شارك المقال
  • تم النسخ

فخ الإحصاء …تأثير التصنيفات اللغوية على الهوية في المغرب

الإحصاء هو أكثر من مجرد أداة لجمع البيانات، أو مجرد أرقام جافة؛ إنه عملية معقدة وذات أبعاد سياسية، ثقافية، واجتماعية، تساعد على فهم عميق للتركيبة السكانية، الاقتصادية، والاجتماعية لأي مجتمع. تُستخدم هذه البيانات الحيوية من قبل الدولة لرسم السياسات العمومية وتوجيه الموارد بطريقة أكثر كفاءة. اختيار الأسئلة التي تُطرح على المواطنين والطريقة التي تُفسر بها النتائج يمكن أن تؤثر بشكل كبير على كيفية فهم الهوية الوطنية، وقد يُستخدم أحيانًا لتعزيز سياسات معينة على حساب أخرى.

الإحصاء والهوية العرقية

في المغرب، تُستخدم اللغة بشكل رئيسي كمعيار لتحديد الهوية العرقية في السياسات العامة وفي الإحصاءات السكانية. يُعتبر المتحدثون بالدارجة مغاربة “عربًا”، في حين يُعتبر المتحدثون بالأمازيغية “أمازيغًا”. هذا التقسيم يستند إلى فرضية أن اللغة هي انعكاس مباشر للهوية العرقية. ولكن هذا النهج يتجاهل التعقيد الجيني والثقافي للشعب المغربي، وكذلك يتجاهل تغيير البنية اللغوية للمغاربة في القرن الأخير الذي شهد سياسات تعريب مكثفة وعملية تنميط وتبخيس للهوية الأمازيغية جعلت من كثير من المغاربة ينفرون منها مكرهين.

الدارجة بين الأصالة والمعاصرة

الدارجة المغربية، في جوهرها، هي نتاج عملية لغوية معقدة حيث استبدلت جل المصطلحات الأمازيغية الأصلية بأخرى عربية وفرنسية وإسبانية بدرجة أقل، لكنها احتفظت بالبناء اللغوي والتراكيبي وطريقة التفكير الأمازيغية. هذه الظاهرة اللغوية تعكس عمق الهوية الأمازيغية لدى متحدثي الدارجة وأصولهم، وتبرز كيف أن اللغة ليست مجرد كلمات، بل هي وسيلة للتفكير والتعبير عن الواقع بطريقة مرتبطة بالهوية الأصيلة لمتحدثها ولو بطريقة غير مباشرة.

على سبيل المثال، نجد أن جملة مثل “اللحم خضر” تُستخدم في الدارجة المغربية للتعبير عن أن اللحم غير ناضج. هذا التعبير لا يتوافق مع الطريقة العربية التقليدية في وصف الأطعمة، ولكنه يعكس بناءً أمازيغيًا للجملة حيث اللون الأخضر يرتبط بحالة النضج، وليس بالضرورة باللون.

كذلك، عند النظر في مسألة حذف الهمزة في نهاية الكلمات مثل “سما” بدلًا من “سماء” و”لما” بدلًا من “الماء”، نجد أن هذا التغيير يعكس التأثير الأمازيغي في بنية الدارجة المغربية. هذا ليس مجرد تغيير في النطق، بل هو نتيجة لانتقال القواعد الأمازيغية إلى الدارجة، مما يعزز فكرة أن الدارجة هي أكثر من مجرد لهجة عربية. بالإضافة إلى ذلك، ظاهرة حذف السكون في نهايات الكلمات تُعتبر جزءًا من هذا التأثير، حيث الكلمات في الأمازيغية غالبًا ما تُنطق بدون حركات واضحة في نهاياتها، وهذه القاعدة انتقلت إلى الدارجة.

على سبيل المثال، نجد أن التعبير “طاحت الشتا” يُستخدم في الدارجة المغربية للتعبير عن هطول المطر. في اللغة العربية الفصحى، يُستخدم فعل “هطل” أو “نزل”، بينما يُستخدم في الدارجة فعل “طاح” بمعنى “سقط”، مما يعكس التأثير الأمازيغي في تصور الظواهر الطبيعية والتعبير عنها. ويمكننا أن نشبه اللغة بوعاء يحوي سائلًا، فمن السهل استبدال السائل بآخر، لكنها ستأخذ بالضرورة شكل الوعاء الأصلي. وهذا ما حدث للأمازيغية مع الدارجة؛ فقد تغيّرت المصطلحات ولكن بنية اللغة وتركيبتها ظلت أمازيغية.

بالإضافة إلى ذلك، يظهر تأثير الأمازيغية في التعبيرات العددية في الدارجة. على سبيل المثال، في التعبير “عطيني واحد جوج سوارت” (أعطني مفتاحين)، تُستخدم كلمة “واحد” كأداة تعريف و”جوج” كعدد، مما يعكس التأثير الأمازيغي في استخدام الأرقام والكلمات بشكل مميز.

من الأمثلة الأخرى التي تعكس التأثير الأمازيغي العميق في لا وعي المتحدث بالدارجة وتظهر أصوله الثقافية هو التعبير عن الحب. ففي الأمازيغية، يُعتبر الكبد هو مركز المشاعر العاطفية القوية، وهذا المفهوم انتقل إلى الدارجة حيث يُقال “الكبدة ديالي” للتعبير عن الحب العميق، وهو تعبير غير مألوف في العربية الفصحى ولكنه شائع في الأمازيغية.

هذه الأمثلة وغيرها توضح أن الدارجة المغربية لا تمثل المستوى العامي للعربية الفصحى كما يُعتقد، بل هي لغة تحمل في طياتها عمقًا أمازيغيًا يعبر عن هوية مركبة تعكس تاريخًا طويلًا من التفاعل الثقافي واللغوي في المغرب وتعكس هوية أمازيغية متجذرة في الثقافة المغربية.

الهوية العرقية للمتحدث بالدارجة

لفهم الهوية العرقية للمتحدث بالدارجة المغربية بشكل أعمق، يتعين علينا أن نحلل اللغة من منظور علمي ولغوي. التحليل العلمي للغة الدارجة يكشف أن هذه اللغة ليست مجرد استبدال للمفردات الأمازيغية بالمفردات العربية، بل هي انعكاس لنمط تفكير أمازيغي متجذر في ثقافة المتحدثين بها. الدارجة، كما نعرفها اليوم، هي نتيجة عملية تاريخية قام فيها الأمازيغ بتبني المصطلحات العربية ولكنهم احتفظوا ببنية التفكير الأمازيغي في بناء الجمل والتراكيب اللغوية.
هذا التكيف اللغوي لم يكن ليحدث لو كان المتحدثون الأصليون عربًا. من المعروف أن تغيير المفردات في لغة ما قد يكون سهلاً نسبيًا، لكن من الصعب جدًا تغيير بنية التفكير والطرق التي ينظر بها الناس إلى العالم من حولهم.

في هذا السياق، يشير الأستاذ محمد شفيق في كتابه “الدارجة المغربية: مجال توارد بين الأمازيغية والعربية” إلى أن الدارجة المغربية هي نتاج طبيعي لتداخل اللغتين الأمازيغية والعربية، مما يجعلها لغة هجينة ومستقلة بحد ذاتها، تحمل في طياتها سمات كلتا اللغتين. الكتاب يُعد مرجعًا أساسيًا لفهم مدى تأثير الأمازيغية على الدارجة، حيث يحتوي على قاموس لأكثر من 1500 كلمة من أصول أمازيغية ما زالت تستخدم في الدارجة اليوم.

كيف نصنف متحدث الدارجة؟

تصنيف متحدث الدارجة المغربية ليس مهمة بسيطة. هذا يرجع إلى التعقيد اللغوي والثقافي الذي يحيط بهذه اللغة الهجينة. الدارجة، كما أشرنا سابقًا، هي نتاج تمازج بين الأمازيغية والعربية، مما يجعل تصنيف متحدثيها على أنهم “عرب” فقط غير دقيق وغير منصف. هذا التصنيف يتجاهل الجذور الأمازيغية العميقة التي تشكل جزءًا كبيرًا من الهوية الثقافية للمتحدثين بالدارجة.

إذا اعتمدنا فقط على اللغة في تصنيف الهوية، فإننا نقع في فخ التبسيط المفرط. متحدث الدارجة قد يكون منحدرًا من أصول أمازيغية مباشرة، أو تعرض أجداده للتعريب في عقود سابقة. فحتى لو كانت لغته اليومية هي الدارجة، فإن هذه اللغة نفسها تحمل في طياتها بصمات أمازيغية واضحة، سواء في النطق أو القواعد أو التراكيب. لذلك، تصنيف متحدث الدارجة يتطلب اعترافًا بتعددية هويته. فهو قد يكون تبنى هوية أو ثقافة يراها عربية، ولكن لا يجب إسقاط ذلك على أصوله الجينية. الإنسان المغربي هو انعكاس لتاريخ طويل من التداخل الثقافي واللغوي في المغرب.

هذا التداخل اللغوي والثقافي يوضح أن الهوية العرقية لا يمكن تحديدها بناءً على اللغة فقط. المتحدث بالدارجة المغربية قد يكون أمازيغيًا في جذوره الثقافية والجينية، رغم استخدامه للدارجة في حياته اليومية. وبالتالي، فإن الاعتماد على اللغة كمعيار لتحديد الهوية العرقية في الإحصاءات السكانية هو أمر مضلل ولا يعكس الحقيقة المعقدة لتركيبة المجتمع المغربي.

نحو تصنيف شامل وعادل

من هنا، يصبح من الواضح أن تصنيفات الإحصاء التي تعتمد على اللغة لتحديد العرق تحتاج إلى مراجعة شاملة. الهوية المغربية اليوم تتطلب نهجًا أكثر شمولية يعترف بالتنوع اللغوي والثقافي من جهة، والتجانس الجيني للمغاربة من جهة أخرى. هذا ما تؤكده جميع التحاليل الجينية التي يقوم بها المغاربة وينشرون نتائجها على وسائل التواصل الاجتماعي، وهو ما يهدم التصنيفات التقليدية التي لا تعكس الواقع. إن تبني هوية مغربية جامعة تضم كافة مكونات المجتمع بغض النظر عن اللغة والثقافات المحلية، هو الطريق نحو بناء مجتمع متماسك ومستقر في المستقبل، مجتمع يشعر بالانتماء العميق للوطن، ويقدر تجانسه، ويفتخر بتنوعه الثقافي الجهوي دون إسقاطات عرقية.

إن الإصرار على تصنيف متحدث الدارجة وفقًا لمعايير عرقية ضيقة يتجاهل هذه التعقيدات ويعزز الانقسامات المصطنعة داخل المجتمع. في الماضي، قد نفهم موقف الدولة بعد الاستعمار في محاولة خلق توازن عبر غرس مفهوم تعدد الأعراق في المغرب، لكننا الآن في مرحلة جديدة نحو بناء دولة قومية وطنية تُعلي من قيم “تامغرابيت”. لذا، من الضروري تطوير معايير تصنيف جديدة تعكس حقيقة التعدد الثقافي واللغوي، وتبرز الوحدة العرقية للمغاربة وأنهم من أكثر الشعوب تجانسًا في العالم. هذا من شأنه تعزيز الهوية المغربية الجامعة التي تتجاوز الانقسامات التقليدية، ويُظهر أننا جميعًا شعب واحد متجانس لآلاف السنين، أمة مستقلة حاربت من أجل استقلالها منذ فجر التاريخ وما زالت تحافظ عليه.

المنسق الوطني لأكراو من أجل الأمازيغية ـ الأصالة والمعاصرة

شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي