حدثان استرعيا الانتباه مؤخرا بسبب تزامنهما، وارتباطهما بالشأن الديني تحديدا.
يتمثل الحدث الأول في إحالة خلاصات عمل هيئة تعديل مدونة الاسرة على المجلس العلمي الأعلى لإصدار فتوى في شأن بعض مضامينها.
بينما يتعلق الحدث الثاني بإعطاء انطلاقة ما سمي “تسديد التبليغ”، الذي اختلفت القراءات المتعلقة به بسبب غموضه، وقبل ذلك بسبب السرية المضروبة عليه، رغم أنه -في الأوضاع السليمة- كان المفروض تدشين حملة تواصلية مبكرة للكشف عن مضامينه وأهدافه، بدل فرضه كأمر واقع.
قد يبدو الأمران للوهلة الأولى غير مترابطين، لكن بقليل من التمعن والتعمق، يمكن الإقرار بأن هناك ربما، ما يتجاوز الارتباط إلى ما يرقى لاعتباره “علاقة سببية”.
فبالنسبة للإحالة الملكية، يلاحظ أن كثيرا من المعلقين -على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي بشكل خاص- جزموا مبكرا، بأن “الفتوى” المطلوبة، لن تكون سوى تزكية لما توصلت إليه “لجنة وهبي”، أي أن دور المجلس الأعلى لن يتجاوز البحث عن “أدلة شرعية” لـ”تحليل الحرام وتحريم الحلال”.
بل ذهب البعض أبعد من ذلك عندما اعتبروا أن د. مصطفى بن حمزة نفسه، لن يجد بدا في النهاية من التراجع عن كثير من مواقفه المعلنة حتى لا يعتبر خارجا عن “الجماعة” أو “الاجماع” على الأقل.
لكن هذه التخمينات لا تجيب عن سؤال رئيسي يتمثل في سر إقصاء صوت “العلماء” من كل المنابر والمنصات العمومية التي خصصت لنقاش هذا الموضوع.
فلو كان د. بن حمزة هو وحده “النشاز” فلماذا لم يتم إشراك غيره من العلماء “المتفتحين المتسامحين المعتدلين”؟
ثم إن السؤال الأهم هنا هو: ما الذي يبرر هذا الجزم المبكر، مع أن مواقف “المجلس العلمي الأعلى” حتى خلال مسار عمل اللجنة التي ألحق بها -اضطراريا على ما يبدو- أوحت بأن “المشروع” خرج مائلا من خيمته منذ البداية، بل هناك اعتقاد بأن المجلس ربما أبلغ دوائر “معينة” بانحراف العملية عن مسارها الذي حددته نفس “الجهات” في احترام دائرتي “الحلال والحرام”، مما استدعى التدخل لتصحيح هذا المسار بالشكل الذي تم إعلانه في بيان الديوان الملكي اعتمادا على مقتضيات الفصل 41 من الدستور، أي “دراسة المسائل الواردة في بعض مقترحات الهيئة المكلفة بمراجعة مدونة الأسرة، استنادا إلى مبادئ وأحكام الدين الإسلامي الحنيف، ومقاصده السمحة، ورفع فتوى بشأنها للنظر السامي لجلالته”.
وإلى جانب ذلك: “استحضار مضامين الرسالة الملكية الموجهة إلى السيد رئيس الحكومة، والتي تدعو إلى اعتماد فضائل الاعتدال والاجتهاد المنفتح البناء، في إطار الضابط الذي طالما عبر عنه جلالته، من عدم السماح بتحليل ما حرم الله، ولا بتحريم ما أحله”…
عموما، لا يمكن استباق فتوى المجلس، لأن الأمر لا يتسع للتخمين، بل لابد من انتظار ما سيتم إعلانه بشكل رسمي، للتعليق على هذا الموضوع بشكل علمي مضبوط.
ونأتي للحدث الثاني الذي يمكن اعتباره سببا من أسباب الحدث الأول، وذلك انطلاقا من أن التحكم في المنابر، ولجم الخطباء والوعاظ، هو ما فتح المجال لأقلية مجهرية كي تحاول فرض ما استوردته من أفكار، وما يدسه رعاتها “الأجانب” من سموم في الشعارات البراقة التي تعمل على تسويقها بمختلف الوسائل، بما في ذلك الإعلام العمومي الذي صار- كليا- في قبضة هذه “الأقليات”.
فلو سمحت وزارة الأوقاف للعلماء والخطباء والوعاظ والمرشدين بالقيام بدورهم التوعوي في إطار الثوابت الدينية، لما كانت هناك حاجة أصلا للإحالة على المجلس العلمي الأعلى، لأن الاقلية المذكورة ما كانت لتغامر بالتجرؤ على “الثوابت” لولا يقينها من أن وزارة الشأن الديني نجحت في تحييد المساجد، وعزلها عن محيطها المباشر.
وهنا أيضا لا أحد يستطيع تحليل ما سمي “تسديد التبليغ” لأن السرية المضروبة على هذا المشروع والغموض الذي يكتنفه، يؤشران على أن تغييب الشفافية والوضوح لهما ما يبررهما.
فعندما تعمد الوزارة الوصية إلى منطق “التهريب” فلأن عندها ما تخفيه مما لا تستطيع الدفاع عنه.
وربما يحتاج الخوض في موضوع الخطبة “الموحدة” كثيرا من الكلام، رغم ما قيل مؤخرا عن تحويلها إلى “اختيارية”، لكن المقام لا يتسع لكثير من التفصيل، ولو أن “التوحيد” قد يبدو مبررا بالنظر إلى الضعف المزمن لبعض الخطباء، لكن لنتوقف عند خلاصة غابت عن معظم الذين ناقشوا ما بات يعرف بـ”تسديد التبليغ”.
فيمكن اعتبار هذا المشروع بمثابة إعلان عن فشل وزير الأوقاف وطاقمه في “إصلاح الشأن الديني” رغم مرور أكثر من 22 سنة على استلامه هذا القطاع.
فما معنى اللجوء إلى فرض خطبة موحدة، في الوقت لم تتوقف فيه عمليات التقنين والتنظيم والتكوين طيلة عقدين كاملين؟
التفسير الوحيد هو أنه بعد كل البهرجة القانونية والإعلامية والتنظيمية والتدبيرية، والحديث عن تجنيد جيش من الخطباء من حاملي الإجازة فما فوق، كانت النتيجة أننا أمام جيش عاجز حتى عن إعداد خطبة منبرية تتطرق لمواضيع بسيطة جدا.. جدا؟
لقد نجحت الوزارة في توظيف آلاف من الخطباء الذين يفتقدون لقوة الشخصية بدليل أن الصوت الوحيد الذي انتقد “توحيد الخطبة” تم توقيفه وربما عزله، لأن عقد الأشعري وفقه مالك وطريقة الجنيد السالك لا تقبل “الرأي المخالف”، بل يبدو من واقع الحال أن مالكا الذي تستغل الوزارة اسمه، كان “وهابيا” سابقا لعصر الوهابية إذا اعتبرنا “تحريم إبداء الرأي” من أصول مذهبه..
ولنرجع قليلا إلى الوراء، ولنتتبع لائحة العلماء الذين عزلتهم الوزارة فقط لأنهم أدوا دورهم الرئيسي المتمثل في النصيحة لله ولرسوله ولعامة المسلمين وخاصتهم، لندرك سر التزام عشرات الآلاف من الخطباء الصمت حتى إزاء بعض المنكرات الصريحة التي لا يمكن اعتبارها من المشبهات التي “اختلف بشأنها العلماء” أو التي حرم الوزير الكلام فيها على من يعتبرهم مجرد “متكلمين في الدين”.
باختصار شديد، لقد فشل “النموذج” الديني الذي رعته الوزارة الوصية طيلة عقدين وزيادة، لكن السيد الوزير لم يمتلك الشجاعة للإقرار بهذا الفشل، بل اختار القفز في الفراغ.
ولا ندري كيف يمكن لخطيب أن يكون مقنعا، إذا كان أصلا يقرأ كلاما هو شخصيا غير مقتنع به، بل أي موظف عبقري هذا الذي أوتي “جوامع الكلم” بحيث يدبج خطبة يفهمها الناس من رأس اسبارطيل شمالا إلى تشلا جنوبا، ومن مسجد الحسن الثاني على طرف المحيط الأطلسي غربا إلى ﯖنفودة شرقا؟
الغريب أكثر، هو أن القائمين على هذا المشروع، لا يبدو أنهم أخذوا بعين الاعتبار الثورة المعلوماتية التي جعلت الفضاءات مفتوحة، ليس أمام العلماء المشهود لهم من مختلف أصقاع العالم، بل أيضا أمام عاهات ونماذج منحرفة تسوق انحرافاتها بدعم من جهات “ما”.. وامام طوائف ضالة، ومذاهب هدامة.
فهل ستتم مواجهة هذه التحديات الخطيرة عبر خطب معلبة في “حي الرياض”؟
وهل يدخل ضمن أهداف “تسديد التبليغ” مواجهة الزحف الوهابي الواضح على مساجد المملكة، وكذا مواجهة الملحدين الذي يصبحون ويمسون على الطعن في ثوابت الدين من منصات مختلفة وتحت لافتات متنوعة، أم أن “التسديد” مبني على “التخفيف” و”التطفيف”؟
بل كيف ستتم مواجهة التبشير المسيحي الذي يستغل هشاشة بعض الفئات، وكذا مساعي الشيعة عبر الركوب على “المقاومة” و”الممانعة”، فضلا عن الطرقية المنحرفة التي يبدو واضحا أنه هناك من يرعاها، رغم زيغها المفضوح، ورغم إساءتها لنموذج التصوف السني المغربي كما أسس له سيدي أحمد زروق قبل قرون؟
ان أحد الاختبارات الحقيقية لمشروع “تسديد التبليغ” هو أن تكون هناك خطب موحدة للرد بقوة على المتهجمين على السنة النبوية وعلى الصحابة وعلماء الحديث، ولتحذير الناس صراحة من الوهابية والشيعة والإلحاد، ومن الطرقية التي يقودها بعض المهرجين الجهلة، الذين يلحنون في قراءة آية من القرآن الكريم يحفظها عادة تلاميذ الابتدائي.
وهذا طبعا لأن الكلام عن بعض “المعلوم من الدين بالضرورة”، أصبح من المحرمات، بدليل أنه لن يتجرأ خطيب، ولو كان كاتب الخطب الموحدة، على الحديث عن الزنى والدعارة وشرب الخمر.. لأن هذه كلها أصبحت من “المختلف فيه” بما في ذلك الخمر التي حرم الإمام مالك شربها ولو عند الضرورة القصوى..
خلاصة القول:
خطة “تسديد التبليغ” وفق ما ظهر منها لحد الآن، هي إقرار رسمي بفشل “نموذج التدين القديم” الذي تم الاشتغال عليه طيلة أكثر من عقدين، وطل السيد الوزير يهلل له في كل مناسبة.
ومن “المبشرات” المبكرة لـ “نموذج التدين الجديد”، أن دكتورا في الشريعة، أصبح عاجزا عن تحرير خطبة جمعة تنطبق عليها معايير “السداد” و”البلاغ”..
إنها أول مرة يتم فيها الحجر على علماء وخطباء بلد أقدم جامعة في العالم..
ترى إلى أين يسير المغرب؟
تعليقات الزوار ( 0 )