أول أمس أعلن رئيس الوزراء وزير الخارجية القطري محمد بن عبد الرحمن آل ثاني تصريحات مثيرة وغير مسبوقة عن الظروف التي تجري فيها الوساطة لوقف الحرب على غزة وإنجاز صفقة تبادل الأسرى بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي، فتحدث عن محاولة أطراف استغلال وساطة بلاده بين إسرائيل وحماس «لتحقيق مكاسب سياسية ضيقة وعمل دعاية انتخابية» وأكد خلال مؤتمر صحافي مشترك مع وزير الخارجية التركي هاكان فيدان في الدوحة أن بلاده «تعمل حاليا على تقييم هذه الوساطة بشكل كامل ودقيق».
المسؤول القطري أعطى بعض التفاصيل التي تعين على فهم الموقف، فتحدث عن ازدواجية بعض الأطراف في التعامل مع الوسطاء ويقصد بشكل أساسي الطرف الإسرائيلي، وكيف يتبنى في العلن لغة تخالف ما يتم التعبير عنه في الجلسات السرية أمام الوسطاء.
من المهم الإشارة إلى أن دور الوسيط محدود، فهو يساعد على تقريب وجهات نظر الأطراف، ولا يمكن أن يمارس ضغوطا على أي طرف لإلزامه بأجندة الطرف الآخر، لكن في المقابل، فهو يحتفظ بحكم وساطته وشهوده بقاعدة بيانات مهمة عن مواقف الأطراف وسلوكهم، تجعله في الموقع الذي يعرف به جديتهم ومصداقيتهم في التفاوض.
ما نفهم بالجملة من الموقف القطري، أن الوساطة وصلت إلى أفقها ومنتهاها وأنها لن تكون خادما لأجندة مجهولة غير معلنة، وأن الوقت قد حان لرفع الغطاء عن ممارسات غير ذات مصداقية، تتلاعب بأدوار الوسطاء، وبالضمير العالمي الذي ينتظر أن تنتهي الحرب وترتفع المعاناة الإنسانية على الشعب الفلسطيني.
ثمة سؤال مهم يطرح على الموقف القطري، وما الشيء الجديد الذي يبرر هذا التحول، وهل كان الوضع مختلفا من قبل حتى تضطر قطر إلى تبني هذا الموقف المحرج للطرف الإسرائيلي والأمريكي على السواء؟
استقراء السلوك الإسرائيلي منذ بداية مسار التفاوض، يبين أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو كان يمارس لعبة كسب الوقت للتخفف من الضغوط وتبرير وجوده لأطول مدة في السلطة، ومحاولة تجنبه المساءلة القضائية والقانونية، فقد أبان مسار التفاوض، فيما عدا المرحلة الأولى التي نجحت في صفقة التبادل، وتم فيها الإفراج عن المحتجزين المدنيين الإسرائيليين مقابل عدد مهم من الأسرى الفلسطينيين، أن رئيس الوزراء الإسرائيلي فعل كل ما بوسعه من أجل أن يقيد صلاحية الوفد المفاوض، ويجعل القرار كله بيده، بعيدا عن الغرف المغلقة التي يجري فيها الوسطاء الحوار بين الأطراف. لكن الذي كان يضفي نوعا من الأمل على هذه العملية أن الضغط الدولي على الكيان الصهيوني ظل في تزايد مستمر، وبدأت إسرائيل تخسر المعركة سياسيا وإعلاميا وحقوقيا وقيميا، بل أضحت محاصرة بالكامل، حتى أن أقرب حلفائها صاروا يشعرون بحرج شديد إن لم نقل بأن مصالحهم السياسية والانتخابية بل وحتى الاقتصادية أضحت مهددة في حال مسايرة الطموحات الخاصة لرئيس الوزراء الإسرائيلي.
نفهم في هذا السياق، الحملة الحقوقية الدولية على إسرائيل (محاكمة إسرائيل لدى محكمة العدل الدولية بتهمة الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني وحجم الدعم الدولي والشعبي لها) وانطلاق مسار الامتناع عن توريد السلاح لها من قبل عدد من الدول، واشتداد الضغط السياسي الأمريكي على مجلس الحرب الإسرائيلي من أجل الامتناع عن شن عملية عسكرية على رفح، وتفكك الداخل السياسي الإسرائيلي، وتزايد الاحتقان الاجتماعي والضغط على الحكومة الإسرائيلية من أجل المسارعة لإبرام صفقة تبادل شاملة مع حماس.
الجديد الذي غير الموقف كلية، وربما أنهى على شعاع الأمل الذي كان يكبر بفعل الضغط الدولي الشامل على إسرائيل، هو الاستثمار الأمريكي للهجوم الإيراني المحدود على إسرائيل، وكيف حاولت واشنطن أن تحوله إلى نصر سياسي لتل أبيب تستعمله لترميم صورتها واستدرار عطف دولي لها بعد أن أصبحت معزولة دوليا.
رئيس الوزراء الإسرائيلي غداة الهجوم الإيراني على إسرائيل، وجد نفسه أمام وضع جديد، تغيرت فيه كثير من المعطيات، فاليمين المتطرف الذي يدعم حكومته، يضغط عليه بقوة من أجل رد انتقامي واسع على طهران، والولايات المتحدة الأمريكية تضغط عليه في المقابل، من أجل التحلي بسياسة الصبر الاستراتيجي، وتحويل الهجمة الإيرانية إلى مصدر لتجديد الشرعية وإصلاح وضع تل أبيب دوليا بما يمكنه من استدرار الدعم لموقفها.
في الواقع، لا يهمنا اليوم أن نحلل الهجوم الإيراني، بقدر ما يهمنا بدرجة أولى فهم الطريقة التي حاولت الولايات المتحدة الأمريكية توظيفه سياسيا، لتحقيق هدفين متلازمين، الأول، هو الضغط على حليفتها تل أبيب من أجل عدم الرد وفي المقابل استثمار هذا الهجوم لفك عزلتها السياسية، والثاني، خلق مبرر للتخفف من الضغط الشعبي الأمريكي الذي أضحى يهدد الموقع الانتخابي للديمقراطيين في الانتخابات الرئاسية القادمة، فالرأي العالم الأمريكي يوجد اليوم، بفعل الهجوم الإيراني، على طرفي نقيض، الاستمرار في سياسة التعاطف مع الفلسطينيين، وما يعنيه ذلك من ابتلاع مخاطر التهديد الإيراني، الذي -في المزاج الأمريكي- لا يستهدف تل أبيب فقط بل يستهدف بالأساس المصالح الأمريكية في المنطقة، أو تبني منطق التماثل بين التهديد الحمساوي والتهديد الإيراني، وبالتالي، تغيير التعاطف إلى جهة الإسرائيلي بدل الفلسطيني، ومن ثمة إعطاء الذريعة لإسرائيل للاستمرار في جرائم الإبادة للفلسطينيين.
رئيس الوزراء الإسرائيلي، يعرف بشكل جيد كيف يستثمر الضغوط الداخلية والخارجية، ويستعمل بعضها ضد البعض الآخر، فيستعمل اليمين المتطرف للتخفف من الضغط الأمريكي، ويستعمل طلب واشنطن عدم الرد على إيران لكسب نقاط كانت في السابق مرفوضة أمريكيا.
الظاهر اليوم، أن الضغط الداخلي على رئيس الوزراء الإسرائيلي سيخف، فالذين كانوا يطالبون بوقف الحرب، ويدعون أن رئيس وزرائهم يضحي بأمن إسرائيل وبوجودها من أجل مصالحه السياسية الضيقة، لا يملكون أي جواب عن شكل التعاطي مع الهجوم الإيراني، وما إذا كان عدم الرد يمثل خيارا وجوديا صالحا للدولة العبرية، والأمريكيون الذين كانوا يفكرون في خيارات ما بعد نتنياهو لاسيما إن وجه آلته العسكرية لرفح، صاروا اليوم، يبحثون عن خيارات لمنعه من الرد ولو في المرحلة الراهنة.
بمعنى، إن واشنطن بعد الهجوم الإيراني لم تعد تخشى كثيرا من الضغط الشعبي على خلفية تزايد وتيرة الإبادة الإسرائيلية للشعب الفلسطيني في غزة، وأن رئيس الوزراء صارت له مروحة واسعة للتفاوض، ليس على بقائه في السلطة، بل وحتى على الاستمرار في تنفيذ ما كانت واشنطن ترى أنه خط أحمر.
المعطيات تقول بأن تل أبيب ضمنت موافقة أمريكية على عملية عسكرية في رفح، دون أن تتلقى أي ضمانات عن طريقة تأمين المدنيين الفلسطينيين بها، والذين يصل عددهم هناك إلى حوالي مليون ونصف المليون، أي أنها لم تعد تخضع لأي ضغط يمنعها من مباركة التهجير القسري للفلسطينيين إلى مصر، ولا ندري إلى اليوم، في أي اتجاه يسير الموقف المصري، بعد أن ضمن عبد الفتاح السيسي الخروج من الضائقة المالية والسياسية أيضا.
في المحصلة، يجوز أن يكون المقصود في التصريح القطري الطريقة السياسوية التي انتهجها رئيس الوزراء الإسرائيلي مع منظومة الوساطة، لكن، لا شيء يمنع من أن تكون واشنطن نفسها معنية بالتصريح، فهي الأخرى، مارست كثيرا من السياسة في سبيل أن تخرج حليفتها تل أبيب من العزلة والضغط الدولي، وحين تيسر لها جزء من ذلك مع الهجوم الإيراني، لم تفعل أي شيء لإلزام إسرائيل بما تحتمه الأعراف الدولية في إدارة الوساطة واحترام مشترطاتها، بل غيرت شروطها في الضغط على إسرائيل، وسمحت لها بفعل المحظور، يوم أن شعرت أن تقديم الدعم الكامل لتل أبيب لن يكلفها بعد الهجوم الإيراني كلفة انتخابية مؤثرة.
تعليقات الزوار ( 0 )