من لحظة الاستشكال إلى لحظة بناء موضوع الدراسة
يندرج المقال التالي ضمن سلسلة المقالات التي نستهدف من خلالها قراءة كتاب الدكتور رشيد جرموني” الدين والاعلام في سوسيولوجيا التحولات الدينية”. وقد ارتأينا أن نخصص للكتاب أربعة مقالات شارحة لمضمونه ومنفتحة على أبعاد الظاهرة الدينية في تطورها وسيرورتها وذلك نظرا لخصوبة الدراسة التي قام بها الباحث والتي تميزت بالجمع بين النظري والميداني كما سبقت الإشارة الى ذلك في مقال سابق.
وقد استهل الباحث كتابه بمدخل نظري أفضى به الى طرح الإشكالية المؤطرة للدراسة، التي تم تأسيسها من خلال مواجهة النظريات السوسيولوجية الكلاسيكية في علم الاجتماع الديني عند دوركايم، ماركس، فيبر… مع واقع التحولات الدينية التي شهدها العالم برمته والعالم العربي على وجه الخصوص. فاذا كانت هذه النظريات تؤكد أن المجتمع كلما تطور واتجه نحو الحداثة كلما تراجع دور الدين في الحياة الاجتماعية واتجه المجتمع نحو العلمنة أو ما يسمى بأفول الدين، فإن هذه النظرية لم تعد صالحة لقراءة التحولات التي شهدها المجتمع المعاصر الذي أصبح فيه الطلب على الدين متزايدا واستعاد هذا الأخير دوره في المجتمعات المعاصرة، عكس ما تنبأت به النظريات الكلاسيكية في علم الاجتماع الديني.
وجدير بالذكر أن المجتمعات العربية قد عاشت التجربة الدينية بشكل مخالف عن المجتمعات الغربية، حيث لم يتراجع دور الدين فيها في وقت من الأوقات. يمكن الحديث عن ارتداء الممارسات الدينية لرداء جديد أو تراجع على مستوى ممارسة الطقوس الدينية، لكن رغم ظل الدين كما أورد الباحث محتفظا بنفس المكانة التي كانت له في البنية الثقافية للمجتمع، ان ما تغير هو طريقة تمثل الأفراد للدين وممارسته مما جعل الباحث يتحدث عن إعادة تعريف الدين المعاصر[i]
ان هذه العودة للديني تجعلنا نسائل هذه النظريات ونقف على محدوديتها فاذا كانت هذه الأخيرة صالحة في وقت ما لقراءة المشهد الديني، فإنها اليوم كفت عن أن تكون نموذجا تفسيريا يلم بتعقد وتركيب الظاهرة الدينية في المجتمعات المعاصرة، ما يحتم البحث عن نماذج وبراديغمات أخرى أكثر راهنية وأكثر فاعلية لتفسير الوضع الديني الحالي. ما يضعنا أمام مفارقة صارخة في سوسيولوجيا الدين التقليدية بين نظرية أفول وتراجع دور الدين وبين عودة الديني في المجتمعات المعاصرة، هذه المفارقة هي الأساس الذي بنيت علية إشكالية هذه الدراسة.
أسئلة الدراسة
انطلاقا من التغيرات التي شهدها الحقل الديني والقيم المرتبطة به وفي ظل ظهور آليات جديدة للتنشئة الدينية تتمثل في الإعلام الديني، أسس الباحث إشكالية هذه الدراسة من خلال الأسئلة التالية:
ما هي أهم عناصر التحول الذي طال المنظومات الدينية في العالم وفي المنطقة العربية الاسلامية؟ وكيف نفهم مظاهر المزج بين حضور الدين وبروز نزوعات نحو العلمنة؟ وكيف يمكن قراءة المشهد الديني بالمنطقة في ضوء المستجدات الجارية؟[ii] وما هو دور الإعلام الديني في بلورة هذا التحول؟ وما هي أهم مؤشراته الدالة؟
وتنم هذه التساؤلات عن عمق سوسيولوجي وعن تشخيص دقيق للمشهد الديني، الذي شمله التغير والتحول سواء على مستوى التمثل أو الاعتقاد أو على مستوى الممارسة والطقوس، وسيعمل الباحث فيما سيأتي على رصد مكامن التحول ومساراته في المنطقة العربية على سبيل الاستهلال، منتهيا بخلاصات واستنتاجات حول التدين بالمنطقة العربية تفتحنا على باقي محاور الكتاب. فإذا كان الدين والتدين لم يسلم من موجة التحولات والتغيرات التي مست المجتمعات المعاصرة، فما موقع المجتمعات العربية، كمجتمعات مسلمة يمثل فيها الدين مرجعية أساسية للفرد والمجتمع، من هذه التحولات؟ وما هي المؤشرات الدالة على هذا التحول؟
مؤشرات التحول الديني ومساراته
قبل التوقف على تجليات التحول على المستوى الديني قام الباحث بجرد لأهم النظريات السوسيولوجية التي حاولت تجاوز نظرية أفول الدين، وعلى رأسها نظرية لوكمان من خلال كتابه “الدين غير المرئي” حيث تقوم فرضيته على أن الدين لن يضمر بشكل نهائي بقدر ما سيقع تحول في وظائفه المجتمعية العامة التقليدية، وسيتحول إلى شأن خاص، ويمكن صياغة نظريته في مقولة ساقها “براين تورنر “تقول: « believing without belonging »، وهذا يعني أن الإنسان المعاصر سيحافظ على معتقداته وايمانه بدون ارتباط بالمؤسسات الدينية وبدون انتماء لها، ولعل ذلك ما يحيلنا على نوع من التدين الجديد. وهو ما يفضي بنا إلى أن نستنتج أن العالم اليوم أمام موجة جديدة من التدين تتميز بتدين فردي شخصاني.[iii]
لم تسلم نظرية لوكمان من الانتقاد بدورها سواء من طرف علماء الاجتماع الغربيين أو في المنطقة العربية، فلم يتم التماهي مع هذا الطرح، لأن طبيعة التحولات الدينية بالمنطقة العربية لا تعني أن هناك توجها نحو العلمنة، بل هي مؤشر على” تكيف مرن للتدين وفق ما يتطلبه العصر، أو وفق مقولة “أسلمة الحداثة” التي نادى بها العديد من المفكرين”[iv] والمهتمين بالشأن الديني.
بعد هذا الجدل المحتدم بين مجموعة من النظريات والبراديغمات التفسيرية، عمد الباحث الى التوقف على أهم التحولات التي عرفها المشهد الديني العربي، وعلى رأسها ما سماه بنزع القداسة على المؤسسات الدينية الرسمية منها وغير الرسمية. وأبرز مؤشر على ذلك هو ظهور “حركية فردانية”، تتجاوز بكثير عقلية الاحتكار والوصاية والاستبداد وعدم القدرة على استشراف المستقبل. كما اتسمت هذه المرحلة بتجاوز ” تيار حركات الاسلام السياسي، أو الاسلاموية، إلى موجة “ما بعد الاسلاموية”، باعتبارها مؤسسات دينية غير رسمية، والتي احتفظت بمهمة الدعوة والتربية والتكوين لعهود، وما زالت”[v]. يستشف إذن أن التدين بدأ يتخذ أشكالا جديدة أكثر تحررا وأكثر فردانية، كما سجلت المرحلة تراجع دور المؤسسات الدينية التقليدية لصالح مؤسسات أخرى ستحتل مركز الصدارة أهمها الإعلام الديني.
وأمام هذا الوضع الجديد سجل الباحث ظهور ما سماه بالمقولات النسبية حيث اتجه الشباب نحو رفض الانغلاق والتقوقع حول الذات ورفض كل المقولات والمفاهيم الدوغمائية، ” وهكذا أضحى الجيل الجديد أكثر انفتاحا في منطلقاته ومفاهيمه وفي لغته وفي خطابه. حيث أصبح يوظف مفاهيم عالمية بنفحة إسلامية، كمفهوم “الجهاد الإلكتروني” و”النسوية الاسلامية” “الإسلام الديمقراطي” “المسلم المعاصر” عوض المفاهيم القديمة التي أطرت حركات الإسلام السياسي التي أصبحت متجاوزة.
ان ما حدث يتعلق بتغير نوعي في المرجعيات الموجهة للحقل الديني، سواء في طرق الاستمداد أو التلقي أو إنتاج وإعادة إنتاج القيم الدينية بتعبير الباحث وهو تحول من المطلق نحو النسبي.
إذا كان العنصرين السابقين يتعلقان بمرجعيات التدين و القيم الدينية، و بالأسس التي ينبني عليها ما يعني أن الأمر يتعلق بتغير في التصورات و المواقف و المرجعيات، هذا الأخير أدى الى تحول من نوع آخر مس الجانب السلوكي حيث اتجهت ممارسات الشباب نحو تأسيس نمط جديد من التدين هو التدين الفردي، وفي محاولة للوقوف على دلالة هذا المفهوم عمد الباحث إلى تعريفه باعتباره تدينا يقوم على إسقاط كل المرجعيات الدينية التي كانت تمثل سلطا دينية في وقت سابق، و المقصود بهذه السلط قنوات التنشئة الدينية التقليدية كالأسرة و المسجد و غيرها…
يتميز هذا التدين بالإضافة إلى اسقاطه المرجعيات التقليدية الرسمية منها وغير الرسمية بكون” المسلم، خصوصاً الشاب، يصبح مرجعاً لنفسه في الاستمداد والتلقي والممارسة والتوجيه والسلوك والتمثل”. [vi]
ومن بين التحولات الكبرى التي عرفها التدين بالمنطقة العربية، بروز نزعة استهلاكية دينية جراء التشبع بقيم براغماتية. “وأهم تجلي لما سبق، سيظهر فيما سيوفره السوق الاقتصادي من إمكانيات هائلة لتسويق المنتجات الثقافية والرمزية بما فيها الدين عبر مدخل الإعلام الديني (…)هكذا سيجري تكييف “العرض الديني مع التوقعات الحقيقية أو المحتملة لجمهور مستهدف بدقة”[vii].
لقد أصبح الخطاب الديني المرافق لهذه النزعة يقوم على التيسير والترخيص عوض التشدد، كما أشار الباحث الى ظهور نوع من التطرف الديني واللاتسامح، يقول في هذا السياق: “بالمقابل، نجد أن هذه الموجة الجديدة التي برزت بشكل قوي مع الإعلام الديني، شكلت فرصة لبروز توجهات راديكالية تميل نحو التعصب والعنف والارهاب، باسم الدين تارة وباسم التعبير عن الذات تارة أخرى، وباسم التفوق الديني في العديد من المناسبات”.[viii]
خلص الباحث في النهاية الى تعقد وتركيب المشهد الديني ونبه الى ضرورة التعامل بحذر مع الإرث السوسيولوجي والنظريات المفسرة للظاهرة الدينية أخذا بعين الاعتبار خصوصية الظاهرة الدينية بالمنطقة العربية، وحدود البراديغمات المفسرة.
بعد هذا المدخل التأطيري للدراسة الذي زاوج فيه الباحث بين الوقوف على أهم النظريات المفسرة للظاهرة الدينية وحدودها وبين الوقوف على أهم مظاهر التحول الديني التي شهدها المجتمع العربي، قام الباحث بعرض مورفولوجية الدراسة التي تتضمن أربعة فصول أساسية خصص الفصل الأول منها لتقديم تصور أولي حول مفهوم الاعلام الديني، جذوره، سياق ظهوره، وتعريفه. وسنتوقف في هذا المقال عند هذا الحد ليكون موضوع المقال اللاحق هو الفصل الأول والثاني من هذا الكتاب.
*باحثة في سوسيولوجيا الأديان
يتبع…
[i][i] رشيد جرموني، الدين والاعلام في سوسيولوجيا التحولات الدينية، مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، 2019، ص11
[ii] رشيد جرموني، مرجع مذكور، ص11
[iii] رشيد جرموني، مرجع مذكور، ص 18
[iv] رشيد جرموني، مرجع مذكور ص21
[v] رشيد جرموني، مرجع مذكور ص24
[vi] رشيد جرموني، مرجع مذكور، ص33
[vii]رشيد جرموني، مرجع مذكور، ص35
[viii] رشيد جرموني، مرجع مذكور، ص36
تعليقات الزوار ( 0 )