ماءٌ وهواءٌ وتراب، هوية ثابتة وحاضرة لأمنا الأرض، لم نراها يوماً تخلت عن أحدها، وحين كنا قطافاً يسيراً منها، فإن فينا جسداً، ونفساً وروحاً لا يصح استثناء أحدها.
عرف عن الإنسان عيشه الدائم ضمن دائرة السعي والتطور، ولكنه وإذ أسهب في حركته داخل تلك المتاهة، فقد انتقل من حالة المعرفة إلى طور الغرابة والغربة، سيما عن “بعض ذاته”، التي وجدت التخمة أقل ما يصف علاقتها مع الجسد، والترف في ما يجول في نفسها، أمام خواء روحي صامت في الظاهر، ولكن صوته يبدو جلياً كيفما تحرك أو تنفس.
مهما قدمت شجرة التطور والحداثة، وأياً كان حجم طرحها وثروته، إلا أن الإنسان سيقف في النهاية مشوشاً، متعطشاً ليروي ذلك الجانب الملح، حتى وإن فشل في التعبير الدقيق عنه، إذ لا تلغي الإمكانات المادية -وإن كثرت- عن الحاجة للحالة الدينية، والتي يعبر عنها ب”التدين”. ويعبر هذا المصطلح عن: ” كلمة مشتقة من الدين في اللغة، والدين يعني الطاعة والتسليم والخضوع والتذلل والعبودية، والتدين اصطلاحا يعني التسليم لله عز وجل والتذلل لله والخضوع لكل تعاليمه وأوامره، وعرف الإسلام بهذا الاسم لأنه استسلام لله عز وجل وعبادته وطاعته”. فالخطاب السماوي الذي جاء الإنسان من الحكيم والخبير بظروفه وتركيبه الدقيق، لا يتوقف عند الوظيفة التوجيهية في إطار العقيدة وحسب، بل هو دافع “بترسانة” محكمة تحيط بالفطرة السليمة لتحميها من شتى العوامل المحيطة والتي قد تؤدي لتشوهها، وبالتالي فإن الدين يمثل الوازع النابض دائم الحركة في وجه تغيرات الحياة منظماً سريان العملية السلوكية والأخلاقية.
وفي ذات السياق نجد أن التطور غير المسبوق الذي شهدته الحضارة الغربية، وفي ابتعادها عن “فروع” السطوة الدينية، أغرقت في أكثر من موضع بداخل زوبعة من الأساطير والأوهام التي لن تنجح في اقتحام فكر مبني على الإيمان السليم، وبوصلة لا يحركها إلا “اليقين السوي”، المفطور على الإنجاز، وتحقيق سبل السعادة وحسن عمارة الأرض، فالإنسان وفي تركيبه الدقيق يميز بين الأبيض والأسود، ولكن الدين يحثه أو يمنعه من إتباع شيء دون الآخر، وانتهاج موقف ضد غيره. وذات الأمر نجده عندما يوضع الإنسان بين كفتين على الصعيد الاجتماعي، فإما أن يختار تحقيق المنفعة الخاصة دون نقاش، أو أن يعمل على تحقيقها في محيط يستوعب وجود الآخر، وهو ما يعبر عنه بصيغ مختلفة باتت تنادي بها مجتمعات هي من تسببت في تغييبها، مثل: المساواة، والعدالة الاجتماعية، وغيرها، وبالتالي فإن الإنسان في حلته “الحداثية”، يعود إلى الصف الأمامي الذي حاول تجاهله، وبات يثبت في ميوله الشخصي، ونداء نفسه وجسده للحاجة الدينية الملحة، فالحرية أينما وجدت مطلقة، وكيفما طرحت بلا “طوق” المسؤولية، فهي لا تمت للحرية بصلة، إذ أن الضابط، والتشريع، والقانون، أو كيفما تم التعبير عنه، هو أساس يلغي التزاحم غير المنظم بين بني البشر، وبين مكونات الإنسان ذاتها.
بين كل ما ذكر وهذا التأثير العميق للبعد عن حاجة الروح في الإنسان، نجد ما يصفه معظم الفلاسفة الذين اهتموا بوصف الإنسان في عوالمه الداخلية، وكما يقول ستيفن كينغ فإنه يعتقد بأن” في داخل كل شخص شخصاً آخر، غريباً، ومتآمراً، ومحتالاً”، فكيف يمكن كبح هذه الأوصاف بلا اتساق ديني ملزم، وملامس للوجدان الإنساني عالي الحساسية، متفاوت الهيئة؟
أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة
تعليقات الزوار ( 0 )