في الثاني والعشرين من يونيو 2020، وبناءً على طلب الحكومة الليبية، اعتمد مجلس حقوق الإنسان القرار 43/39، والذي طلب بموجبه من مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان إنشاء بعثة لتقصي الحقائق وإرسالها إلى ليبيا، وهو ما تم في 22 من غشت 2020 حيث أعلنت المفوضية السامية تعيين السيد محمد أوجار من المغرب ووزير العدل سابقا رئيسا للبعثة، إضافة إلى السيدة تريسي روبنسون من جامايكا، والسيد تشالوكا بياني من زامبيا / المملكة المتحدة كأعضاء، وقد كُلّفتْ البعثة بالعمل بشكل مستقل ومحايد، لتحديد الحقائق والظروف المتعلقة بحالة حقوق الإنسان في جميع أنحاء ليبيا، وتوثيق ادعاءات انتهاكات القانون الدولي لحقوق الإنسان وتجاوزات القانون الدولي الإنساني من قبل جميع الأطراف منذ بداية العام 2016، والحفاظ على الأدلة بهدف ضمان محاسبة مقترفي الانتهاكات والتجاوزات، وقد جمعت البعثة مئات الوثائق وأجرتْ مقابلات مع أكثر من 150 شخصًا، فضلًا عن إتمامها تحقيقات في ليبيا وتونس وإيطاليا، وأصدرت مؤخرا في الرابع من أكتوبر 2021 تقريرا يلخص النتائج المتوصل إليها.
في هذا الإطار وقفت اللجنة الأممية على انتهاكات جسيمة لمنظومة القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان، ارتكبتها بشكل متفاوت كل أطراف النزاع المسلح في ليبيا، وهي انتهاكات شملت أعمال القتل العمد الموجه ضد المدنيين، كتلك التي تمت بالطائرات بدون طيار في الثالث من يونيو 2020 جنوب طرابلس وأسفرت عن مقتل ما لا يقل عن 12 شخصا، والتي رجح التحقيق أنها ارتكبت من قبل حكومة الوفاق الوطني وتركيا، أو تلك التي استهدفت بصاروخ مجموعة من الطلاب تجمعوا في باحة الكلية العسكرية في الهضبة في 4 يناير 2020 ما أدى إلى مقتل 25 طالبا، والتي حسب اللجنة رجحت تقارير أن مسؤوليتها تعود إلى الجيش الوطني الليبي.
كما شملت الإنتهاكات أيضا الإستهداف المباشر للمستشفيات والمدارس، حيث رصدت اللجنة تضرر 47 مرفقا صحيا وأعيان صحية بين أبريل 2019 ويونيو 2020 في طرابلس وحدها، هذا فضلا عن استهداف سيارة إسعاف تحمل شارة الهلال الأحمر وقصف مستشفى الخضراء بطرابلس عدد من المرات.
وإضافة إلى هذا رصدت اللجنة الأممية، أن الأعمال العدائية في ليبيا اتسمت بمشاركة المرتزقة، حيث أكدت وجود أدلة تشير إلى مشاركة مواطنين سوريين في عمليات قتالية لدعم حكومة الوفاق الوطني، وقد ذكر المقاتلون السوريون الذين قابلتهم البعثة أنه تم تجنيدهم من قبل رؤسائهم في الجيش السوري الحر، وأن مواطنين أتراك ساهموا بشكل فعال في نشرهم ليبيا، وأن الحافز وراء انتشارهم في ليبيا كان المكسب المالي، كما أكدت اللجنة أيضا أن مجموعة موثوقة من المعلومات أشارت إلى أن أفرادًا مرتبطين بالشركة العسكرية الروسية الخاصة “ChVK Wagner” كانوا موجودين في ليبيا كمرتزقة لدعم الجيش الوطني الليبي.
هذا، وبخصوص الأطفال، أكد التقرير تأثر الأطفال بالأعمال العدائية في ليبيا من كل الأعمار، فقد قُتل الكثير من الأطفال، ودُمّر عدد كبير من المدارس، واضطر بعضهم إلى العيش دون أبويْهم بعد اختطافهم، وغالبًا ما تظل الانتهاكات والإساءات التي يتعرض لها الأطفال في ليبيا خفيّة، وقد توصلت لجنة التحقيق أيضا، إلى أن الأدلة أثبتت أنه اعتبارًا من أواخر العام 2019، سهّلت تركيا تجنيد الأطفال السوريين للقتال إلى جانب حكومة الوفاق الوطني ضد الجيش الوطني الليبي مقابل مبالغ مالية، وتم استخدام هؤلاء المرتزقة الأطفال في وظائف مختلفة، بما في ذلك ضمن الوحدات القتالية، وبعضهم في أدوار مساندة مثل الحراسة، وقد سُجن عدد كبير منهم في حال عصيانهم للأوامر، وأُصيب البعض منهم، وهو ما يمثل انتهاكا للميثاق الإفريقي لحقوق الطفل ورفاهيته، والبروتوكول الاختياري لاتفاقية حقوق الطفل بشأن اشتراك الأطفال في المنازاعات المسلحة.
وبخصوص النساء أشار التقرير إلى تأثر النساء في ليبيا على نحو غير متناسب بالنزاع المستمر وانتشار الميليشيات، وقد شملت الانتهاكات في هذا الخصوص أعمال التهديد والقتل والإختطاف.
هذا، وبشكل عام أشار تحقيق اللجنة إلى ارتكاب انتهاكات جسيمة تشمل قتل المدنيين والقصف غير المميز وقصف المناطق الآهلة بالمدنيين وتدمير الأعيان المدنية، واستخدام وسائل الحرب المحظورة كالألغام المضادة للأفراد والأشراك الخداعية، وأعمال الإختطاف والتعذيب والإذلال والإغتصاب.
وفي هذا السياق فإن مجمل هذه الأعمال تمثل انتهاكات واضحة وجسيمة لاتفاقيات جنيف الأربع والبرتوكولين الملحقين بها، إضافة إلى الإتفاقيات والبرتوكولات المتعلقة بوسائل الحرب وخاصة اتفاقية أوتاوا المتعلقة بالألغام المضادة للأفراد، فمجمل هذه الإنتهاكات التي رصدها تقرير البعثة، هي تجاوزات سافرة لمختلف قواعد وقوانين وأعراف الحرب الراسخة، وهي تمثل جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب بموجب نظام روما الأساسي، فالمادة السابعة من هذا الميثاق تؤكد على أن أعمال القتل العمد والتعذيب والإغتصاب والإختطاف القسري، تشكل جريمة ضد الإنسانية متى ارتكب في إطار هجوم واسع النطاق أو منهجي موجه ضد أية مجموعة من السكان المدنيين وعن علم بالهجوم.
كما أن المادة الثامنة من ذات الميثاق تؤكد بوضوح على أن الانتهاكات الجسيمة لاتفاقيات جنيف لعام 1949 والتي تشمل خصوصا أعمال القتل العمد والتعذيب والمعاملة اللاإنسانية، وإلحاق تدمير واسع النطاق بالممتلكات والاستيلاء عليها دون أن تكون هناك ضرورة عسكرية تبرر ذلك وبالمخالفة للقانون وبطريقة عابثة، ومختلف الإنتهاكات الأخرى للقوانين والأعراف السارية على النزاعات المسلحة، تشكل متى ارتكبت في إطار خطة أو سياسة عامة أو في إطار عملية ارتكاب واسعة النطاق لهذه الجرائم، جريمة حرب.
وفي هذا الإطار فإنه بالنظر إلى انهيار النظام القضائي الوطني في ليبيا، وعدم قدرته على ترتيب المسؤوليات ومتابعة مرتكبي الإنتهاكات لعدد من الإعتبارات، يبقى أبرزها الانقسامات بين الأجهزة الحكومية والأمنية في الغرب والشرق، والفراغ الأمني في الجنوب، ووجود الجماعات الإجرامية في جميع أنحاء البلاد، وقدرة الحكومة المحدودة على العمل خارج غرب ليبيا، وحضور الحسابات السياسية، فإنه لا يبقى من سبيل لإحقاق الحق ومحاسبة مجرمي الحرب في ليبيا غير سبيل المحكمة الجنائية الدولية، وهو سبيل تعترضه عدد من العوائق أبرزها عدم مصادقة ليبيا على نظام روما وحسابات الفاعلين الدوليين الكبار في النزاع الليبي عند محاولة تحريك المتابعة من خلال مجلس الأمن.
هذا، ومما تجدر الإشارة إليه في هذا السياق، هو أن العدالة الجنائية الدولية هي عدالة انتقائية، وتطبق بازدواجية معايير مقيتة من طرق القوى الكبرى التي تسخرها لأغراض سياسية، وليس لخدمة العدالة ومكافحة الإفلات من العقاب، فالقانون الجنائي الدولي لا يطبق على جرائم الحرب والجرائم ضد الانسانية الفظيعة وجرائم العدوان التي قامت بها مثلا الولايات المتحدة الأمريكية في عدد من الدول يأتي على رأسها العراق وأفغانستان، كما لا يطبق على الجرائم التي يقوم بها الكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة، كما لا يطبق على الجرائم والإنتهاكات التي تقوم بها فرنسا في منطقة الساحل الإفريقي وما إلى ذلك من الأمثلة.
وإن ازدواجية المعايير هذه التي تتأكد مرة بعد أخرى في عدد من المواطن على الأرض، هي من أكثر ما يؤكد على مدى إفلاس النظام الدولي الحالي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، ومدى هشاشته وعدم أصلحيته للإستمرار، فقد فشل فشلا ذريعا في تحقيق السلم والأمن، وفي حماية الإنسان وحقوقه سواء من إضطهاد الحكومات أو ويلات الحروب، كما فشل في فرض احترام القانون الدولي على الجميع دون انتقائية.
باحث في مختبر الدراسات السياسية والقانون العام، كلية الحقوق بفاس.
تعليقات الزوار ( 0 )