سيتفجر النقاش العلمي، إذن، بكلية الآداب والعلوم الإنسانية، بجامعة محمد الخامس، على أرضية الإبستمولوجيا، من أجل البحث عن صياغة خطاب فلسفي على قواعد علمية(إبستمولوجية) صارمة، تستلهم النزعة العلمية كما تطورت في متن الفلاسفة الفرنسيين، كونت وباشلار، وكذا عند بياجيه، تحديدا. وأتصور أن كتاب الجابري: مدخل إلى فلسفة العلوم، بقدر ما كان محفزا للأساتذة الباحثين بالكلية، وبقسم الفلسفة على الخصوص، بقدر ما كان مستفزا، ومغذيا لنزعة تحدي، عند أساتذة آخرين. وفي هذا السياق، كتب الأستاذ وقيدي دراسته عن (إبستمولوجيا العلوم الفيزيائية) وعن النظرية النسبية تحديدا، ثم ألقى محاضرته المعلومة، وأصدر سنة 1983، كتاب: ما هي الإبستمولوجيا؟
كان يخيم على الأستاذ وقيدي، بنظرنا، وهو يجيب عن سؤال: ما هي الإبستمولوجيا؟ كتاب الجابري: مدخل إلى فلسفة العلوم. بل كان الأستاذ الوقيدي مسكونا بتوجيه البحث الإبستمولوجي في غير الوجهة التي رسمها له الجابري في كتابه؛ أي تخليص مباحث الإبستمولوجيا في العلوم الاجتماعية والإنسانية والبحث الفلسفي من مباحث إبستمولوجيا العلوم الطبيعية، خصوصا الرياضيات والفيزياء، مما برز في كتاب الجابري سالف الذكر. ومن ثمة تحويل البحث الفلسفي من تأملات فلسفة العلوم إلى دقة الإبستمولوجيا (الوضعية بالطبع). ويعترف الأستاذ وقيدي أن الإجابة عن السؤال: ما هي الإبستمولوجيا؟ أمر معقد وصعب. وعليه، كان هدفه من الكتاب وضع قاعدة، أو برنامج عمل، من خلال تقديم تعريف عام لفلسفة العلوم ذي وظيفة إجرائية، يساعد على مناقشة المواقف الإبستمولوجية المختلفة، والمهام التي أنجزتها فلسفة العلوم، والمهام الجديدة التي ينبغي أن تنجزها الإبستمولوجيا، وكذا الشروط التي يمكن أن تنجز فيها تلك المهام. فالأستاذ وقيدي يريد أن ينتقل بالبحث من ضيق فلسفة العلوم، كما ترسخت مع الأستاذ الجابري، إلى سعة الإبستمولوجيا، كما تم تثبيت مفاهيمها مع باشلار، بقراءة ألتوسير. وقد صدر حينها للأستاذ وقيدي كتاب: (فلسفة المعرفة عند باشلار، دار الطليعة/1980)، وكان يحيل عليه كثيرا، ويعتبر نتائجه العلمية متكاملة مع طموحاته البحثية في كتاب: ماهي الإبستمولوجيا؟ وبرغم حضور خيال كتاب الجابري في كتاب الأستاذ وقيدي، فهو لم يشر له على طول كتاب: ما هي الإبستمولوجيا؟(227 صفحة)! على غير عادة الأستاذ وقيدي، كما ذكرنا سلفا، من أنه منفتح على المشاريع الفكرية لزملائه الأساتذة الباحثين بكلية الآداب، كما أنه حاور الجابري واشتبك معه فكريا في كتبه اللاحقة. وكتاب الجابري يقع في قرابة خمس مائة صفحة! برغم ذلك لم يخرج الأستاذ وقيدي في كتابه عن الإطار المنهجي الذي رسمه الجابري في كتابه، لأنهما في الحقيقة بطرق مثلا بكرا في درسنا الأكاديمي الجامعي، ثم إنهما يتكئان على نفس الخلفيات المعرفية والمنهجية لما يسمى حينها ب (العقلانية المعاصرة)
أو (الفكر العلمي المعاصر). وهذا المتكأ هو إبستمولوجيا باشلار، والنموذج المعرفي التكويني الذي صاغه جان بياجيه، وإشكالات الفكر الفلسفي الفرنسي بعامة. ومع ذلك سعى الأستاذ وقيدي إلى إحداث اختراقات بحثية من أجل رسم طريق مخالف للبحث الإبستمولوجي في الجامعة؛ لذلك سعى إلى فصل مهام الإبستمولوجيا عن مهام فلسفة العلوم، كما حدد الفوارق بين الفلسفة ونظرية المعرفة، وقدم مقترحات في حدود المعرفة العلمية في ارتباط بالبحث الإبستمولوجي. واعتبر أن البحث في نظرية المعرفة ينبغي أن ينتهي إلى البحث الإبستمولوجي. والبحث الإبستمولوجي هو متابعة أثر المعرفة العلمية في بنية الفكر. إنها نوع من التحليل النفسي للمعرفة الموضوعية، من منظور باشلار، تحليل موضوعه لاشعور الباحث العلمي، وهدفه اكتشاف جملة العوائق التي تعوق عملية المعرفة، أو مايسميه باشلار ب: (العوائق الإبستمولوجية). كما يعمل البحث الإبستمولوجي على اكتشاف (القيم الإبستمولوجية)، وبيان دلالة الاكتشافات العلمية من الناحية الثقافية العلمية، وكذا من الناحية النفسية. وتجاوز العوائق الإبستمولوجية يقتضي اكتشاف العوائق الأيديولوجية، وهي بالمناسبة عوائق لم يتحدث عنها باشلار، ويعتبر الأستاذ وقيدي نفسه مبدعا لها في البحث الإبستمولوجي، خصوصا في العلوم الاجتماعية والإنسانية، وهو الأمر الذي سيخصص له الأستاذ وقيدي كتابا بعنوان: العلوم الإنسانية والأيديولوجيا(دار الطليعة، بيروت1983)، مما سنأتي على ذكره لاحقا. وبحكم رغبة الأستاذ وقيدي في توجيه البحث الإبستمولوجي إلى العلوم الاجتماعية والإنسانية، وكذا تخليص البحث الفلسفي من قبضة فلسفة العلوم، مستثمرا متن ألتوسير في قراءة باشلار، والفلسفة الوضعية بعامة، مع انفتاح على المتن النقدي لإمانويل كانط( 1724-1804)، فقد بحث في علاقة الخطاب الفلسفي بالخطاب العلمي، حيث توسعت الهوة بين الخطابين بتوالي الثورات العلمية، وخاصة الثورة العلمية المعاصرة. لذلك بحث في ما سماه ب: (الفلسفة التلقائية للعلماء)، استلهاما من نص ألتوسير؛ أي بحث وضعية العلماء داخل الفهم الفلسفي للنتائج العلمية، سلبا أو إيجابا، وحوارا وجدلا، في إطار الفلسفة الضمنية التلقائية للعلم، والتي نكتشفها، أو بالأحرى يكتشفها البحث الإبستمولوجي، من خلال تتبعه الاكتشافات العلمية، ومن خلال ملاحظة تطور المنهج العلمي. من هنا نكتشف التأويلات الفلسفية (غير العلمية) للنتائج العلمية، وهنا تتأسس التحيزات غير العلمية وسط حركية البحث العلمي، فتنشأ التأويلات الفلسفية للعلم غير المتطابقة مع النتائج العلمية، بل تذهب بها في اتجاه غير صحيح. ويعرف ألتوسير الفلسفة التلقائية للعلماء بأنها فلسفة لاتتمثل في النظرة التي يكونها العلماء عن العالم، أي تصورهم للعالم، بل هي ما لديهم من أفكار، واعية بذاتها أو غير واعية، عن ممارستهم العلمية وعن العلم.(اعتمد الأستاذ وقيدي على كتاب ألتوسير:
Philosophie et philosophie spontanné des savants, Maspero1967).
فالتوسير كان مسكونا بتجاوز الفلسفات التقليدية التي تستغل النتائج العلمية وتحولها لخدمة أنساقها الفلسفية الجاهزة. وبرغم المجهود البحثي الذي يمكن أن تقوم به الإبستمولوجيا، ستبقى الفلسفة التلقائية للعلماء متصفة بالتناقض، بسبب من الاصطدام بين العناصر التي تصدر عن الممارسة العلمية، أي العناصر الداخلية، وبين العناصر الآتية من خارج هذه الممارسة! وهي القيم التي يحملها العالم معه إلى الممارسة العلمية. هذه القيم ليست، بنظر الأستاذ وقيدي واستلهاما للخط الفكري لألتوسير في قراءة باشلار، إلا قيما أيديولوجية! وهو ارتهان، بنظرنا، لنزعة وضعية هي ذاتها أيديولوجية وغير علمية، سيتم تجاوزها من خلال التطورات التي سيعرفها البحث الإبستمولوجي في الجامعة المغربية، من خلال أعمال أساتذة باحثين في الكلية، مغاربة وعربا، خصوصا ماكان يقدمه علي سامي النشار في تاريخ الفلسفة، وكذا أطروحة محمد عزيز الحبابي، وماسيقدمه طه عبد الرحمن في مشروعه العلمي برمته.
لقد سعى الأستاذ وقيدي إلى تخليص البحث الإبستمولوجي من مباحث إبستمولوجيا العلوم الطبيعية وكذا من مباحث فلسفة العلوم مما يراه (قيما أيديولوجية) محرفة لمسار البحث العلمي، ومستغلة لنتائجه. ويعود له الفضل الكبير في تعميق البحث العلمي في هكذا مواضيع التي ظهرت بشكل عابر في خضم إنتاجات الجيل الأول، ولم تخرج بعد حينها على شكل مؤلفات ممحضة للموضوع، كما نجد عند العروي والجابري وطه عبد الرحمن. لقد ألهم متن ألتوسير الأستاذ وقيدي لإغناء أطروحة باشلار، الشيء الذي لم يتوفر لأطروحة الجابري في كتابه: مدخل إلى فلسفة العلوم، لأسباب كثيرة. لذلك بحث الأستاذ وقيدي برشاقة إبستمولوجية، وبأسلوب سلس قضايا الفكر الفلسفي والروح العلمية، كما انتقد، بشكل غير مباشر، فلسفة العلوم كما قدمها الجابري في كتابه، من دون الإشارة إليه بالطبع! كما انتقد مفهوم العقلانية المعاصرة عند الجابري، بل اعتبرها عقلانية (ميتافيزيقية)! وقاد هذا النقد الأستاذ وقيدي إلى البحث في نظرية المعرفة وفي علاقتها بالإبستمولوجيا، وقدم عرضا تاريخيا لنظرية المعرفة عند أفلاطون، وعند ديكارت من خلال عرض شيق لمشروعه المعرفي، هذا المشروع الذي فتحه على البحث في قواعد المنهج في العلوم، واشتبك مع الميتافيزيقا على أرضية المنهج. واعتبر سؤال المنهج سؤالا علميا وليس سؤالا ميتافيزيقيا عند ديكارت. وبغض النظر عن نجاحات المشروع المعرفي لديكارت أو إخفاقاته، أمام الثورات العلمية المتلاحقة، فقد أقر الأستاذ وقيدي بالقيمة الموضوعية للإبستمولوجيا الديكارتية. وكانت رافدا من روافد درسه الجامعي الذي كان يقدمه في مادة الإبستمولوجيا، وهذا في حد ذاته مكسب للدرس الجامعي وسبق مقدر للأستاذ وقيدي.
*أستاذ بجامعة ابن زهر/ أكادير
تعليقات الزوار ( 0 )