شارك المقال
  • تم النسخ

في الحديث عن “ابن العلقمي” الحاضر المستمر بيننا!

إن تفاعل بعض أفراد المجتمع – سواء كان هؤلاء الأفراد مسؤولين سياسيين أم مسؤولين نقابيين أم مثقفين أم حتى أفرادا عاديين – في تعاطيهم مع ما يقدم عليه المسؤولون عن قطاع معين من قرارات وإجراءات، من الأمور الهامة التي وجب دراستها أو على الأقل التأمل فيها وتمحيصها…

إن قرارات وإجراءات أي مسؤول كان قد تكون مبنية بناء تشاركيا، علميا، عقلانيا، ومنطقيا؛ وقد تكون ضرورية، وبنيت بحسن نوايا، لكن تشوبها نواقص؛ وقد تكون قرارات بحسن نية، لكن صاحبها تعوزه المعرفة أو الذكاء اللازمان؛ وقد تكون أخرجت بنواقص وتشوهات نتيجة صراع ما؛ وقد تكون نتيجة تضخم أنا المسؤول وعقلية “ما أريكم إلا ما أرى”؛ بل وقد تكون مبنية على سوء نية مع سبق إصرار وترصد… في هذا المقال لن نتوقف عند المسؤول وتصرفاته، بل سنحاول تسليط الضوء على تفاعل الجمهور معها.

إن التاريخ غالبا ما يتضمن إشارات إلى مثل هؤلاء المسؤولين، ويغفل في حالات عدة الآخرَ وتفاعله معهم؛ وفي التاريخ الإسلامي يوجد الكثير من هذه الأمثلة، بل وأمثلة متطرفة في بعض الحالات، ويعد مؤيد الدين بن العلقمي (1179 – 1258)، وزيرُ الخليفة العباسي المستعصم، أحدَ أكثر الشخصيات إثارة للجدل في التاريخ الإسلامي، حيث اشتهر بدوره الفعال في سقوط بغداد واحتلالها من قبل المغول بقيادة هولاكو عام 1258، ليساهم بذلك في القضاء على الدولة العباسية.

تشير الروايات التاريخية إلى أن ابن العلقمي تواصل مع هولاكو سرا، وعرض عليه تسليمه بغداد مقابل منحه منصب إمارة المدينة. وفعلا، سهل ابن العلقمي بما أقدم عليه مهمة المغول في دخول بغداد، فكانت مذبحة رهيبة راح ضحيتها الآلاف من سكان المدينة… غير أن ابن العلقمي الذي كان ينتظر الإمارة نال الجزاء الذي يستحق، حيث قتله المغول بوحشية.

لاتزال خيانة ابن العلقمي مخلدة في التاريخ، مذكرة بخطورة التآمر على الوطن والغدر بأهله. غير أن ما حير المؤرخين هو الإجابة عن سبب إقدام ابن العلقمي على فعلته؛ فمنهم من غلَّب أن الخيانة كانت بسبب الانتماء المذهبي؛ ومنهم من قال إنها كانت بسبب المعاناة من عقد نفسية وميل فطري إلى الانحطاط؛ ومنهم من قال إنها كانت فقط بسبب ما كان يعتقد الرجلُ جنيَه من مكاسب شخصية.

غير أن ما يمكننا أن نستنتجه نحن من واقعة ابن العلقمي هو أنه لا يتحمل وحده مسؤولية تلك المأساة، بل لا بد من تحميل المسؤولية إلى الجهات التي قصرت في مراقبته، وكذا إلى عموم الجمهور الذي كان بمقدرته كشف خداع ابن العلقمي… لقد أتينا على ذكر هذا المثال الصارخ في الخيانة حتى نلفت الأنظار إلى الخطورة العظمى للقرارات الخاطئة على الوطن، سواء من المسؤول صاحب القرار، أم من الجمهور الصامت، والصمت في أحايين كثيرة يكون مرادفا للتواطؤ. كما أن “ابن العلقمي” الخائن قد يكون مسؤولا برتبة من الرتب، كما قد يكون واحدا من الجمهور، و”هولاكو” الساعي  وراء مصلحته قد يكون من خارج الوطن وقد يكون من أبنائه!

إن المفروض في السياسي هو أنه ينتخب لتمثيل من انتخبه بناء على برنامج متعاقد عليه، والثابت هو وجوب دفاع السياسي عن مصلحة الوطن، لكن عندما يصمت السياسي، أو يتواطأ، أو يفضل المكاسب الشخصية على الخدمة العامة، تكون العواقب وخيمة. وأما النقابي فتُعهد إليه، وإلى “الزعيم” النقابي بشكل خاص، مسؤولية الدفاع عن حقوق ورفاهية منخرطي نقابته، وعندما يتواطأ أو يخون فإنه لا يضعف النقابة فقط، بل يترك من منحوه ثقتهم عرضة للخطر، حيث يؤدي عدمُ أداء الواجب هذا إلى أضرار طويلة الأمد، ليس على منخرطي النقابة فحسب، بل على المجتمع، وبالتالي على الوطن ككل. وأما المواطن العادي فلا يمكن إعفاؤه من مسؤوليته، حيث بوعيه وبدفاعه ونضاله يضع النقابي، والسياسي، بل وحتى المسؤول أمام مسؤولياتهم التاريخية. ليبقى الدور الطبيعي للمثقف مفصليا في التحليل والتوقع والتنبيه لكل الأخطار المحدقة بالوطن… فكيف سيكون وضع وطن فيه جمهور يبرر كل خطوة يقدم عليها مسؤول فاشل، ويدافع عن قرارات لا يفقهها، وينخرط في مهمات يعلم بفراغها ودخولها فيما أسميه “نظرية الدجاجة”؟ كيف سيكون وضع وطن يمكن شراء صمت نخبه نظير تعويضات، أو ترقيات، أو الوعد بمناصب، أو شواهد فارغة ليس إلا؟  بل كيف سيكون وضع وطن أبناؤه منخرطون في تنفيذ قرارات عرجاء، سواء فعلا أم صمتا؟

إن إثارتنا لمثال ابن العلقمي الرهيب للتواطؤ كان بغية التنبيه إلى النتائج الكارثية على الوطن نتيجة ما يقدم عليه مسؤول أعمى، وجمهور لم يتفاعل بالشكل المطلوب مع قرارات هذا المسؤول، مما يضع الكل في صنف ابن العلقمي بشكل من الأشكال! ونحن لا ندعي أن حل مثل هذه المعضلة بيد الجمهور فقط، بل نحن نقول بضرورة حضور المواطن الدائم في قضايا الوطن كيفما كانت، حتى لو تعلق الأمر بقرار اقتلاع شجرة! فما بالك إن تعلق الأمر بأحد القرارات المصيرية في إحدى القطاعات الاستراتيجية. هذا مع ضرورة توفر شرط الحرية أولا، وعلى رأسها حرية الصحافة المسماة سلطة رابعة، ووجود منظمات مدنية حقيقية مستقلة من أحزاب ونقابات، والتشديد على الشفافية، وتعزيز المساءلة، وربط المسؤولية بالمحاسبة، مع ضرورة توفير تعليم جيد حيث إن جودة المدرسة هي أساس كل بناء.

*أستاذ باحث في الرياضيات

شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي