مهما يكن الأمر، القصة التي قدمها أمزيان في روايته الرائعة “أوراق الخزامى” تدور أحداثها وتفاصيلها، إلى جانب ما ذكرناه في الحلقتين السابقيتين، بين عالمين متباعدين ومختلفين، حضاريا وثقافيا ولغويا ودينيا، ولكنهما عالمان متشابهان اجتماعيا وجغرافيا ومناخيا؛ عالمان يلتقيان في خصائص وقيم اجتماعية مشتركة. نعتقد أن لهذا الأمر علاقة بالتاريخ والثقافة من جهة، وبالجغرافيا والمناخ من جهة أخرى، خاصة إذا عرفنا أن “أجداد” الروبيو كانوا ذات يوم من أيام الزمن الغابر هناك في الجنوب الإسباني (الأندلس)، حيث أقاموا هناك لقرون طويلة وأسسوا بها حضارة مزدهرة كما تشهد بذلك مختلف الكتب التاريخية. الجنوب الإسباني الذي اختاره الروبيو للهجرة والاستقرار والعشق كان لقرون “منطقة أمازيغية” بمعنى من المعاني، استقروا بها بعد عزوها واستعمارها خلال فترة ما يسمى بالفتوحات الإسلامية. لكن العقل العربي الطاغي استولى على ذلك التاريخ ونسبه تعسفا لنفسه، وهذه واحدة من الأكاذيب الكبرى في التاريخ العربي الإسلامي.
الحقيقة هي أن الجنوب الإسباني – الأندلس “فتحها” الأمازيغ وليس العرب، كما هو شائع ومتداول. طارق بن زياد “فاتح” الأندلس، كان أمازيغيا ريفيا وجنوده لم يكونوا من يثرب ولا حلب أو دمشق، وإنما كانوا من أهل المغرب أصلا. ربما قد يبدو كلامي هذا، عند البعض، قاسيا وغارقا في شوفينية؛ ليكن ذلك، لكن دعوني أدعوكم لقراءة كتاب “البربر في الأندلس” للدكتور محمد حقي. إذا استحضرنا هذه العوامل جميعا قد نتفهم جيدا أسباب ودواعي هجرة الروبيو نحو الأندلس، وكيف لا نفهم هذا الأمر ومسألة مرور أجداه حاضرة في تفكيره (ص. 58)، لكن ما لم نفهمه هو نزوحه نحو الجنوب المغربي، ما علاقته بهذا الجنوب؟ وهل كان الروبيو يدرك أن الحضارة والهوية الريفيتين دمرتا ذات يوم على يد هذا الجنوب؟ أسئلة بلا أجوبة.
قلنا قبل لحظات إن الروبيو هو عبارة عن عالمين: الأول هو عالم الريف وواقعه الغارق في التخلف الحضاري، بالإضافة إلى الاستبداد السياسي وقساوة الطبيعة، هذا الواقع البئيس دفع بالريفيين للتجنيد في الجيش وخوضهم الحرب إلى جانب عدو الأمس “الحاج فرانكو”؛ حرب شرسة وانتقامية كما يصفها الروبيو لعشيقته ماريا. ومن أبشع صورها حسب الروبيو أن الريفيين كانوا يفضلون قطع خصي الرجال و”إبّيشين” (أثداء النساء) بدل قطع الرؤوس (ص. 38). الجنرال فرانكو الذي أشبع القتل في الريفيين قبل سنوات فقط من اندلاع الحرب الأهلية الإسبانية، صار يحتمي بهم الآن ليكسب حربه الداخلية. قانون ومنطق الحياة عجيب وغريب.
أما العالم الثاني فهو عالم الأندلس، وتحديدا هو عالم ألميريا المهمشة والمنسية بسبب موقفها من الحرب الأهلية ومقاومتها الشرسة لفرانكو. وعندما تسلم هذا الأخير السلطة انتقم منها شر انتقام حيث ارتكب فيها جرائم إنسانية فظيعة وبشعة، وفق ما حكاه الكاتب على لسان ماريا خيسوس وأحد البحارة (ص. 60-61)، ما حدث مع ألميريا والأندلس عامة، سيحدث بالريف تماما بعد انتفاضة الكرامة سنتتي 58-59. فإلى جانب اللجوء إلى كل أنواع العنف الهمجي ضد الأهالي، من أطلاق النار عشوائيا إلى الذبح والتجويع والحبس والنفي والاغتصاب، عمد أوفقير إلى قطع رؤوس بريئة (راجع كتاب محمد لخواجة الأخير، ص. 330).
بعد هذه الجرائم التي لم تشف غليل أهل القرار بالرباط والنواحي، سيدخل الريف في مرحلة أخرى من الحصار والانتقام والتهجير الممنهج لأبنائه نحو أوروبا. ماريا الجميلة والمتحررة عشقت بيا الحسيمة إلى حد الجنون “ربما” أكثر مما عشقت لزوجها الأول أنطونيو وحبيبها الثاني الروبيو. فهي شاهدة على ميلادها العسير. بيا الحسيمة “ربما” هي المدينة الوحيدة بالوطن التي يكبرها تاريخها بمسافات ضوئية. عندما يتراءى إلى مسامعك اسم بيا الحسيمة، تتراءى إلى مسامعك بنادق الحرية والكرامة، وزغاريد النساء الريفيات وهن يصدعن بالمقاومة والحرية. ففي لحظات الهروب والصراخ المدوي في كل مكان حيث هدير الطائرات الحربية وقذائف المدافع والبوارج الحربية لا تكاد تتوقف، أطلقت المرأة الريفية عنان حنجرتها وغنت للثورة والحرية، وغنت للأرض والشهداء، وغنت لمولاي موحند وأقشيش ومحمد سلام أمزيان ولكل أحرار الوطن الذين لم ينحنوا للاستعمار ولم يرضوا بالذل والعار. ماريا خيسوس منحدرة من بلباو من بلاد الباسك وعشقت بيا الحسيمة والروبيو وقبله أنطونيو، الرجل الرزين والمثقف. أنطونيو هذا التقته ماريا ببيا الحسيمة حيث كانت تشتغل ممرضة، بينما كان أنطونيو عنصرا في الجيش الإسباني، وذات مرة وقع بين يديها جريحا، فساعدته ماريا وبعدها تاهت في عشقه إلى حد الجنون. تزوجها فورا وأقاما معا ببيا الحسيمة. بعد انتهاء حرب الريف بدأ أنطونيو بحثه في التراث الريفي، لكن للأسف آلة الحرب كان لها رأي آخر حيث سيتم قتله قرب مدريد أثناء الحرب الأهلية الإسبانية قبل أن ينشر أبحاثه عن الريف. عشق ماريا لبيا الحسيمة هو ما قادها إلى عشق الروبيو، هذا ما اعترفت به للروبيو حيث قالت له: “علي أن أعترف لك بشيء أوصدت عليه في صدري منذ أن أصبحت لك أو أصبحت لي لا فرق، أحببتك قبل أن أراك في الحانة، كانت حكايات نساء ألميريا عنك كافية لتنفجر براكين اللهفة في قلبي” (ص. 54).
هذه هي قصة الروبيو في خطوطها العريضة، قصة شيقة وممتعة جدا. “أوراق الخزامى” وثيقة تاريخية فريدة في الكتابات الروائية المغربية، شخصيا لم يسبق لي أن قرأت عملا أدبيا أكثر من مرة سواء كان رواية أو جنسا أدبيا آخر (شعر، مسرحية) ولكن مع رواية “أوراق الخزامى” كسرت القاعدة، حيث قرأتها ثلاث مرات، مرتين متتابعتين، ومرة أخرى بعد مرور أسبوع على القراءتين السابقتين. ولكل قراءة متعتها وفائدتها. رواية أمزيان متوسطة الحجم، كما قلت لكم في الحلقة الأولى، وبسيطة أيضا في لغتها، وهذه واحدة من عناصر قوتها. في غمرة الانغماس في العمل السري عاد الروبيو وعثر على نفسه، عاد إلى اسمه الحقيقي “قدور أولاد حدو”، حيث ودع الروبيو التائه في متاهات الحياة التي لا تنتهي. فماذا يعني هذا الأمر؟ هل يعني مثلا أن الروبيو تصالح مع واقعه ومجتمعه؟ وهل يعني أنه استوعب أخيرا أن مجتمعه هو ضحية الجهل والاستعمار والتخلف؟
وأخيرا أقول للصديق والأستاذ محمد أمزيان شكرا مرتين: الأولى على تقديمه لنا لهذا العمل الأدبي الرائع وثانيا على تحفيزه لي شخصيا للبحث في شخصية الربيو الحقيقية، فمن يدري فربما سأعود يوما للحديث عن هذه الشخصية الفريدة.
*تيلبورخ، هولندا
تعليقات الزوار ( 0 )