البقاء في “منطقة الوسط” هو بمثابة الإقامة في بقعة آمنة بدلاً عن التشبث بأحد المخاطر التي قد تفضي بالإنسان ليعيش في قلق مستمر.
وإن اختيار العقل مكانة “الوسط” في الأمور اللاقطعية، هو قرار صريح وواعي بالإقلاع عن الرفض المنغلق، وترحيباً بإرهاصات التجديد في الفكر والإثراء الفكري والمعرفي بطريقة مستدامة، وكما ورد عن وهب بن منبّه- رحمه الله تعالى-: ف” إنّ لكلّ شيء طرفين ووسطا، فإذا أمسك بأحد الطّرفين مال الآخر، فإذا أمسك بالوسط اعتدل الطّرفان فعليكم بالأوسط من الأشياء”[1].
وفي المجال الفلسفي، نجد أن هناك انقساماً كبيراً خاصةً بين مؤيد متحمس، أو معارض متشبث برأيه، وتلك الحالة شقت طريقها وبقوة سيما في بدايات انفتاح حركة الترجمة المصاحبة للمؤلفات ذات الصلة بالميتافيزيقا وقضاياها، وتبادل الثقافات المتسارع بين الشرق والغرب الذي أيد المنهج العقلي المادي بطريقة ملاحظة، ولكن استمراره لم يكتب إلا للمتخصصين بمجال النقل دون المبالاة بالفلسفة، في ظل الاعتماد على الشريعة باعتبارها كفاية علمية وعملية وافية[2]، وما دونها “بذخ عبثي”، أو لمن هم ذوي مهارة فلسفية بعيداً عن العقيدة وفحواها، وهذا يرتبط بالرأي الأول إذ دفع موقف بعض الفلاسفة من الدين، وتقليلهم من قيمة ووجدانية شعائره، إلى رفض فلسفتهم، إضافةً لما يعتري الكثير من الأطروحات الفلسفية من المضمون الأسطوري والخرافي.
وأما في الوسط الإسلامي، نجد أن نتاج هذا الوجود الفكري ظهر فريق ثالث بينهما يتخذ موقف “الوسط” من خلال الاتجاه نحو الموائمة والتناغم بين كل ما سبق، الأمر الذي ظهر جلياً غفي العديد من الطرح الفكري والفلسفي الإسلامي. وفي تفسير هذا الاتجاه، نرى أن العلماء المسلمين تأثروا بالنهج الشرعي الذي حث على الاعتدال والوسطية في كل شيء، ودعا للمرونة والانفتاح والتعارف في نطاق رزين غير مقيد، وبالتالي فقد أثبت تاريخ العلوم الإسلامية أن التوفيق هو أحد أساليبه المنهجية. وبالتالي فقد اتخذت الفلسفة لدى هذا الفريق معنىً أقرب بما عبر عنه إخوان الصفا، بأن “أولها محبة العلوم و أوسطها معرفة حقائق الموجودات حسب طاقة الانسانية وآخرها القول والعمل بما يوافق العلم” .
إن الفلسفة والدين، ورغم اختلاف مصدر كل منهما إلا أن تساؤلات الأولى قادرت بالضرورة للثانية، سيما أن اختلاف المصادر لم يؤثر على تشابه المقاصد، سيما التي تتمحور حول الإفادة الإنسانية في المجال العلمي والعملي، ففي حين دعا العديد من الفقهاء لبتر كل برعم فلسفي، وإتلاف مؤلفاتهم ونشر الثقافة التي تحذر من الإصغاء لأطروحاتهم، نجد أن من العقلاء من فصل بين ذميم الفلسفة وحسنها، وبين الفلسفة كأسلوب، ونتاج ملموس من الأفكار، فجاء من يضع فيصلاً بين “الأبيض والأسود”. وفيه يقول ابن الخطيب في وصيته :” … فليرو الحديث بعد تجويد الكتاب وأحكامه، وليقرأ المسائل الفقهية على مذهب إمامه، وإياكم و العلوم القديمة والفنون المهجورة الذميمة فأكثرها لا يفيد إلا تشكيكا ورأيا ركيكاً … لا تخلطوا جامكم بجامها إلا ما كان من حساب ومساحة وما يعود بجدوى فلاحة وعلاج يرجع على النفس براحة، وما سوى ذلك فمحجوز وضرم مسجور وممقوت ومهجور”.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] الحافظ ابن كثير إسماعيل بن عمر الدمشقي، البداية والنهاية، الجزء التاسع، فصل أدرك وهب بن منبه عدة من الصحابة، وأسند عن: ابن عباس، وجابر، والنعمان بن بشير.
[2] من مثل: (جد عند ابن حبوس” شاعر الخلافة المهدية”، و أبي حفص الأغماتي، وابن جبير، والفازازي، والكلاعي و ابو حيان الأندلس ي صاحب البحر المحيط، ثم الخليفة المنصور في رسالته التي كتبت عقب نكبة ابن رشد ) .
تعليقات الزوار ( 0 )