ينتج التوظيف المتصاعد لثنائية الدين والسياسة في بلاد العرب العديد من التناقضات ذات الطبيعة الدستورية والقانونية والسياسية مع مبادئ الديمقراطية والمواطنة وتداول السلطة.
فمن جهة، يتضخم في النقاش العام الوزن النسبي للهوية الدينية وما يرتبط بها من قضايا قيمية وأخلاقية في مقابل الهامشية الشديدة للأمور المرتبطة بمعاش الناس وأولوياتهم الحياتية. كذلك يضفي توظيف أحزاب وقوى وجماعات لثنائية الدين والسياسة طابعا شديد الحدية على النقاش العام ويحول لدى المواطنين دون تبلور قبول التعددية والرأي الآخر ورفض الإقصاء والاستبعاد كمكونات أصيلة للسياسة الديمقراطية. باسم الدين، كما في سياقات أخرى باسم الاستقرار وتحقيق الرخاء واحترام الإرادة الشعبية والسيادة الوطنية، يدعى المواطن إلى قبول حزمة من المواقف والإجراءات السياسية ويصبح من يختلف معها مخالفا للدين ولصحيحه ويصعب للغاية قبوله أو احترام حقه الديمقراطي في الاختيار الآخر.
لدى المواطنين الخاضعين لسيطرة أو لتأثير الأحزاب والقوى والجماعات الموظفة لثنائية الدين والسياسة، يترجم مثل هذا الطابع شديد الحدية في تعريف وتصنيف المنافسين (أو حتى الخصوم) السياسيين إلى تكفير وتخوين وإقصاء واستبعاد وممارسة العنف اللفظي وأحيانا المادي إزاءهم. وأما الحياة السياسية فتجرد من مكونات قبول التعددية والرأي الآخر ويتعمق تناقضها مع مسارات بناء الديمقراطية والمواطنة وتداول السلطة.
كذلك يضرب التشوه البنيوي الحياة السياسية في بلاد العرب من جراء التوظيف المتصاعد لثنائية الدين والسياسة على يد خليط من الأحزاب والقوى والجماعات المنتمية لليمين الديني والتي تستبيح الحدود الفاصلة بين العمل السياسي من جهة والعمل الدعوي والتربوي والأهلي من جهة أخرى. والتشوه البنيوي الذي أعنيه هنا هو غياب اقتصار العمل السياسي على أحزاب وقوى تتنافس على التأييد الانتخابي للمواطنين بطرح الأفكار والرؤى والسياسات وتبني قواعدها الشعبية ورأسمالها الاجتماعي والرمزي بالكفاءة والفاعلية والنزاهة والشفافية وتتسق بهذا مع مسارات بناء الديمقراطية والمواطنة وتداول السلطة.
والنتيجة المرحلية هي استسهال أحزاب وقوى اليمين الديني التعويل على الجماعات المرتبطة وعلى أنشطتها الدعوية والتربوية والأهلية لبناء القواعد المؤيدة وحصد الأصوات في الانتخابات، عوضا عن العمل الحزبي المستقل والمنظم.
ثمة تناقض آخر مع مسارات بناء الديمقراطية والمواطنة وتداول السلطة ترتبه ثنائية الدين والسياسة وتآكل قدرة مجتمعاتنا العربية على ضبط العلاقة بين مكونيها، وهو ذاك التناقض المتمثل في الطبيعة الرجعية المتزايدة للحياة العامة.
مكونات الرجعية هذه بادية بوضوح في اضطرار العدد الأكبر من الأحزاب والقوى الليبرالية واليسارية إلى تبرير مواقفها وتفسيرها للرأي العام موظفة للرمزية الدينية ولمقولات ترتكن إلى الهوية الدينية والمنظومات القيمية والأخلاقية.
مكونات الرجعية هذه بادية بوضوح في عدم تمكن الكثير من ممارسي السياسة المنتمين لليبرالية واليسار من تبني مبدأ المساواة الكاملة بين المرأة والرجل وترجمته إلى مطالبة باعتماد قوانين وسياسات تضمنها وتطبق التمييز الإيجابي لصالح المرأة للتعامل مع واقع التمييز ضدها.
مكونات الرجعية هذه بادية بوضوح ارتباك مواقف الأحزاب والقوى الليبرالية واليسارية إزاء المؤسسات الدينية الرسمية واستعداد البعض لقبول دور تشريعي وسياسي لها وليس فقط دور مجتمعي عام.
مكونات الرجعية هذه بادية بوضوح في تردد الليبراليين واليسار في مواجهة صناعة التطرف وكراهية الآخر الديني التي تنتج في مجتمعاتنا المزيد من العنف والتوترات الطائفية وتهدد مواطنة الحقوق المتساوية بقوة، خوفا من أن يحمل عليهم من قبل ماكينة اليمين الديني الجاهزة دوما للتكفير والتخوين. مكونات الرجعية هذه بادية بوضوح في انهيار قدرة العديد من المجتمعات العربية على إدارة نقاش ضروري حول تحديث قوانين الأحوال الشخصية والأسرة.
مثل هذه الطبيعة الرجعية للحياة العامة تتعارض مع مسارات بناء الديمقراطية والمواطنة وتداول السلطة وتلك مكونات ليس لها أن تعيش غير على الحيوية المجتمعية المتجاوزة للخطوط الحمراء والبحث المستمر عن الجديد وغير التقليدي والقدرة المتصاعدة على تعميق المساواة في مجتمعاتنا. يعصف تضخم ثنائية الدين والسياسة بالقاعدة الأساس للعدالة والمتمثلة في تكافؤ الفرص بين كافة المواطنين دون تمييز. يضع التوظيف المتصاعد لثنائية الدين والسياسة الكثير من الحدود والقيود على تمتع المواطنين بحرياتهم الشخصية والعامة وممارستها في إطار من العلنية والشفافية والالتزام بمقتضيات الصالح العام. فحرية النساء السافرات في التواجد في المساحة العامة والتنقل بين سياقات مهنية وشخصية تقيد على نحو متسارع، وبالتعويل على مزيج رديء من العنف اللفظي المستند إلى التشكيك في الالتزام الديني للمرأة السافرة وتبرير العنف المادي الذي يقع ضدها من جانب عناصر متطرفة أو مريضة. وحرية الممارسة العلنية للشعائر الدينية لأتباع الديانات الوضعية محظورة دستوريا في العديد من المجتمعات العربية. تقيد أيضا بفعل سيطرة أصحاب الحقيقة المطلقة حرية كل مواطنة ومواطن في طرح أفكار من خارج صندوق المألوف مجتمعيا، وحريتها وحريته في تجاوز المنظومات القيمية والأخلاقية التقليدية وفي البحث عن مضامين أخرى للقيم الإنسانية.
والحصيلة هي مجتمعات عربية مشوهة ومأزومة، تارة بفعل الاستبداد السياسي وتارة بفعل التداخل بين الديني والسياسي.
تعليقات الزوار ( 0 )