Share
  • Link copied

فحص بلاغي لسؤال مشبوه.. هل كان الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي انفصاليا؟

“عدو رجل السياسة هو المؤرخ حتى وإن كان هذا المؤرخ مأجورًا، لماذا؟ لأن هذا الأخير يُذكر ويتذكر”.

                                                                                                  عبد الله العروي

هناك جهات تعمل على توظيف شخصية الخطابي باعتباره حجة سلطوية للدفاع عن أطروحة الانفصال، وتتولى كبرها عصبة من الأصوات مقربة من جهات معادية لوحدة المغرب، والتي ترى في منطقة الريف لا تمت بصلة إلى المغرب، وأن “الخطابي الأمازيغي” هو ضديد وخصيم “الملك العربي”، وهي خطة جديدة قديمة تعمل على إحياء خطط الاحتلال للوقيعة بين مكونات المجتمع المغربي!

وهكذا يحضر الزعيم الخطابي عند بعض الأصوات الانفصالية المُتياسرة التي تلتقي مع بعض الأقلام والأصوات من خارج المغرب، في نزع التنشئة الثقافية والخلفية الفكرية والعقدية التي حكمت الفكر العملي للخطابي، ونقصد السلفية الوطنية المجددة، التي ظهرت في مصر مع الأفغاني ومحمد عبده ومحمد رشيد رضا، حيث قُدر للخطابي أن يعيش هناك (مصر) ما تبقى من حياته إلى أن مات سنة 1963، وهو مدفون في مقبرة الشهداء بالقاهرة.

ومن أجل التبين من حقيقة أطروحة الانفصال التي يحاول البعض إلصاقها بالزعيم، سنقوم بالكشف عن أصول الرجل وتنشئته الثقافية والعقدية التي وجهت فكره العملي في مليلية، وخلال قيادته المقاومة الريفية ضد الاستعمار، وبقي وفيًا لها خلال فترة النضال السياسي الوحدوي الذي قاده من منفاه في مصر، وكذا علاقته بالسلاطين المغاربة، ومواقفه السياسية من الاستعمار وما ترتب عنه من تجزئة وتخلف واعتباره أن “الحرية كل لا تتجزأ”، وهو ما جعله يتخذ مواقف سياسية بخصوص تدبير الدولة بعد “الاحتقلال” حسب عبارته الشهيرة، ومع ذلك فالخطابي لم يكن صاحب أطروحة انفصالية أبدًا، لم يكن ضد الدولة ولا ضد السلطان.

وسنتوقف عند أهم العناصر التي نراها كافية لدحض أطروحة الانفصال من خلال الفكر العملي للزعيم الخطابي، ونبدأ بالأصول والتنشئة ثم الوظائف التي شغلها الرجل وتشكيل مقاومة الريف وتأسيس “الجمهورية” والوقوف عند أهم مواقفه السياسية من خلال جزء من حياته التي قضاها في القاهرة.

أصول عائلة الزعيم الخطابي

يذهب بعض الدارسين إلى أن عائلة الخطابي عربية من الحجاز قدمت إلى المغرب خلال القرن التاسع الميلادي (بداية القرن الثالث الهجري) لتستوطن قبيلة بني ورياغل.

وجاء في مخطوطة “ساني” ما يلي: “إننا إذا حاولنا أن نثبت لعائلة محمد بن عبد الكريم الخطابي نسبًا حقيقيًا مبنيًا على رسوم تاريخية لا نجد أمامنا سوى ما نقله السيد الوالد المرحوم عن معاصريه، أو رواه عن والده وجده وهكذا، إن الوالد كتب قبل وفاته ما سمعه ورواه بعد البحث والاعتناء التام بالنسب، وذلك الكتاب قد ضاع من جملة الأشياء التي ضاعت، ولكن ملخصه أن نسبه على وجه الظن كأنه يتصل بسيدي زرعة دفين ينبع” (عن كتاب “جذور حرب الريف” جرمان عياش).

ويذكر محمد بن عبد الكريم أن عائلته تنتمي إلى محمد بن عبد الكريم الحجازي الأصل وأن أجداده جاؤوا إلى المغرب في القرن التاسع الميلادي، وهناك من يذهب إلى نسب العائلة يعود إلى الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، وكلمة “آيت خطاب” مشتقة، كما يذهب البعض إلى دلالتها الرمزية المرتبطة بالذاكرة والتاريخ الإسلامي، ومن القائلين بهذا الرأي التهامي الوزاني الذي يجزم بأن عائلة الخطابي تنتمي إلى الخليفة عمر بن الخطاب، أي الحجاز.

كما أن عائلة الخطابي شرفاء حسنيون أدارسة ينتهي نسبهم إلى رسول الله محمد عليه السلام، وهكذا يذهب الباحث الدكتور عبد الله كموني في أطروحتة الجامعية، وهو من أهل الريف أمازيغي، أن “القول بانتماء العائلة الخطابية حقيقة تسندها الكثير من الأدلة”. (أطروحة جامعية غير منشورة جديرة بالمطالعة).

التنشئة الثقافية للزعيم الخطابي

ينحدر محمد بن عبد الكريم الخطابي من عائلة تعد على قائمة الأسر الريفية القليلة التي توارثت المعرفة جيلًا بعد جيل، ففي هذا الجو العلمي نشأ الخطابي تؤازره مواهبه الذاتية، فوالده هو القاضي المعروف باسم “عبد الكريم، عينه السلطان المولى الحسن بعد عودته من فاس حيث تابع دراسته في جامعة القرويين إلى مسقط رأسه قاضيًا على قبيلة بني ورياغل سنة 1883، وظل يحتفظ بهذه الوظيفة في فترة السلطانين المولى عبد العزيز والمولى عبد الحفيظ، وهذا دليل قوي على المكانة المتميزة التي حظي بها عند السلاطين المتعاقبين على حكم المملكة في زمنه.

وبسبب شهرة العديد من أفراد العائلة بالعلم شغل البعض منهم وظائف محترمة كالقيادة والقضاء والتدريس، ونورد على سبيل المثال: عم الزعيم عمر بن عبد الكريم الخطابي الذي كان يدرس بجامع القرويين، وكذلك زيان بن محمد الذي عينه السلطان المولى الحسن، قائدًا على جزء من قبيلة بني ورياغل، ثم رقاه ليعينه أخيرًا قائدًا على الريف الغربي، نشير إلى محمد بن امحمد الخطابي المدعو محمد المنفوشة استدعاه السلطان مولاي الحسن لتعليم بعض أولاده بعدما أتم دراسته بالقرويين، وذاع صيته كأحد العلماء النبهاء رغم حداثة سنه وأدرك شهرة كبيرة في الذكاء، ولما يتميز به من زيادة المروءة.

التعليم في جامعة القرويين بفاس

قضى الزعيم الخطابي سنتين بجامع القرويين للتحصيل العلمي، وعاد إلى فاس كرة أخرى لاستكمال دراسته حيث أمضى بمسجد القرويين ستة أشهر أخرى رغبة في تدارك أهليته للقضاء مثل والده، حيث حضر مجالس علمية في الحديث على يد العالم عبد العزيز بن محمد بن أحمد بن الصالح بناني، والعالم أحمد بن الجيلالي الأمغاري، وهو علامة مشارك وشيخ الجماعة، سبق له وأن تولى المجلس العلمي، كما تتلمذ على يد العالم عبد الصمد بن التهامي كنون ومحمد بن عبد الكبير الكتاني مؤسس الطريقة الأحمدية الكتانية، وهو مشهور ببيعة السلطان عبد الحفيظ، ورفض قرارات مؤتمر الجزيرة الخضراء، وحين تمت الفاجعة الكبرى باغتياله عام 1909 قال عنه الزعيم الخطابي: “اقترن استشهاد هذا العلم الجليل باستشهاد أمة كاملة، وهي أمة المغرب”.

كما تتلمذ الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي على يد علماء آخرين وأخذ عنهم الحديث الشريف والفقه والتوحيد والنحو والأدب والبلاغة والمنطق والعروض والحساب والقضاء والأحكام.

وظيفة التدريس والصحافة والقضاء

تذكر المؤرخة الإسبانية الدكتورة ماريا روسا دي ماذرياغا المتخصصة في تاريخ محمد بن عبد الكريم الخطابي، أن اتصال الخطابي نشأ بإدارة مليلية منذ مستهل القرن العشرين، فالإدارة الإسبانية بجزيرة النكور تقع على مرآى من مشارف قرية أجدير، وبعد فترة وجيزة اشتغل الفقيه الخطابي بمليلية في أواخر سنة 1906 أو بداية 1907، واختير للتدريس بمدرسة مستحدثة لتعليم أبناء المغاربة المقيمين بالمدينة، كما اشتغل محررًا صحافيًا في جريدة تلغراف الريف التي كانت سياستها منصبّة حول سبل تذليل طرق السيطرة على المنطقة، حيث كتب الخطابي ما بين 1907 و1915 ما مجموعه 2186 مقالًا.

كما اشتغل الخطابي أيضًا بالمركز المسير لسياسة الشؤون الأهلية ليكون المشرف على كل ما يرد ويصدر بالعربية من الرسوم والمستندات والأخبار تحت مراقبة رئيس المكتب الإسباني المرتبط ارتباطًا أساسيًا بالإدارة المركزية المسيرة من طرف حاكم مليلية الجنرال مارينا، وبطبيعة الحال فإن العمل في مكتب الشؤون الأهلية والإشراف على الكتابة العربية ملزم بتسهيل مهمة الاتصال وحل مشاكل الناس.

ومن ذلك أضيف إلى القائم على المكتب دور الترجمة من العربية إلى الإسبانية، سواء الترجمة الكتابية أو الشفوية، وكانت مكافأة القيام بهذا الدور محددة بأجر يصل إلى 1250 بسيطة سنويًا، وذلك ما توضحه رسالة رسمية صادرة عن مكتب الشؤون الأهلية بمليلية بتاريخ 6 أكتوبر 1910.

وبعد ذلك تمت ترقيته إلى قاض تابع للمكتب نفسه بسبب تراكم القضايا الشرعية الواردة على إدارة المكتب المسير لشؤون المنطقة المحتلة، كما ترقى إلى قاضي قضاة، وهي المرتبة الموافقة لرئيس محكمة الاستئناف بتعبير اليوم في المغرب، بحيث كان يشتغل إلى جانبه قضاة مساعدون بالجهات المحتلة من قبيل قبائل قليعة وأولاد ستوت وكبدانة، حسب ما تشهد عليه الرسوم العدلية، وكان يقضي بالمذهب المالكي.

وعندما انطلقت حرب الريف التحريرية بزعامة محمد عبد الكريم الخطابي، فإن الزعيم كان يعتمد على كتاب “الشمائل المحمدية” لابن تيمية، وفق شهادة أحد تلامذته الكولونيل القائد الهاشمي الطود، وكان يركز إبراز قيم الإسلام الخالدة بخلود الإنسان، المنافية لقيم الاستعباد والمناقضة لمقاصد الاستعمار (علي الإدريسي: التاريخ المحاصر، ص 159).

المقاومة وتأسيس جمهورية الريف

وهنا يُطرح سؤال: هل كانت الجمهورية إعلان تمرد على الملكية؟!

هناك مسألة تاريخية لا ينتبه إليها الكثير من المهتمين بتاريخ المغرب، وهو ما يطلق عليه بمناطق السيبة وعلاقتها بالحكم المركزي في المغرب أو ما يطلق عليه بـ”المخزن”، وتتشكل مناطق السيبة تاريخيًا في زمن ضعف المركز (المخزن) من مناطق تحتفظ بولائها الديني للسلطان باعتباره أمير المؤمنين دون الالتزام بالولاء السياسي ودفع الضرائب.

وتتكون مناطق السيبة غالبًا من فسيفساء من القبائل تتجمع وتتفرق تبعًا لظروف الصراع، وكل منطقة لها نطاقها الجغرافي والبشري، وقد تتوسع لتصبح فدرالية أو جماعات قبائل لها صلاحيات تشريعية وتنفيذية وقضائية.

وقد وظف خصوم الزعيم الخطابي صفة “الجمهورية، التي وقعت تحت اسمها حرب التحرير بالريف، فزاعة للنظام الملكي بالمغرب، ويعد الدكتور علي الإدريسي صاحب كتاب “عبد الكريم الخطابي: التاريخ المحاصر”، بأن توظيف اسم الجمهورية من قبل الخصوم لا يعدو كونه “خسة أخلاقية وابتزاز سياسي مكيافللي، لأن الكثير منهم على علم كامل بالمهام التي أسست من أجلها الجمهورية”.

وفي السياق نفسه يعد جرمان عياش الزعيم الخطابي رجلًا وطنيًا، إذ يقول: “كان وطنيًا، ولم تكن وطنيته بدائية، بل توشحت بمفاهيم حديثة بشكل يثير الدهشة، كمفهوم الوطن، وحرية التعبير، والديمقراطية، تلك المفاهيم التي يمكن أن يغبطه عليها أولئك الذين سموا أنفسهم، فيما بعد بـ”الوطنيين”.

ومن المعلوم أن صفة الانفصال ثم إطلاقها على الزعيم الخطابي بعد ستة أشهر من الانتصارات التي حققتها المقاومة الريفية بزعامة الأمير خاصة في مثلث ادهار أوبران- إغربين- أنوال، وخاصة بعدما بدأت التقارير الصحافية والسياسية والكتابات التاريخية تتحدث عن لقب الأمير الذي أطلق على الزعيم محمد بن عبد الكريم الخطابي وليس رئيس الجمهورية، والأمير هنا صفة تطلق على المحارب، أمير حرب، ولم يسم نفسه برئيس الجمهورية كما هو متعارف عليه في أنظمة الحكم الجمهوري، وقد أُشيع أنه يريد أن يحل محل سلطان المغرب، وكان في مقدمة من أشاعوا ذلك الفريق الاستعماري ومعه تلامذته النجباء كي يوقعوا بين الخطابي والسلطان بالرغم من أن الخطابي نشأ في جامع القرويين وكانت لعائلته علاقات طيبة مع سلاطين المغرب كما ذكرنا سابقًا.

صحيح أن الزعيم محمد بن عبد الكريم الخطابي كانت له مواقف من مفاوضات إيكس ليبان، وكان يطلق على الاستقلال كلمة “الاحتقلال” ويقصد به الاستقلال المنقوص، وكانت له مواقف من دستور 1962، أول دستور للمملكة بعد الاحتلال، ولكن هي المواقف نفسها التي كان يتبنها العالم السلفي محمد بن العربي العلوي ومعه حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وكان الخطابي آنذاك يكتب افتتاحيات لجريدة “التحرير”، وكان يقوم بتشذيبها آنذاك المفكر الراحل محمد عبد الجابري كما يذكر في سلسلة كتبه “مواقف”، كما أسهم الخطابي في دعم المقاومة في البلدان المغاربية، وكان رئيسًا لمكتب المغرب العربي في القاهرة، وكل ذلك يظهر بشكل جلي أن الخطابي لم يكن انفصاليًا أبدًا، ويشهد على ذلك فكره العملي، أي من خلال كل الوظائف التي تولاها بداية من أستاذ مُدرس ثم قاض وصحفي وزعيم حرب العصابات وداعم للمقاومة ضد الاستعمار الفرنسي في الأقطار المغاربية الثلاث، وبقي رجلًا مقاومًا ضد الاحتلال الخارجي والاختلال الداخلي إلى أن توفي سنة 1963.

على سبيل الختام

نستنتج من خلال هذا المقال المقتضب أن الزعيم محمد بن عبد الكريم الخطابي لم يكن أبدًا انفصاليًا كما تنزع إلى ذلك بعض الأصوات خارج أرض الوطن على مواقع التواصل الاجتماعي، التي لها ارتباطات ظاهرة مع الكيان الصهيوني، أو كما تذهب إلى ذلك بعض الأصوات التي تحاول تخوين الخطابي انطلاقًا من مواقفه المعارضة للدستور واتفاقية إيكس ليبان، وهو الموقف نفسه الذي اتخذته قوى وطنية من داخل المغرب وكانت لها علاقة طيبة بالزعيم الخطابي لما كان في القاهرة.

أما تنشئته السياسية والثقافية فهي مؤسسة على الفكر السياسي الإسلامي، ويظهر ذلك بشكل واضح من خلال التعليم في جامع القرويين ووظيفة القضاء على المذهب المالكي كما تبين ذلك الكثير من العقود والأحكام عندما كان يشغل الخطابي قاضي القضاة، وعندما لجأ إلى المقاومة اعتمد على كتاب “الشمائل المحمدية” لابن تيمية في تعبئة رجال المقاومة.

وهنا تجدر الإشارة إلى أنه إلى حدود الآن صدرت أكثر من ألفي (2000) دراسة وبحث وتأليف حول الخطابي، حسب الباحث علي الإدريسي، والملاحظ أن هذه الدراسات والأبحاث تجددت بعد حراك الريف قبل خمس سنوات، ولا تزال الأطروحات الجامعية تثرى حول شخصية الخطابي، ولكن لا أحد من الباحثين المدققين في الفكر العملي للخطابي قد شكك في وطنية الزعيم.

Share
  • Link copied
المقال التالي