مغاربة الشمال والشرق والغرب، بالإضافة لمغاربة الجنوب الصحراوي طبعا، وهم أهل المنطقة. لم تطَور الدولة سياحة داخلية رخيصة الثمن للمغاربة ليتجولوا في مغربهم، وأكثر ما يعرفون عن مناطق المغرب البعيدة أن لهم أقرباء وأصدقاء يشتغلون بها. كيف يمكن للأدب المغربي مثلا وللسينما والفنون عموما أن تتنوع ويتغذى خيالها إن لم تسافر في جغرافيا أوسع؟ كيف يمكن لذكاء الطفل ومعرفته الجغرافية أن تبدع إن لم تسافر ذهنيا وبدنيا؟ إن التحرزَ في الأعمال الفنية والأدبية والبحثية في التعامل مع موضوع التراب المغربي وثغوره المحتلة يعني أن سقف الحرية ما يزال محدوداً ومحددًا لا يتكلم فيه إلا الطرف السياسي المعني بالأمر أساسا.

ثالثا، لم تُطوِر الدولة كمؤسسة لها بنيتها الخاصة ولها كل الامكانيات المادية برنامجا ذي رؤية خاصة حول الموضوع تُقاسِمه مع المجتمع المدني والاحزاب، بل كانت الهوة دائما حاضرة بين السلطة العليا وباقي مكونات المجتمع والسلطة الدنيا. أتفهم أن الامر حساس جدا، ومرتبط بقوة بالدبلوماسية مع أوروبا الشريك الاقتصادي الأول، ومع الولايات المتحدة، الخ.، مما لا يسمح للمغرب، الذي لا يمتلك ثروات النفط ولا قوة بشرية متعلمة عالية ولا بنية تحتية متقدمة لحد الآن، من لعب الأوراق الدولية حول الموضوع. لكن، يبدو أنه فَطِنَ للأمر خلال العشرين سنة الماضية، وملامح ذلك ظاهرة في تحركاته الدبلوماسية الاخيرة والتي تحاول أن تعطي للسيادة المغربية مكانتها، رغم الصعوبات الجمة على كل الصُعد. فليس سهلا لبلدٍ ليس له جيران  أصدقاءعلى كل الجهات، جيران لا توجد معهم مشاكل سياسية، ولا أتحدث هنا عن الوشائج الأخوية التي تجمع شعوب المغرب العربي الكبير لغة وثقافة ودينا. فالنظام السياسي الجزائري شرق المغرب هو أهم داعم رئيسي لجبهة البوليساريو الإنفصالية في الصحراء، وموريتانيا جنوبا، رغم الصداقة المتينة مع المغرب ما تزال تعترف بجبهة البوليساريو كممثل للشعب الصحراوي ولفكرة إنفصاله، وهي في ذلك تحت التأثير الجزائري. أما إسبانيا، فهي جار إقتصادي هام في الشمال، وخلفه عموما تقف مؤسسات الإتحاد الأوروبي وفكره، لكن الحزازات العميقة بين البلدين باقية ما بقيت سبتة ومليلية وباقي الجزر محتلة منذ حوالي خمسة قرون، بعد حروب إسترداد الأندلس ودخول أوروبا مرحلتى الإستكشافات الجغرافية للعالم وإستعماره، فتم التوغل داخل المغرب كردعٍ إستباقي عبر إستعمار بعض مدن المغرب على طول الشواطئ، والتي تم إسترداد أغلبها مع الزمن. لكن بقاء الإستعمار القديم متمكنا من مدينتي سبتة ومليلية وباقي الجزر هو تكملة للنفوذ الإسباني خصوصا، والاوروبي عموما، في خاصرة المغرب والعالم العربي والعالم الثالث إجمالا، لكي تبقى له مشاكل مستمرة تعرقِلُ تقدمه وتطوره الطبيعي. هل يمكن للمغرب أن يتطور إقتصاديا وبالتالي إجتماعيا وثقافيا بدون جغرافيته وسيادته عليها كاملة؟ لا، طبعا. الأرض هي إمتداد للعقل وتطوره، ولا يمكن للعقل أن يتطور إن لم يكن حرا في أرضه. ولأن هذه المشاكل العالقة لا يمكن حلها في سنة أو سنتين أو عقدين من الزمن، بل يمكن أن يأخذ زمنا طويلا جدا، فالاشتغال على الإنسان المغربي هو الحل. البلدان قوية بما فيها من طاقات بشرية أولا وأخيرا، حتى داخل حيز جغرافي ضيق، ولنا في دول أوروبية وآسيوية صغيرة الحجم خير دليل على ذلك. وطريق الإعتناء بهذا الإنسان واضحة: التعليم والصحة العامين، والعدل الإجتماعي.

ثالثا، وهذه هي النقطة التي تهمني أساسا من هذه الملاحظات. رغم تواجد شُعب الدراسات الانجليزية في الجامعات المغربية منذ أواخر الخمسينات من القرن الماضي، لم تستطع هذه الشعب ولوج عالم الفكر والسياسة والفلسفة باللغة الانجليزية، لأن تكوين أطقمها كما هو معروف  متخصصٌ في الدراسات الادبية واللسانية أساسا – رغم أن الأدب مليء بالسياسة والفكر والمجتمع. ورغم تغير اسم هذه الشعبة من “اللغة الانجليزية وآدابها” الى “الدراسات الانجليزية” خلال الخمسة عشر سنة الماضية فإن المشكل باقٍ. لم أُصادِف كتابات باللغة الانجليزية لحد الآن من قبل باحثين مغاربة بالجامعات المغربية أو خارج المغرب حول موضوع الثغور المغربية المحتلة يبحث الموضوع مستعملاً أدبيات ومفاهيم نابعة من دراسات ما بعد الإستعمار ونقض الإستعمار، مما يعني أن هناك قصورا مؤسساتيا أدى إلى قصور لدى الباحثين من جعل الموضوع موضوعا فكريا عالميا وليس مجرد مسألة وطنية محضة. الاستعمار ودراسات ما بعد الإستعمار ودراسات اللاإستعمار موضوعات بحث في كثير من أرقى الجامعات الامريكية والبريطانية، وبعض الجامعات الألمانية، وأغلب الجامعات المُهمة تُدَرِس، ولو بشكل مستحٍ أحيانا، تاريخ الإستعمار ودراسات نقض الإستعمار. وما ألحظه أن الثغور المحتلة في المغرب لا تدخل ولم تدخل بعد في قالب هذه الدراسات، والقصور أولا من الباحثين المغاربة، والمؤسسات الجامعية المغربية والوزارة المعنية بالبحث العلمي. ولكن المؤسسات الدبلوماسية المغربية والأوروبية أساسا لها مسؤولية في هذا الغياب، لأنها تتحاشى الحديث عن الموضوع، نظرا للعلاقات الدبلوماسية والسياسية والاقتصادية التي تربطها. طبعا هذه العلاقات من الناحية الإنسانية والعلاقات الإستراتيجية لا يمكن التنكر لها والقفز عليها أو التنصل منها، فهي تُعبر عن صداقات، ومصالح. لكن ما أود التركيز عليه هو أن على البحث في المؤسسات المغربية أساسا أن تكون حُرة وأن تدرس هذه الطابوهات السياسية، وإن لم يُعجب ذلك المؤسسات السياسية. فَلكل مؤسسة دورها، ودور الفَكر أن يحرر الإنسان من القيود مهما كانت، ومنها القيود الإستعمارية المستمرة. أما أن نرى فقط في أوج الأزمة الحالية بين المغرب وإسبانيا كتابات صحفية تندد بالموقف الإسباني، والبرلمان الأوروبي، وتدعَم الموقف السيادي المغربي فهذا عمل سياسي أساسا وليس فكريا يستعمل أدوات النقد المتعارف عليها حاليا في دراسات ما بعد الإستعمار لنقد إستمرارية الفكر الإستعماري. هذا النقد ذاته الذي نوجهه للفكر الأوروبي عموما نوجهه أيضا للفكر العربي مثلا، أو الفكر الصيني، كلما كان فيه نبرة إستعلاء وإستعمار للآخر. ما تزال الجامعة المغربية تعاني من قصور كبير في البحث، وعليها تدارك ذلك ما إستطاعت. لا يمكن للمغرب كدولة أن ينعمَ برؤية أوضح وأعمق لما يجري في العالم بدون فكر منفتح على العالم وبلغة العالم. ومجددا، يجب في نفس الوقت على الجامعة أن تبقى مستقلة عن المؤسسات السياسية ليكون بحثها فعلا بحثا مستقلا ومتعولِما وبِحرية. فبدون الحرية لا يمكن أن يصبح فكرٌ ما فكراً يستحق أن يُقرأ عالميا. إن العالم العِلمي الدولي لا يقرأ الكتابات المنبطحة للسياسة ولا يحترم كُتابها، بل يحترم الكتابات التي تنبض حريةً وكرامةً ونقداً وقوة في التحليل والحجاج.

يستحق شمال إفريقيا أن يُكَوِن إتحاداً مغاربياً تنعم شعوبه بالرخاء الاقتصادي وحرية الحركة، ويستحق غرب البحر المتوسط، أن يكون مجرىً للصداقات بين الشعوب. فمشروع بناء قنطرة تمتد لحوالي 13 كيلومترا بين المغرب وإسبانيا حُلمٌ قديم ويمكن إعادة إحياءه من جديد لتجديد الصداقة. وهذه الصداقات تحتاج للنقدِ أولا، لتُقَيِم السياسات في الإتجاه الصحيح. ونفس الشيء يقال لجنوب المغرب وصحرائه. فكلما إسْتَتَب الاستقرار والعدل الإجتماعي في الشمال إلا وإنعكس ذلك على الجنوب بكل أطيافه. ولا أعتقد أن كيانا جديدا ككيان البوليساريو قادراً على أن يُسيرَ دولةً وشعبا، بل كل ما في الأمر هو أنه إرتهنَ منذ عقودٍ لأنظمة لا يهمها سوى هدر زمن تقدم شعوب المنطقة كاملة. لا يمكن لكيان جديد في المنطقة إلا أن يصبح تربة للمرتزقة والمتطرفين، وللدول الإستعمارية التقليدية التي ما يزال يحكم فكرها شعار “فرِق تسُد”، على حساب لاجئي المخيمات ومعاناتهم، والشعوب المظلومة والعالم ثالثية عموما. نعم لتحرر الشعوب، ولكن لكل حالة مقالها، وحالة البوليساريو حالة إستعمار جديد من قوى خارجية وإقليمية، ولا يخدمها إستقلالها التام ولا يخدم جيرانها والمنطقة عموما، لأنها ستكون إستمرارا للوضع الإستعماري القديم. إستقلالها الذاتي ممكن داخل بلد تاريخي عريق ومعروف – أي المملكة المغربية – ومحترم يسير نحو الديمقراطية والعدل الاجتماعي، رغم كل هفواته الكبرى وإنتكاساته في مجال حقوق الإنسان و التعليم والصحة والعدالة الاجتماعية، إنتكاسات يجب أن يصحح مسارها ليسير للأمام بشكل طبيعي.

*باحث مغربي مقيم بروما

شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي