شارك المقال
  • تم النسخ

في فُقدان بوْصلة الاقتباس القضائي -حين تُقرر المحكمة الدستورية استعادة زمن دستور 1996-

شرعت المحكمة الدستورية، منذ مدة، في إصدار قرارات تتعلق باستقالات أعضاء مجلسي البرلمان، والتي يمكن أن نصنفها إلى خانتين:

الأولى، تهم المستشارين الراغبين في الترشح لانتخابات أعضاء مجلس النواب، والذين يحول بينهم وبين أهلية الترشح، عضويتهم بمجلس المستشارين؛الثانية، تهم أعضاء مجلس النواب أو مجلس المستشارين، حسب الحالة، الذين غيروا انتماءاتهم السياسية التي انتخبوا باسمها.

لنقف في هذا المقام عند الحالة الثانية، لنطرح السؤال الآتي، هل الترشح لانتخابات جديدة بانتماء حزبي جديد، قياسا بالانتماء الذي اكتسبت به، سابقا، العضوية في أحد مجلسي البرلمان، يقتضي تقديم استقالة من المجلس المعني؟ المجلس الدستوري سيجيب بالرفض وبعبارات واضحة لا لُبس فيها، إذ جاء في حيثية إحدى قراراته “وحيث إن تقديم طلبات الاستقالة المذكورة لا موجب له، من الوجهة القانونية الصرفة، فيما يخص أحقية النواب الراغبين في الترشح لانتخابات أعضاء هذا المجلس بغير الانتماء السياسي الذي كانوا عليه خلال الولاية التشريعية المنتهية، إذا ما أثبتوا تقديم استقالاتهم من الأحزاب التي كانوا ينتمون إليها” (قرار رقم 16/1016 بتاريخ 15 سبتمبر 2016).

هذا الموقف الذي عبر عنه المجلس الدستوري، تم خلال نفاذ أحكام الدستور الساري، وصدر في التوقيت ذاته لصدور قرارات المحكمة الدستورية المعنية؛ أي عشية انتخابات أعضاء مجلس النواب.

لكن المحكمة الدستورية، عوض أن تتفاعل مع هذا الاجتهاد، سلبا أو إيجابا، لوحدة الموضوع المُعالج، ولعدم تغير ظروف القانون أو الواقع، على حَد علمنا، ستُقرر العودة بالاجتهاد القضائي الدستوري المغربي إلى زمن دستور 1996، ولتاريخ يفصلنا عنه قرابة خمسة عشر سنة، لكي تقْتبس منه (أي الاجتهاد القضائي) هذه الحيثية “وحيث إنه، لئن كان يتعين تبعا لذلك التصريح بشغور المقعد على إثر الاستقالة بغض النظر عن السبب الباعث لها، وذلك طبقا لأحكام الفقرة الأولى من المادة 84 من القانون التنظيمي رقم 97-31…فإنه لا يسع المجلس الدستوري الذي من مهامه المساهمة في ضبط السير العادي للمؤسسات وفق ما ينص عليه الدستور، إلا أن يُذكر بأن الاستقالات التي هي بطبيعتها من الأعمال الاستثنائية في الحياة النيابية، يجب أن تبقى في حدود معينة حتى لا تصبح ظاهرة مُخلة بسير المؤسسات الدستـورية وبمردوديتها، وأن النيابة التي تستمد من الأمة وفقا لأحكام الفصل 36 من الدستور تعد وظيفة وأمانة ، الغاية منها المشاركة في التعبير عن الإرادة العامة في إطار الدستور” (القرارات ذات الأرقام 618 و619 و620 و621 و622 و623 و625 و627 بتاريخ 2 و23 أغسطس 2006).

الحيثية المذكورة، ستُصبح في قرارات المحكمة الدستورية المعنية، كالآتي “وحيث إن الاستقالة من عضوية أحد مجلسي البرلمان، بصرف النظر عن بواعث هذه الأخيرة أو توقيتها أو سياقها، تظل، بطبيعتها من الحالات الاستثنائية في الحياة النيابية، لكون أعضاء البرلمان يستمدون نيابتهم من الأمة، طبقا لأحكام الفقرة الأولى من الفصل 60 من الدستور، وضمانا لحسن سير المؤسسة التشريعية” (القرارات ذات الأرقام 127 و128 و129 و130 و131 و132 و135 و136 بتاريخ 27 و28 و29 يوليو و24 أغسطس 2021).

فالاستقالة التي كانت في قرار المجلس الدستوري “عملا”، أصبحت “حالة”!!!، و”استمرار سير المؤسسات الدستورية”، تحول إلى “حسن سير المؤسسة التشريعية”، ولا ندري ما الاستمرارية المقصودة، ونحن بصدد “ولاية تشريعية منتهية”. عِلما أن عبارتي “التوقيت والسياق”، مقتبستان أيضا من قرار آخر، في سياق آخر، إذ جاء في إحدى قرارات المجلس الدستوري “وحيث إنه، لئن كان من حق عضو بمجلس المستشارين تقديم استقالته الفردية لأسباب خاصة وفقا لأحكام المادة 53 من القانون التنظيمي المتعلق بهذا المجلس، فإن الاستقالات المعروضة على المجلس الدستوري، المشار إليها أعلاه، بالنظر لتوقيتها وسياقها وهدفها، يجب اعتبارها سلوكا يهم سير المؤسسات الدستورية” (قرار المجلس الدستوري 11/891 بتاريخ 16 نوفمبر 2011). وهي الحيثية التي أسس بها المجلس الدستوري لقرار رفض استقالات أعضاء من مجلس المستشارين.

لكن ما السياق الباعث لصياغة حيثية المجلس الدستوري، التي تعود لسنة 2006، المُقتبس منها؟ إنها تندرج في محاولة التعاطي مع إشكال تقديم أعضاء من مجلس النواب لاستقالاتهم، للترشح لانتخابات تجديد ثلث أعضاء مجلس المستشارين، فالأعضاء المعنيون انتخبوا سنة 2002 لمجلس النواب، وفي سنة 2006، أي بعد أربع سنوات، سيقدمون استقالتهم من المجلس المذكور، للترشح لانتخابات أعضاء مجلس المستشارين، بعضوية تصل حينئذ إلى تسع سنوات، فأراد المجلس الدستوري، الذي لم تصل قناعة أعضائه حينئذ إلى درجة رفض الاستقالات توجيه “تنبيه أخلاقي”، دون أي أثر معياري، وهو ما جر على المجلس الدستوري انتقادات فقهية، من أهمها مقالة للفقيه محمد أمين بن عبد الله الذي اعتبر فيها المجلس، بصنيعه وبموقفه، بأنه تقمص دور “المُخلق” (في مقالته المعنونة بـ: Conseil constitutionnel, moralisateur?).

إن الحالة المعروضة على المجلس الدستوري، بالسياق المشار إلى ملابساته، هي التي جعلت قراره يتضمن وصف الاستقالة “بالعمل الاستثنائي”، وأنها ليست عملا شخصيا معزولا، بل سلوكا مرتبطا “بحسن سير المؤسسات الدستورية”. فهل المحكمة الدستورية توجد اليوم في السياق ذاته، حتى تقتبس حيثية مؤسسة في حِينه، للإجابة عن إشكال حال ومطروح في حِينه؟ أبدا…فالمحكمة الدستورية، وللمفارقة، تبت في استقالات مُقدمة “في نهاية الولاية” سواء بالنسبة لمجلس النواب أو مجلس المستشارين، كما أن منطوق قراراتها المفضي إلى قبول الاستقالات، قد أسس له بحيثيات تقود قارئها إلى استشراف نتيجة أخرى غير تلك التي انتهى إليها القرار…أليست هذه إحدى صور انعدام التعليل أو فساده أو نقصانه؟؟؟

إن الاقتباس من الاجتهادات القضائية لا بد له من بوْصلة، وهذه البوصلة لها عنوانان كبيران:إن لكل قرار، سياق زمني، وملابسات موضوعية خاصة، تعبر عنها الحيثيات المصاغة بمناسبته، وهذه الحيثيات لا يمكن نقلها إلى سياق آخر، وإلا كانت نقْلا أعمى، وإسقاطا لخطاطة حل على إشكال غير مطروح أصلا؛إن الاقتباس، يحتكم لبُعد الزمن، فالاجتهاد القضائي ليس وحدة منسجمة، تسمو على الزمن، والتاريخ، وتقلبات النصوص، وتغيرات الدساتير، وإلا لما جَددت المحاكم قناعاتها وتصوراتها للحل، وأسلوب صياغة الحيثيات ومنطقها التعليلي.

فليس إذا من المستساغ، قضاءا وفقها، القفز على سابقة اجتهادية محكومة بالملابسات القانونية والواقعية نفسها، وهي المعبر عنها في قرار المجلس الدستوري رقم 16/1016 بتاريخ 15 سبتمبر 2016، للسفر عبر الزمن، واستعادة ذكريات دستور 1996 ومجلس المستشارين ذو التسع سنوات، بنظام غرفتين متكافئ.

إن حرية الاقتباس، ليست مطلقة، ولا تمارس دون أية محاذير، ولا يمكن أن يكون للاقتباس نفسه، الاستعمال ذاته، حين يتخلص من ملابسات صياغته ومن أسباب إنشائه، كما أن القاضي لا يمْلك رخصة التَفسح المطلق في السوابق القضائية، فيختار فيها ما ناسب ذوقه، أو هواه، وحتى أنانيته…هكذا علمتنا مدارس التأويل الفقهية، التي اعتنقتها عن عِلم وعن مِهنية المحاكم الدستورية المرْجع، وكرستها في اجتهاداتها-الدرس، التي كما قال العرب “لا يُقَعقع لها بالشِنان”…

  • أستاذ القضاء الدستوري بكلية الحقوق أكدال-الرباط

شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي