Share
  • Link copied

في أسباب موت الجامعة المغربية

من أهم الخطوات المستعجلة ضرورة إعادة الاعتبار للجامعة وللبحث العلمي، فهما المدخلان الحقيقيان لإعادة وظيفة الباحث المتنور والمفكر المثقف المطلوب منه إنتاج الأفكار والخطابات. ولا يختلف اثنان في الدور الكبير الذي يلعبه التعليم العالي في تعزيز مجتمع المعرفة، وهو أمر يفرض ضرورة القيام بإصلاحات مستمرة وتقويمات ومراجعات، بهدف الحفاظ على المكتسبات السابقة، وفي نفس الوقت وجب تطوير أداء الجامعات بمختلف تخصصاتها من خلال تشجيع البحث العلمي والابتكار والإبداع والإنتاج، وضمان الجودة والامتياز، دون إغفال الدمقرطة والتنمية، ومبادئ المساواة بين الأفراد.

   إن تراجع جودة التعليم العالي في العقود الأخيرة تعود أولا إلى واقع منظوماتنا التعليمية التي أصبحت عقيمة في مستوياتها الدنيا قبل العليا، حيث أبانت عن عجزها على مسايرة التطورات التي يعرفها قطاع التعليم عالميا، وبالخصوص مستوى التعليم العالي الذي يبدو فيه البحث العلمي هزيلا مقارنة بالدول الأخرى، ولا أدل على ذلك تصنيفات جامعاتنا، وهو أمر يعرفه الجميع ويتفق عليه.

     بالرغم من تزايد عدد الجامعات  بالمغرب وتضاعف عدد الطلبة لم نشهد تطويرا في أداء المؤسسات الجامعية لا كما ولا كيفا، بالرغم من أن الحكومات المتعاقبة تتحدث باستمرار عن انخراطها في مسلسل إصلاح التعليم العالي، لكن دون أن تقوم بخطوات عملية وملموسة تؤكد هذا التوجه الذي يطغى عليه الخطاب الشفوي في الغالب، ذلك أن التعبير عن النوايا دون الأفعال لن يساهم إلا في المزيد من تراكم المشاكل التي نعاني منها حد التخمة، فوزارة التعليم لا تقوم بما يلزم لتحسين أداء الجامعات، خاصة وأن المعرفة على المستوى العالمي تتجدد بوتيرة سريعة بفضل التطور الهائل في الوسائل الرقمية والتكنولوجيا. وهو الأمر الذي خلق الفجوة بيننا وبين الغرب.

 في ظل عدم تحمل الدولة والوزارات الوصية على التعليم العالي مسؤوليتها في النهوض بالتعليم العالي، تُلقى المسؤولية على كاهل الأساتذة الجامعيين باعتبارهم النخبة المثقفة للوقوف في وجه السياسة التخريبية التي تسعى لتغييب دور الجامعة، باعتبارها قلعة للتنوير والعلم، بل من الواجب عليهم الوقوف في وجه المخططات التي تسعى لإقبار ما ناضل لأجله الشرفاء والمناضلون وباقي القوى الوطنية لدمقرطة الجامعة ومأسستها واستقلاليتها. بيد أن مشكلة العلاقة المعقدة بين السلطة والمعرفة أفرزت نماذج لا تقوم سوى بالتدريس، أما مهمة الوظيفة النقدية والتوعية واتخاذ المواقف اتجاه قضايا المجال العمومي وقضايا المجتمع والدولة فهي غائبة تماما، وإن وجدت فأصحابها يكيلون بمكيالين، حيث تجد البعض يتحدث في صفحته وفي مقالاته كمثقف ومناضل، بينما في الخفاء يتهافت على المواقع والمناصب، قد يغضب هذا التوصيف الكثيرين لكن هذا هو الواقع الحقيقي، فالصورة في المرآة تبدو قاتمة من الصورة التي نتحدث عنها هنا.

ومن أهم الأسباب التي تُساهم حاليا في تراجع الجامعة تقاعد نخبة من الباحثين وتعويضهم بجيش عرمرم من الموظفين الذين لا يتوفرون على الشروط التي تؤهلهم لمهمة التدريس بالجامعة، ومن المفارقات أن هذا التخريب يتم على أيدي بعض من أولئك الذين وجدوا الفرصة فيما يسمى استقلالية الجامعة للتصرف وفق أهوائهم ومصالحهم الذاتية، أحيانا تحركهم دوافع حزبية، وأحيانا تحركهم الزبونية والمحسوبية، وأحيانا تحركهم المواقف النفسية، ولذا لا تخلو مباريات التعليم العالي من الطعون والجدل وتبادل الاتهامات، حيث الخروقات والتلاعبات جمة ومتكررة، فتجد مباريات تم إقرارها قانونيا، وهي تضرب بعمق في المصداقية وتكافؤ الفرص دون أن يكون هناك أي لجان حقيقية تقوم بمهمة افتحاص ما يجري، وإن وجدت فهي شكلية.

للأسف يتم  اختيار اللجان المحلية على المقاس في المجمل، لأجل توظيف متبارين بعينهم، والدليل أنه لا يتم غالبا الإعلان عن أسماء الأساتذة أعضاء اللجان، ولا يتم الإعلان عن المعايير المعتمدة من قبلهم، وهو ما يثير الشكوك الحقيقية حول أسباب إقصاء ملفات لأسماء وازنة بأبحاثها العلمية ومقالاتها ومؤلفاتها، فتغيب أسماؤها من لائحة الانتقاء الأولي، وإن حضرت يتم تصفيتها في المباراة الشفوية.

 بأي معايير يتم اختيار الأساتذة الجامعيين للمشاركة في اللجان ؟ هذا سؤال مهم ومحرج وفاضح، وبأي معايير يقصون ملفات دون أخرى؟  وهذا أيضا سؤال مهم وفي الإجابة عنه يكمن المحظور، ولماذا لا يخضع هؤلاء  ممن تحملوا المسؤولية للبث في اختيار الأحق للمنصب لقرار السيد وزير التعليم العالي وتكوين الأطر والبحث العلمي رقم 11125٫97 الصادر في الجريدة الرسمية عدد 4522 بتاريخ 29 جمادى الأولى 1416 (2 أكتوبر 1797)، والذي يُحدد شروط وّإجراءات تنظيم المباراة الخاصة بتوظيف أساتذة التعليم العالي المساعدين، ومنها التأكيد على اختبار خاص بشهادات المترشحين وأعمالهم العلمية والبيداغوجية في المادتين رقم 6 و 8، حيث يتم تقييم هذه الأعمال لاحقا بناء على عرض ومناقشة المترشحين الذين تم انتقاؤهم، مع التأكيد على أن المعيار الوحيد هو الكفاءة والاستحقاق؟

 يعود الأمر في كل التلاعبات الحاصلة إلى غياب معايير واضحة ومُعلنة في عملية انتقاء المتبارين على المناصب الجامعية، حيث تُجرى مباريات على المستوى المحلي بمعايير غامضة وغير واضحة ومبهمة، وغالبا ما يكون الفائز معلوم بشكل مسبق، مما يضرب في العمق مبدأ تكافؤ الفرص ومبدأ المساواة الذي تنص عليه القوانين الدولية والوطنية، وتغيب في غالبية المباريات مساطر واضحة ومعايير شفافة في الانتقاء الأولي.

ومن جهة أخرى تطرح علامات استفهام كبرى بشأن مصداقية أعضاء اللجان، إذ يتم انتقائهم في الغالب من الأساتذة الذين لا ترد أسماؤهم في لجان مناقشات المترشحين للمنصب، مما يعني أن هؤلاء هم الأقل إنتاجا والأقل كفاءة علمية، بل والأقل ممارسة للبحث العلمي في غالب الأحيان ولذلك يعادونه ويحاربون أهله، حيث منهم من لم ينشر ولو مقالا واحدا خلال مساره الجامعي، فتجد من لا مقال له يمتحن من له مقالات في مجلات محكمة؟، فالتكافؤ هنا غير حاصل،  ثم هناك سؤال مؤرق ومحرج، هو كيف وصل هذا الأستاذ الجامعي لمنصبه أصلا وهو لا يمتلك مقالات منشورة ولا مساهمات علمية متميزة؟

  وعليه وجب تنظيم شروط من له حق التواجد في اللجان، فليس كل من هب ودب له حق التواجد بها. إن الأمر أشبه بمهمة التحكيم المحلف، وفاقد الشيء بالطبع لا ننتظر منه أي شيء غير تخريب الجامعة. والمفارقة أن تجد أساتذة يمتنعون عن المشاركة في مثل هذه اللجان درء للشبهة عنهم وابتعادا عن القيل والقال والاشاعات، وهؤلاء هم الأكثر إنتاجا والأكثر حضورا وتأليفا ومساهمة، وهم مع ذلك الأكثر تحفظا وإحساسا بالمسؤولية وقدرها، وموقفهم هذا أكسبهم مصداقية كبيرة وسمعة طيبة بين الطلاب والمتبارين، وللأسف فهم أقلية اليوم وقد ينقرضون مستقبلا لو استمر الأمر على حاله. وفي الجوهر يُعبر موقفهم هذا على أن ما يحصل تحوم حوله الشكوك والظنون. ثم إن اختيار أساتذة التعليم العالي مساعدين ليست مهمة الأساتذة الجامعيين، فالقانون لا يفرض عليهم ذلك، بل الأمر مجرد تكليف ومهمة، فتجد من يتكالب على هذه المهمة في غالبيتهم من لا تتوفر فيهم أدنى الشروط علميا وعمليا، ولذا لا بد من تعديل الوزارة لقانون إجراء المباريات ومراجعة نواقصه، لأن ترك الأمر على عواهنه والتسليم للجان المعطوبة سيفرغ الجامعة من محتواها ويؤدي لموتها، ولعل انخراط بعض الأساتذة الجامعيين النزهاء في النقاش العلني حول ما يقع وإن باحتشام يبين حجم الكارثة وما يقع في الكواليس؟

 إن سمعة الجامعة تتراجع وستتراجع إن بقيت الأمور على ما هي عليه، ومستوى البحث في المغرب سيزداد أفولا، وقد بينت التقويمات التي أجريت سابقا أن هناك أسبابا متعددة تقف وراء تراجع البحث التاريخي بالمغرب خلال العقدين الأخيرين، ومن وجهة نظري أظن أن أحد الأسباب الرئيسية لهذا التراجع يتمثل في الوصولية والمحسوبية التي تُعتمد كطريقة للوصول لمنصب أستاذ التعليم العالي مساعد. نتساءل عن ماذا قدم غالبية الذين أنْجِحُوا على يد هذه اللجان خلال السنوات الأخيرة على مستوى الإشعاع والبحث والنشر والتأليف بل والتدريس أيضا؟ ونتساءل عن كيفية تشكل اللجان المحلية التي تتضمن، لأسباب التنافي، الأعضاء الأقل نشرا والأقل بحثا والأقل معرفة والأقل كفاءة؟ ولا يخفى على الأساتذة الجامعيين في شعبة التاريخ، مثلا، أن المناصب تكون على المقاس في غالبيتها، فنادرا ما يتم أخذ معيار الكفاءة بعين الاعتبار، فلم إذن الصمت عن هذه النقطة تحديدا، ولصالح من؟

   إن الوزارة المعنية بقطاع التعليم العالي تتحمل القسط الأكبر فيما يقع من خروقات وتلاعبات، باعتبارها الجهة المخولة قانونيا بمهمة إصلاح وإعادة إصلاح نواقص نظام المباريات الجامعية، بناء على كثرة الطعون التي تتوصل بها، والتي تؤكد فعلا أعطاب مزمنة في المساطر المتبعة في الانتقاء الأولي وكذا في الإعلان عن النتائج النهائية، ولتنصل الوزارة من مسؤوليتها ألقت هذه المسؤولية على رؤساء الجامعات والعمداء، وهذا أمر غير سوي. والغالب أن الوزارة لا تعمل على معالجة الطعون لأنها غير قادرة على ذلك إلا في حالات نادرة جدا، بل أحيانا تكون الوزارة طرفا في تشجيع المناصب على المقاس، كما هو الحال مثلا بالنسبة لمناصب المراكز التربوية الجهوية، فالمناصب تأتي لتسوية من هم مكلفون منذ سنوات بهذه المراكز، وتكون على مقاسهم وعلى قدر أعدادهم، فتوافق الوزارة على إدماجهم بناء على اعلان شكلي عن مباريات عادة ما تكون تسوية سرية بين النقابات والوزارة، فكيف يمكن هنا أن يلجأ من يطعن للقاضي الذي هو الوزارة بينما هو الحكم في نفس الوقت.

إن فكرة اللجنة الوطنية في المباريات الجامعية لقطع الطريق عن المتهافتين، الذين تسند لهم مسؤولية خطيرة وحساسة دون أن يقدروها ويحسنوا التصرف فيها، ويجدون أنفسهم في وضعية لا يحسدون عليها لكثرة الضغوط التي تمارس عليهم من أطراف متعددة، وهذه الأمور لا تخفى اليوم على أحد، وساهم غياب معايير واضحة رسمية على التحايل في التقييم، فيزداد حجم الخروقات بحجم ضبابية المعايير، مما يفتح المجال لوقوع تجاوزات تتحمل القسط الأكبر من مسؤوليته الوزارة الوصية على القطاع الجامعي وأيضا أعضاء اللجان، باعتبارهم تحملوا مسؤولية ولم يكونوا في مستوى الأمانة. وعليه وجب تغيير الطرق المتبعة في هذه المباريات التي تخلق حزازات بين الباحثين والزملاء، وتعكر الأجواء وتتسبب في مشاكل عويصة، وتسيء لسمعة الجامعة المغربية.

 لا بد إذن من توحيد معايير الانتقاء في إطار شبكة تقويمية واضحة ومعلنة مُسبقا، تحقيقا للإنصاف، وتكافؤ الفرص والمساواة بين جميع الحاصلين على شواهد الدكتوراه، وهذه مطالب الجميع اليوم.

ستغدو الجامعة مجرد مكان للتنافس على المناصب، بدل من القيام بدورها الأساسي وهو البحث العلمي وخلق المراكز البحثية، وتشجيع الباحثين الصاعدين ممن يساهمون في إغناء حقل البحث بأعمالهم وإشعاعهم، ولن نكرر القول بأن وزارة التعليم العالي والبحث العلمي إن لم تتبن فكرة اللجان الوطنية بمعايير معلنة في مباريات انتقاء أساتذة التعليم العالي مساعدين فهي تعمل على موت الجامعة وقتلها تدريجيا، وأنه كلما استمرت اللجان المحلية التي تعتريها نواقص متعددة في أداء مهامها بطريقة غير مهنية، فهذا لن يؤدي إلا إلى مزيد من الاحتقان. فمن المعلوم أن المناصب في الوظيفة العمومية دستوريا هي من حق المواطنين المغاربة جميعا، بيد أن هذه اللجان تقف حدا فاصلا بين المواطن وحقه لاعتبارات تمايزية، ومن الواجب على الدولة في شخص الوزارة ضمان تكافؤ الفرص في المباريات الجامعية، عبر:

 أولا: تحديد المعايير المعتمدة في عملية الانتقاء بشكل واضح، والإعلان عنها رسميا في بوابة إلكترونية خاصة.

ثانيا: الإعلان عن أسماء جميع المترشحين ونقاطهم مسبقا بناء على شبكة تقويمية موحدة مثل ما هو معمول به في المباريات الأخرى الأقل شأنا.

 ثالثا: توحيد معايير الانتقاء في إطار شبكة تقويمية واضحة ومعلن عنها تحقيقا للإنصاف، فما معنى أن يصل أباحث لمنصب التعليم العالي وقد ناقش أطروحته قبل مدة، ثم تُعقد له مقابلة شفوية على المقاس، وينال منصب أستاذ جامعي مساعد. ما هذا العبث؟ وإلى أي تسير الجامعة المغربية بهذا الأسلوب الوقح الذي تجاوز كل الحدود؟

    لكي يكون القانون بناء ومنصفا وجب أن يتم تعديله بتغيير القانون المنظم لاختيار أساتذة التعليم العالي المساعدين، ممن لا تتوفر فيهم الشروط العلمية ولا الكفاءة المهنية ولا السمعة الطيبة، فهؤلاء وجب إبعادهم لإيقاف النزيف بالجامعة المغربية. ولابد من تعيين لجنة وطنية من الأساتذة ذوي الكفاءة والرصيد العلمي المعترف به، وتحديد معايير الانتقاء مسبقا، وتنظيم مبارة شفوية يشارك فيها جميع الذين قدموا ترشيحاتهم، وإعلان نتائجها علنا مع ترتيب النقاط، ووضع التقارير النهائية للجان رهن إشارة من أراد الاطلاع عليها. كما نطالب بعدم التمييز بين الدكاترة الموظفين وغير الموظفين في المباريات التي تعلن عنها الوزارة، فلتحقيق مبدأ المساواة وتكافؤ الفرص، وجب إعطاء الحق للجميع لاجتياز هذه المباريات، بل الأولوية يجب أن تعطى للمعطلين، مع التفكير في ضرورة حل مشكلة دكاترة التعليم العمومي بشكل جماعي، وتسوية وضعيتهم لحل المشكل جذريا.

هل ستتدخل الوزارة المعنية باعتبارها الجهة المخولة قانونا لإصلاح نواقص نظام المباريات الجامعية، لا أظن ذلك، وعليه فالتجاوزات ستستمر في ظل غياب حد أدنى من النزاهة والشفافية والمصداقية، وهو ما يعني ضمنيا أن شعار احترام تكافؤ الفرص بين المتبارين مجرد كلام فارغ وإنشاء بدون معنى، وأن المخططات التي تُطبع بشأن تجويد الجامعة ليست سوى منشورات للاستهلاك المحلي والخارجي، وأن الحقيقة الوحيدة التي نحن متأكدين منها، هي أن الوزارة واللجان المحلية الفاسدة تدقان معا مسامير في جسد الجامعة المغربية، ولا شك أنها ستغدو جثة هامدة في النهاية على أيدي من يفترض فيهم القيام بمهمة الإنقاذ.

Share
  • Link copied
المقال التالي