التاريخ ليس قعقعة السيوف وآلاف القتلى في الحروب، أو حصار المدن فقط، وليس هو الحياة الظاهرة للسلاطين، بل إنه أيضا الجانب الإنساني لهؤلاء من خلال مواقفهم، وانشغالاتهم وهواياتهم. بعض هؤلاء سعوا للحكم بتخطيط، ومنهم من صفى خصومه ليصل إلى هدفه، والبعض الآخر وجد نفسه سلطانا بعد أن قاده قدره وتخطيطات لم يكن طرفا فيها إلى الموقع الأول في الحكم. في كتابه “في صحبة السلطان(المغرب 1901ـ1904) يعرض الفرنسي “غابرييل فير”، الذي جاء إلى المغرب لتعليم السلطان عبد العزيز فن التصوير، كيف وصل الأخير إلى الحكم، وماهي أوصافه الخِلقية والخُلقية؟ وأيضا أبرزهواياته؟ كيف مارس الحكم؟ ومن أثر فيه أكثر من غيره؟ بخلاصة يعرض الكاتب الذي رافق السلطان عن قرب لمدة أربعة سنوات لأهم ملامح الطبقة السياسية المغربية في بداية القرن 20، دون أن ينسى الحديث عن بعض المظاهر الاجتماعية التي تفشت بين المغاربة كشرب الشاي و”الماحيا” والحفلات بين الأسر الفاسية، وأيضا ظاهرة الرق. “بناصا” تعرض لأقوى مضامين الكتاب الذي يعكس رؤية الفرنسي للمغرب في بداية القرن العشرين.
حيلة “با حماد” لتنصيب المولى عبد العزيز على عرش المغرب
عندما خرج السلطان المولى الحسن لتأديب قبيلة تادلة ألم به مرض، لم يمهله كثيرا فتوفي في واد العبيد يوم 7 يونيو 1894. وجد الصدر الأعظم بّاحماد الذي حاز قوة كبيرة على منافسيه، المجال فسيحا لتنصيب سلطان يسمح وجوده بالحفاظ على نفوذه القوي. سعى بّاحماد إلى حيلة “جهنمية” أن يبعد الأبناء الكبار للسلطان الراحل وينادي على الإبن الرابع عشر الذي ليس إلا مولاي عبد العزيز، يحكي “غابرييل فير”. استعان بّاحماد بالصرامة في القرار والسرعة في التنفيذ، فتكتم على وفاة المولى الحسن ونادى على إبنه الصغير عبد العزيز الذي كان بمدينة الرباط. وجرت الأمور بسرعة حتى تظهر أن السلطان من استدعى إبنه وتُصدق رواية مباركته لحكم المغرب. وحتى لا تسري شائعة موت السلطان بعد احتجابه لأيام، استدعى بّاحماد الجيش ليقوم باستعراضه باسم المولى الحسن الأول (1873-1894) الذي كان يرقد جثة هامدة. حمل جثمان السلطان وسط تواطؤ المحيط المباشر للأخير مع الصدر الأعظم، وجهزه بثيابه البيضاء وشده إلى الفراش، وأحاطه بمخدات غليظة وسار يتجول بطول طابور الجيش وهو على تلك الهيئة. بهذه الطريقة استولى بّاحماد على الحكم ستة سنوات، وسار السلطان المولى عبد العزيز الذي بويع بعد يومين كـ”اللعبة أو الدمية الخاضعة لمشيئته” يحكي “فير”.
ظل باحماد الصدر الأعظم (1841ـ1900) منفردا بحكم المغرب، لكنه حرص أيضا بدهاء أن يبقى البلد متمنعا عن كل تدخل أجنبي. أما السلطان الصغير الذي كان عمره 15 سنة، فكان يٌلقن خطابا مقتضبا في الترحيب كلما حل سفير من السفراء بالبلاط الشريف. وحتى عندما توفي بّاحماد فإن وزير الحربية المهدي المنبهي سارع إلى لعب نفس دور سابقه اتجاه السلطان.
عبد العزيز: سلطان ذكي بلا عزيمة
يصف “غابرييل فير” الذي قدم لتعليم السلطان فن التصوير بإيحاء من الجالية الفرنسية بالمغرب، مخافة أن يفوز بذلك الإنجليز، المولى عبد العزيز(1894-1908)، بأنه عندما التقاه كان قريبا من العشرين من عمره، وهو “طويل القامة، طوله حوالي 1متر و80 سنتيمترا، متناسق الأعضاء،بدين ممتلئ، لايزال بعد أمردا، جميل وضّاء المحيا، أسود العينين، ذا نظرة طفولية غاية في الرقة” قبل أن يختم وصفه بالقول “لقد بدا لي كطفل كبير ضحوك”.
إنه لم يكن مثلما صورته بعض المصادر التاريخية طاغية جبارا، بل يقول عنه المصور الفرنسي أنه كان طيبا وضعيفا. لقد كان خامس إخوته الأشقاء الست، والدته هي لالة رقية وتنحدر من أصول شركسية تركية، كانت أحب زوجات السلطان الحسن الأول على نفسه. وصفه الكونت طاطينباخ مبعوث الإمبراطور الألماني إلى جلالته بـ”الذكي والحكيم”، لكن أكبر عيبه حسب “فير” أقرب الناس إليه هو افتقاره إلى العزيمة. وصل عدد نسائه وإمائه حسب المؤلِف إلى مائتين دون سن العشرين، إثني عشر منهن فقط الأثيرات على قلبه، يعشن بالقرب منه.
يشدد الفرنسي الذي كان دوره أن يمتع السلطان بأنواع اللٌعب، على أن الأخير لم يكن يرغب في أن يكون له وريث في الحكم، ويؤكد على أنه استنتج ذلك من حوار مباشر مع السلطان. بل إن المولى عبد العزيز كان ينظر إلى المستقبل “نظرة ملؤها قلق وانشغال”. كان يستشعر حسب الفرنسي الذي لم يكن يفارقه إلا قليلا بأنه “سيكون آخر سلطان حقيقي على هذا البلد”. وزاد من قلقه تمرد الجيلالي الزرهوني “بوحمارة” التي أخفاها عنه وزراؤه حتى استفحلت حركة التمرد. فظل في أخر حكمه متصبرا متجلدا، في ضيق وكرب عندما فرغ بيت المال، وهو الذي ألف في بداية حكمه الإنفاق المسرف على إقتناء اللعب.
هوايات السلطان: تعلم الرسم وشغف بالتصوير وافتتن بالدراجات
أحب السلطان الصغير التكنولوجيا الأوربية، وخاصة ما يتعلق منها بالألعاب، في عهده سيدخل إلى القصر السلطاني الهاتف والكهرباء، والدراجات والسيارات والبليار وحتى كرة المضرب. كان “غابرييل” يشرف بنفسه على تركيب المخترعات الحديثة حتى لقب بـ”مهندس السلطان”. لقد كانت مهمته “تسلية السلطان، مهما كلف الثمن” ولهذا كان الصدر الأعظم بّاحماد ومن بعد المهدي المنبهي يسعيان بكل جهد للاستجابة لنزواته “الفجائية”.
بدأ السلطان في تعلم فن الرسم على يد رسام أمريكي يدعى “شنايدر” كان مقيما بمدينة طنجة، وأبدى مثابرة جدية من أجل ذلك، لكنه أصيب بخيبات، فأصبح يرغب في التصوير، فنودي على “غابرييل فير”. ولتحقيق رغبته اشترى من آلات التصوير وحدها ما قيمته حوالي مائتي ألف فرنك فرنسي، لإنشاء مشغل كامل للتصوير بقصره. لكن هذه الآلات ما فتئ أن تركت في غير صيانة وسط ساحة الملاهي، فتعرضت للتلف بالأمطار وأشعة الشمس. أجاد السلطان الصور وتحميضها، والتقط صورا كثيرة يحتفظ بها معلمه. أحب رياضات كثيرة فأقبل على كرة القدم ولعبة المضرب. وتعلم المسايفة.
لكن السلطان افتتن بركوب الدراجات، إذ كان يمضي معظم يومه في سباق الحواجز بساحة الملاهي داخل القصر بعد أن هيأت لهذا الغرض. يذكر “غابرييل” أن السلطان كان حاذقا في لعبه. ثم انتقل المولى عبد العزيز إلى استعمال السيارة ثلاثية العجلات. جلب السلطان سكة حديدية مصغرة من شركة CREUSOT بما قيمته مائة ألف فرنك فرنسي. كما أنه أحب إطلاق المناطيد، وشغف بإطلاق الشهب الاصطناعية، ويبرر الكاتب ذلك بأن الإنسان المغربي شغوف بكل الألعاب التي “يتكلم فيها البارود” وأحب السلطان لعبة البليار فكانت له قاعة لذلك في مدينة مراكش، كما احتوى قصر فاس على قاعة أكثر بذخا.
ويجب القول أن السلطان لم يكن مهتما فقط بلعبه وهواياته، فقد أبدى اهتماما واضحا بالتكنولوجيا المستعملة في الحياة الاجتماعية، فاستحوذ على بالِه الهاتف والكهرباء والتيلغراف.
سلطان رغما عنه
لم يكن في حياة المولى عبد العزيز ما يدل على أنه سعى إلى الحكم، أو مارسه صلاحياته كاملة عندما أصبح سلطانا، فسنه الصغيرة، ووجوده إلى جانب شخصيتين قويتين الصدر الأعظم باحماد و بعده الوزير المنبهي، حجبتا عنه حقيقة الوضع المغربي، وألهته بهوايات ما كانت تنتهي الواحدة حتى تظهر الأخرى. أمور تفيد أنه كان سلطانا رغما عنه. فلم يخرج على رأس الجند حسب ما يذكر “غابرييل فير” خلال السنوات الأربع التي رافقه فيها إلا أربع مرات. كما أنه لم يكن يجتمع بوزرائه إلا دقائق معدودات لتلقي بعض الأخبار، وأنه في الساعة التاسعة صباحا يفرغ من شؤون الدولة. حتى إذا تواجد بالمشور (ساحة الشرف الكبرى) فلاستقبال شخصية أوربية مبعوثة من حكومتها. أما إقباله على اللعب فقد كان يمتد إلى المساء. سعت حاشيته إلى إخفاء الوضع المالي والسياسي للمغرب عنه، ولم يكونوا يذكرون له إلا القليل، وما لا يقلق. فتمرد “بوحمارة” لم يعلم به حتى سيطر الأخير على عدد من المدن المغربية واشتدت شوكته. والأطماع الأوربية في المغربية لم يكن له بها علم، لقد ظلت أمور الحكم تدار بعيدا عنه، وغالبا ما علم بالقليل منها فقط.
حكومة السلطان المصغرة
لم يتعد عدد أفردا حكومة السلطان الصغير أصابع اليد، فقد ضمت في عضويتها في ذلك الوقت أربعة وزراء وهم، سي محمد غرنيط الوزير الصدر ووزير الداخلية والعدل، وعبد الكريم بن سليمان وزير الشؤون الخارجية، الذي سيلقى مصرعه على عهد السلطان المولى عبد الحفيظ، في حادث غامض بفاس، وسي محمد الكباص وزير الحربية وهو ابن عم عبد الكريم بن سليمان، حل محل المهدي المنبهي الذي أصابته نكبة المخزن فتداركها بالدخول في حماية الإنجليز. ومحمد التازي وزير المالية، الأمين على كل ما يتعلق بأموال المخزن. أما مقر هذه الحكومة فهو قصر السلطان. لكل وزير غرفة (بنيقة)، يتجمع فيها مع كتابه ورسله ومحرريه وأمنائه. تضم الغرفة مكتبا صغيرا بعرض حوالي 60 سنتيمترا، ويحمل الوزراء ومرؤوسيهم أوراقهم في مناديل تعقد من جوانبها الأربعة. وعندما يعلن رئيس التشريف عن خروج السلطان يصطف الوزراء للسلام عليه، ويخبر فيها كل وزير السلطان باختصار بأهم الأمور في وزارته. ثم يجتمعون بعد ذلك في غرفة الصدر الأعظم للنقاش في الإجراءات العامة التي يتعين اتخاذها. لكن حاشية السلطان ضمت إلى جانب وزرائه مهرجه علي بلوط.
غير أن أهم من أثر في السلطان لم يكن إلا أمه لالة رقية، الذي وصل ثأثيرها عليه إلى حد الاستشارة معها في القضايا السياسية التي ألمت بالبلاد، وتنفيذ ما تمليه عليه. فقد كان “لايخالف لها رأيا ولا مشورة” حسب المصور الفرنسي.
يخلص الكاتب الفرنسي أن السلطان المولى عبد العزيز لم يكن مهيأ للحكم، وأن محيطه أخفى عنه الكثير ولم يعلمه إلا بما لا يكدر خاطره، وحتى عندما أدرك السلطان أن المغرب “يركض في اتجاه مصائر جديدة” لم يكن يملك من القوة ليوقف الانهيار الذي سعى الأوربيون إلى تكريسه عبر عدد من التدخلات معتمدين على “عيونهم” التي بثورها قريبا من السلطان وفي مختلف أرجاء المغرب.
تعليقات الزوار ( 0 )