استطاعت أزمة فيروس كورونا أن تعيد إلى الواجهة العديد من النقاشات النظرية المثيرة بخصوص العديد من القضايا الإجتماعية والإقتصادية والسياسية، ومن بينها النقاش الدسم حول موضوع مفهوم الدولة وطبيعة السلطة السياسية والغاية من وجود الدولة… في الوقت الذي كانت فيه هذه المواضيع، قد تم حفظها في الأرشيف النظري لقضايا تنظيم الوجود البشري، إلى جانب الإشكالات الموغلة في القدم، نتيجة سيادة القبضة الحديدية للمنظومة الرأسمالية، عبر التزاوج بين دورة الإنتاج ودورة المال والإتجاه نحو العولمة الليبرالية، حيث بدأ الحديث عن نهاية الدولة القطرية ونهاية الجغرافيا معها.
إن مفهوم الدولة يحْتَجِبُ وراء الخدمات التي تقدمها، سواء آ كانت خدمات إجتماعية أو خدمات إقتصادية. وهذا يحيلنا من الناحية الواقعية إلى الحكم على الدولة من خلال الخدمات التي تقدمها، مثل ما حصل مع عالم اللغة والمفكر فيتجنشتاين wittgenstein الذي إقترح تحليل اللغة إنطلاقا من استعمالاتها. وهذا التحديد، يجعل من الدولة مطالبة بالتفكير في تحديات المجتمع المعاصر وتحيين أشكال التعاطي معها، بالإعتماد على أسس متجددة، حتى تتحقق الجاذبية إتجاه مشاريعها، التي تحتاج للإنخراط الواسع للمواطنين. ولما يطالب المواطن بتحقيق مطالبه، فلا ينبغي على الدولة عن طريق مؤسساتها أن تنزعج من ذلك، بل عليها أن تجتهد من أجل تلبية تلك المطالب، وأن تكون علاقتها بالمواطن مبنية على ” العطف” بلغة إيمانويل كانط. وهي وضعية شبيهة بالعلاقة الأبوية سواء من طرف أجهزة الدولة التي ينبغي أن تكون متشبعة بالعطف، أو من طرف المواطن الذي من البديهي أن يبحث عن المساعدة لدى الدولة باعتبارها الطرف الأقوى(كارل بوبر).
إن الليبرالية الجديدة قد وصلت إلى قناعة أساسية، فمن أجل تحقيق التقدم المطلوب والرفع من جودة الخدمات، ينبغي تصفية مكتسبات دولة الخدمات، وانحصار وظيفة الدولة في التفرغ لإيجاد الحلول لأزمات الرأسمالية المتمثلة في البطالة والتضخم وارتفاع عجز ميزانية الدولة، والتقليل من حدة الفوارق الطبقية..، وخوصصة كل شيء؛ بما فيه قطاعات حيوية مثل التعليم والصحة والسكن، إنه التنصل الواضح من دولة الخدمات. وبالرغم من الدعوات المتعددة من طرف ورثة الفكر الليبيرالي المجددين، لجعلها جريئة بما فيه الكفاية، أي بجعلها أكثر مساواة، لم يستطع هؤلاء أن يوقفوا المنحى الليبيرالي المدافع عن حيادية الدولة. كل هذا سوف تتم مراجعته اليوم، سواء خلال أزمة كورونا أو ما بعدها؛ خلال هذه الأزمة اتضحت الأهمية القصوى والمعنى الحقيقي لما يسمى بالصحة العمومية، ولما يسمى بالتعليم العمومي، ولما يسمى عموما بالوظيفة العمومية. وظهرت الحاجة الماسة لتدخل الدولة من أجل مساعدة من تضرروا من هذه الجائحة سواء أفرادا كانوا أو مؤسسات. إنه لمن باب الحمق أن تتنصل الدولة من خدمات أساسية مثل الصحة والتعليم والسكن!! وهل سوف يبقى لمفهوم الدولة معنى إن انحصرت وظيفتها في حفظ الأمن الإقتصادي وحرية الإختيار وإدارة الإنتاج من بعيد؟ إن منطق تمثل الليبيرالية الجديدة لمفهوم الدولة يدفعنا موضوعيا اتجاه المعنى الذي حدده فريدريك إنجلز لها باعتبارها دولة الطبقة الأقوى “إن الدولة الحديثة هي آلة يستغِلُّ بها الرأسمال العمَّال الأجراء”.
الدولة حسب المفكر فيليب أردان P. Ardan ” فكرة وواقع، تجريد وتنظيم؛ إنها ليست حقيقة ثابتة لكن حضورها جد حساس في حياتنا اليومية”، لذلك فيمكن أن نجازف بالقول أن ماهيتها سابقة عن وجودها، كما أن وجودها سابق عن وجود الأفراد، علاقتها بنا شبيهة إلى حد كبير بالعلاقة الأبوية. وبناءً عليه، فإن الحاجة إلى دولة الخدمات هي حاجة ملحة من الناحية الأخلاقية والإنسانية، بالرغم من سلبياتها المتمثلة في تأكيد النزعة الأبوية Paternalisme، والتشجيع عن التخلي التدريجي للأفراد عن المجال العمومي، وتكرس الهوة بين المجتمع والسياسة.
لقد كان مفهوم الدولة حاضرا في جميع أدبيات التفكير الإنسان منذ القدم، مع مفكري الإغريق أمثال أفلاطون وأرسطو، وخلال العصور الوسطى مع القديس توما الأكويني وغيره، ومع مفكري الحداثة…لدرجة أنها شكلت موضوعا مركزيا لحقول معرفية قائمة الذات مثل الفلسفة السياسية والعلوم السياسية. ولطالما تمحورت مساهمات كبار المفكرين في هذا المجال حول إشكالية الشكل الذي ينبغي أن تكون عليه الدولة وحدود تدخلها وممارسة سلطتها. وبالرغم من التأويل النظري للعديد من هذه المساهمات الفكرية بهذا الخصوص من طرف ” رأسمال” بتحريف معانيها وجعلها في خدمته، والدفع باتجاه التلاشي التدريجي للدولة – على الأقل دولة الخدمات- فإن راهنيتها تنبعث بقوة كبيرة خلال الأزمات، وخير دليل على ذلك؛ هو ما يقع اليوم عبر جميع دول العالم خلال أزمة فيروس كورونا، التي أعلنت بكل وضوح عن أهمية نموذج دولة الخدمات، حيث تهاوت شعارات عديدة من قبيل عالم بلا حدود؛ فالجميع أقفل حدوده، وتم إعلان ميلاد الجغرافيا، التي كانت قد بشرت العولمة بموتها. وانشغل كل قطرٍ بما يجري داخل حدوده، وأصبح التضامن الدولي والإقليمي مجرد شعارات خالية من المعنى، وسوف يظهر بالملموس أن مستقبل الإنسانية سوف يكون أحسن في ظل دولة تتكفل بالقطاعات الحيوية الأساسية، المتمثلة في الصحة والتعليم والسكن، ولا تتوانى في تجويد خدماتها، وجعلها خطا أحمرا أمام جشع ” رأسمال” أو لم يقل ماركس بخصوصه بأنه سوف يدوس بأقدامه جميع القوانين حتى ولو أدى به ذلك الوصول إلى حبل المشنقة، حينما يرى بأن هامش الربح مضاعف.
تعليقات الزوار ( 0 )