فيروس كورونا رسم واقعا يصعب تجاوزه او حتى نفيه ، حدث بالغ التاثير على حياة الفرد و المجتمع وعلى مستقبل الانسان على الارض، حدث حاد و متطرف لا يعترف بالمناطق الوسطى يهاجم الجميع و بلا استثناء يوقف كل شئ : الاقتصاد و الملاحة و التجارة و السياحة و الفن حتى كرة القدم و مشاجرات المتفرجين و انصار الفرق ، لدرجة انه جعل النفط السلعة الاغلى بلا قيمة ، تباع بالسالب في حدث غير مسبوق.
فيروس كورونا ، فيروس قاتل هو الابن الشرعي للعولمة، ان استعدنا فكرة ان العولمة تنمط الانسان و الثقافة و القيم، كل تنميط هو قتل رمزي وفق دلالات حكاية بروست، كقاطع طريق كان يملك سريرا للقتل، ياسر المارة و يضعهم على السرير، و لا يقتلهم حتى يكون طول المأسور مساويا لطول السرير، ان قصيرا مدده و ان كان طويلا نقص منه ، ثم يقوم بعملية القتل المريح.
العولمة تنمط، وتحول الاختلاف الى وحدة، هنا يكون القتل الرمزي، لذا يصبح الفيروس هو ابن العولمة القاتل و الذي لايرحم، حتى يساوي بين الناس في القتل، و يجعلهم يعيشون نفس المعاناة و نفس الاعراض على سرير الموت.
فيروس اعتقل العالم و انتصر على قيم الحياة، و اوقف كل انشطة الانسان ماعدا نشاطا واحدا ان يحصيعدد موتاه، حتى الزمن تغير و لم يعد النهار كافيا لدفن الجثث،و اصبحا الالات ترمي الجثث في الحفر كما ترمي اكوام التراب،
رغم انه حدث تراجيدي، يصنع الموت و الخراب، لكن و رغم كل مظاهر القسوة و التعقيد الذي احدثها على خريطة العالم فقد كان منتجا للكثير من التحولات، فقد منح فرصة اعادة قراءة واقع ربما لم تم قراءته بشكل كافي من قبل,و ان ادوات المعرفة و التفكير و استكشاف الحقيقة لم تكن كافية لتحقيق مهمة ماهية الفيروس و ايجاد لقاح له.
ومع جائحة فيروس كورونا اصبح العالم امام تحدي معرفي جديد , من خلال ابداع مفاهيم جديدة لدراسة الواقع اثناء الازمة و اثناء الحصار و ما بعد الحصار، انتاج مفاهيم مغايرة حذرة و ساخنة تحاول الاقتراب من الواقع ان لم تكن محاولة اختراقه من اجل الفهم قصد التحكم.
الجاحة الى مفاهيم جديدة و مناهج تفكير جديدة تكون يقظة و حذرة، تنتج قواعد تفكير جديدة و اسلوب تفكير جديد يبحث في المخفي و المبعد و حتى اللامرئي.
فيروس كورونا ، هو فيروس مضلل, ربما فيروس ذكي يتحول حتى لا يكشف عن حقيقته او يغير حقيفته باستمرار كآلية للانفلات من قبضة الانسان، انها لعبة سبق ان نبه اليها هراقليطس ان الطبيعة يروق لها الاختباء , و ان الحقيقة تروم دائما الى التخفي و التحجب.
علماء الاجتماع و علماء التاريخ و الانتربولوجيا و الاقتصاد و السياسة و النفس مطالبون ان يتخلوا عن المفاهيم القديمة و المناهج القديمة و النظريات القديمة ، السبب ان الفيروس مازال صامدا يتحدى الجميع و ان ادوات انتاج المعرفة عجزت امام فيروس يقتل و لا يظهر.
ربما أسوأ ما أنتجه الفيروس هو انتصاره على قيم الحياة وإخضاعها لتهديده المفتوح على الزمان و المكان، انه يملك امكانيات الموت التي تلغي امكانات الحياة.
هو فيروس غير كل شيء، النظريات السياسية و النظم الدستورية و الايديولوجيات الكبيرة ، و تقسيمات الشرق و الغرب و الشمال و الجنوب , غير العادات و القيم و نظم اعيش و اشكال العبادة , حيت المساجد اغلقت و المسيحيون طالبوا رجال الكنيسة بالتوقف عن الدعاء و بيع الدهب لشراء الدواء. فالدين لم يعد صلاة و لا دعاءا و انما اصبح البحث عن الخلاص .
لم تعد هناك سوى خريطة الموت و تعداد القتلى، وتحول الساحات العمومية ساحات للحرب في مواجهة عدو شرس عنيد لكنه عدو عادل و منصف لا يميز و لايفرق بين الفقراء و الاغنياء. يشبه الموت، قد يكون اسوأ من الموت نفسه.
تعريف هذا الفيروس يفترض تجاوز كل التصورات و المرجعيات القديمة , و تجاوز التحديد الماهوي باستعادة سؤال حول ماهيته و طبيعته، هو تساؤل قاصر بلا شك و بلا مفعول، اعتبارا ان فيروس كموضوع التحديد هو محارب يتخفى و لا ينكشف الا من خلال دماره، تعريفه مرتبطة بادراك خطورته كم يقتل؟
تجاوز التعريف الماهوي لمساءلة الفيروس تستدعي تغيير استراتيجة التعريف, عبر الانتقال من البحث عن الماهية الى البحث عن المواجهة و بناء اليات الخلاص ، وهي مواجهة لا تكون الا عبر تكثييف الجهود و تنسييقها عبر جهد عالمي وهو ما يستدعي البحث عن انجع السبل لحماية الوجود الإنساني و استبدال مقولات الصراع و التنافس بمقولات التساند و التعاضد و التكامل من اجل بناء حياة عادية ما بعد الجائحة.
الخلاص يكون كفعل جماعي مؤسس على قيم التضامن العالمي و تغيير منظومة التفكير و العمل و السياسة و الاقتصاد و التجارة و العلم , من خلال الانتقال من وضعية التحكم في الطبيعة و استنزافها, الى منطق الانسجام معها, من خلال بناء اطار للعمل و التفكير يجعل من الارض بيتا للانسان و ليست متجرا للعولمة.
هذه الرؤية هي التي اشار اليها المفكر و الفيلسوف الفرنسي ميشيل أونفري ببناء نموذج كوني حين اعتبر ان وباء كورونا جعل اوربا عالما ثالثا جديد ا في اشارة الى سوء تدبير الازمة.
بناء رؤية جديدة تستدعي تجاوز اوهام الحداثة و خطاباتها حول مركزية الانسان و سلطة الانسان و دور العلم و قيمته في بناء السيادة و عدم الحاجة الى الدين, و ان الانسان اصبح اله نفسه، وانه اصبح قادرا على العيش بلا قيم السماء. الحاجة الى تغيير شامل بما يتيح التغيير في الرؤية إلى العالم وإلى الحياة، من اجل ميلاد و بناء إنسان جديد , وعالم جديد , عبر اعادة الانسجام بين الطبيعة والإنسان.
الحديث عن الإنسان الجديد هو إعادة وضع الإنسان في الطبيعة التي هو جزء منها، وإعادة النظر في علاقاته و قيمه و انتاجه و سلوكه مع نفسه و مع الاخرين و مع الطبيعة في اطار من التكامل بدل الصراع والانسجام.
تعليقات الزوار ( 0 )