لا يختلف اثنان في كون أغنية Vava Inouva للعملاق “يدير” من أشهر الأغاني الأمازيغية التي لاقت نجاحا باهرا وشهرة عالمية كبيرة على مدى أزيد من ثلاثين سنة، حيث أعاد أداءها فنانون عالميون وترجمت للعديد من اللغات، فهل تساءلتم يوما عن قصة هذه الأغنية الحزينة؟
إليكم قصتها لمن يقرأها لأول مرة أو لمن يعتقد أن هذه الأسطورة المستوحاة من التراث الأمازيغي العريق تقتصر فقط على منطقة القبايل بالجزائر.
“غريبة وينوفا”.. نهاية حزينة لفتاة وفية لوالدها
تحكي هذه القصة عن “غريبة”، الفتاة يتيمة الأم والبكر الغالية على والدها “ينوفا”.
منذ وفاة أمها قامت “غربية” بأعباء ومسؤوليات إعالة إخوتها الصغار ووالدها الهرم الذي فعلت فيه السنون فعلتها حتى صار لا يقوى على الحركة إلا لماما.
تستيقظ غريبة كل صباح قاصدة الحقول والغابة تجمع الحطب لهذا أو ترعى الغنم لذاك أو تقص الحشائش لذلك لتضمن لقمة العيش لها ولأسرتها الصغيرة.
بعد عمل يوم مضن، تعود غريبة إلى بيتها قبل سقوط الظلام تجنبا لوحش الغابة الذي يحل بالقرية متربصا بأهلها قارعا الأبواب بحثا له عن فرائس، مستهدفا بخاصة البيوت التي تتأخر الأمهات عن ولوجها إلى ما بعد المغرب.
معظم ضحايا وحش الغابة من الأطفال الذين كلما سمع صراخهم وبكاءهم إلا وغيّر صوته ليشبه صوت أمهم أو أختهم البكر التي تتولى رعايتهم كي لا يثير شكوكهم، فتنطلي عليهم الحيلة في غياب أمهم ويفتح له أحدهم الباب.
وتفاديا للوقوع في فخ وحش الغابة، فقد اتفقت “غريبة” و”ينوفا” على أن تضرب الأرض برجلها حتى يسمع صوت خلخالها الفضي وتحرك أساورها (تيزبيين) كي يميزها عن الوحش ويفتح لها الباب الموصد دونه.
ذات يوم تأخرت غريبة على غير عادتها، فكانت ليلة ليلاء عليها عندما اعترض قطاع الطرق سبيلها ونزعوا عنها أساورها وخلخالها الذي كان الكلمة المفتاح بينها وبين والدها الذي انتظر كثيرا تلك الليلة حتى دب الرعب في قلبه وأخذ منه مأخذه خوفا على فلذة كبده وسط ظلام دامس وثلج منهمر.
آخرا ها هي غريبة عند الباب، تسأل أباها أن يفتح، لكن هيهات هيهات، كيف له أن يعرف أنها هي وليس الوحش الذي يبدل صوته؟
طلب منها “كلمة السر”، أي أن تضرب بخلخالها الأرض وتحرك أساورها، فأخبرته أنها سرقت منها. احتار “ينوفا” بين مصير أبنائه ومآل غريبة ابنته الوفية والكادحة من أجله: ماذا لو كانت صادقة وتركها بالخارج تلقى حتفها المحتوم؟ ولكن ماذا لو تعلق الأمر بوحش الغابة المحتال فيجني على نفسه وعلى أبنائه؟
لقد اكتشف “ينوفا” متأخرا أن ما من رابط أو سر يجمعه بابنته يسألها عنه فيطمئن قلبه بأنها هي فعلا، فهو لا يعرفها سوى بالكد والتعب وبصوت خلخال وأساور فضية يمكن لأي كان أن يشتريها بما في ذلك الوحش !
الدروس المستقاة من القصة
لهذه الحكايات الشعبية التي يمتزج فيها الواقعي بالأسطوري الضارب في عمق التاريخ الأمازيغي أهدافا ودروسا عظمية، فهي لا تحكى عبثا ولا لملء الفراغ، بل لأخذ العبر وتمرير الرسائل، ومن العبر المستفادة من هذه القصة:
ـ أن الأمهات مطالبات بالاهتمام بأبنائهن بدل الانشغال عنهم والتأخر خارج البيت مهما كانت الظروف.
ـ أن الذي يجمع الآباء بالأبناء لا يجب أن يقتصر على ما هو مادي (خلخال، أساور…)، بل يجب تجاوزه إلى ما هو معنوي رمزي (كلمات الحب، الاستماع إلى مشاكلهم، التقرب إليهم أكثر لمعرفة همومهم وفيما يفكرون…) حتى لا يكون هناك سوء تفاهم وقطيعة يكون ردعها مستحيلا بعد فوات الأوان.
ـ هذه القصص موجهة بالخصوص إلى الأطفال، إما لتحذيرهم من أمور ما كالتأخر خارج البيت وإلزامهم بالتوقف عن الصراخ وإحداث الضجيج (في هذه القصة) أو لتشجيعهم على أخلاق حميدة (الوفاء، الصدق، التعاون….
“بكا وعمي بنحير”.. قصة غدر ووفاء تنتهي نهاية حزينة و”ملكية” في نفس الوقت !!
نفس قصة “غريبة وينوفا” نجدها بالجنوب الشرقي المغربي مع اختلافات طفيفة في الأسماء والمتون من منطقة إلى أخرى، فعند قبيلة آيت خباش مثلا، ترد “غريبة” باسم “بكا”، في حين لا نجد اسما لوالدها الذي قدر له العيش ملتصقا بالأرض عقابا له على خيانة العهد.
تقول هذه القصة إن مجموعة من الأصدقاء تعاهدوا على الصدق ومصارحة بعضهم البعض مهما كان الأمر.
ذات يوم وبينما هم جلوس إذا بأحدهم يطلق الريح، فأفسد عليهم جلستهم تلك، تساءلوا عن الفاعل وطالبوه بالاعتراف احتراما للعهد الذي بينهم وأنهم مسامحوه إن فعل. أنكروا كلهم بما في ذلك صاحب الفعلة، فدعوا عليه بأن يعيش بقية عمره ملتصقا بالأرض لعنة عليه وانتقاما منه على إنكاره وكذبه وخيانة العهد، وكذلك كان، فعندما هموا بالوقوف بقي هو ملتصقا بالأرض !
رأفة به بعد وقوع الواقعة، قرر أصدقاؤه الذين رقوا لحاله رغم غدره أن يبنوا له بيتا يقيه من الحر صيفا ومن القر شتاء ومن الوحوش المفترسة والأشباح والمخلوقات الغريبة.
كانت لهذا الرجل ابنة يتيمة الأم تدعى “بكا”، بعد حلول اللعنة عليه أصبحت هي المتكفلة به، تقدم له وجبات الغذاء، تنظفه وتغير ملابسه… كان باب البيت الذي يقبع فيه الأب لا يفتح إلا إذا أذن لـ”بكا” بتحريك أساورها، فكانت عند اقترابها منه تخاطبه قائلة:
ـ أبابانو أبابنو ماندي زاركن تكاغ؟
ـ يا أبت كيف ألج إليك؟
فيجيبها: سمنقر تيزبيين نم أيلي تكشمد (حركي أساورك با بنتي وادخلي).
ذات يوم رآها وحش ضار تتردد على ذلك البيت، فدفعه الفضول إلى التجسس عليها حتى اكتشف السر.
لم يكن ذلك الوحش سوى “عمي بنحير” الذي قرر تجريب حظه، فقصد البيت مناديا: أبابانو أبابانو ماندي زاركن تكاغ؟ (يا أبت كيف ألج إليك؟).
فطن الأب بحيلته؛ فصوته الغليظ والخشن لا يمت بصلة إلى صوت ابنته العذب، فرد علي:
ـ دوكي أوريد بكا نو أيتكيت (اذهب بعيدا فأنت لست ابنتي بكا).
فكر عمي بنحير في حيلة تمكنه من ترقيق صوته حتى يشبه صوت بكا، فأقسم على النمل أن يأكل الشحم الموجود في حنجرته حتى يصير صوته رقيقا وإلا أكله وأكل الأرض التي يمشي عليها (النمل).
بعد محاولات ومحاولات، نجح النمل في ترقيق صوت “عمي بنحير” الذي ولج البيت بعدما حرك أساور مسروقة، فخيّره بين أن يشرع بافتراسه من الرأس أو من الرجلين؟
فضل الأب أن يبدأ الوحش من الرجلين، ليتمكن من مخاطبة ابنته إلى آخر لحظة من عمره.
بعد لحظات، قدمت “بكا” حاملة معها الطعام لوالدها مستعملة النداء المتفق عليه منتظرة أن يطلب منها تحريك الأساور ليفتح الباب؛ لكن صدمتها كانت قوية عندما أخبرها بأن “عمي بنحير” احتال عليه، وسيبدأ بافتراسه، وقد فضل أن يكون ذلك من الرجلين كي يستطيع الحديث معها لأطول وقت ممكن.
انهمرت الدموع من مقلتي بكا، وطفقت تخاطبه وهي بالقرب من الباب:
ـ أبابنو أبانو ماندي أكن إكالا؟(يا أبت أين وصل؟)
فيخبرها بأنه وصل الكعين، ثم تعيد السؤال، فيأتي جواب الأب أنه يقترب من الركبتين… وهكذا إلى أن سكت صوته!
لم يكتف “عمي بنحير” الوحش الضخم الذي لا يشبع بالتهام والد “بكا”، بل قرر تصفيتها هي الأخرى، فخرج بغتة وهو يعلم أنه يصعب عليها مغادرة المكان لأن الشوق والحنين إلى أبيها سيظلان يلصقانها بالمكان كما ألصق الغدر والكذب والدها بالأرض.
رغم تودده إليها ووعده لها بأغلظ الأيمان أنه سيتزوج بها وسيكون زوجا وفيا لها وستعيش معه أميرة، وما ذلك إلا احتيالا حتى تسقط في قبضته، فإن بكا لم تثق فيه، كيف تثق في من ابتلع والدها؟ لذلك فما أن رأته خارجا حتى أطلقت ساقيها للريح. حاول”عمي بنحير” اللحاق بها؛ لكن جسده الضخم حال دون ذلك، فصعدت نخلة موجودة غير بعيد من البيت الذي لقي فيه والدها حتفه.
ولأن “عمي بنحير” لا يستسلم بسهولة، ولا يحب من يعانده أو يعصي له أمرا، فقد جرب هو الآخر صعود النخلة، لكن رجليه انزلقتا فسقط سقطة مدوية فجرت بطنه ووضعت نهاية لجبروته وظلمه.
تجمهر سكان القرية حول جثة الوحش الذي أرعبهم لسنين، وكان بين الجموع أمير قرر الزواج من “بكا”.
الدروس المستفادة من القصة
إذا كانت قصة “غريبة وينوفا” لا تخبرنا صراحة بنهاية “غريبة” إنما نستشف ذلك ضمنا، فإن قصة “بكا وعمي بنحير” على العكس من ذلك وضعت نهاية سعيدة لبطلتها “بكا” وجعلتنا نستخلص منها عدة دروس، هي:
ـ من يخون العهد والصداقة التي بينه وبين أصدقائه تكون نهايته مأساوية.
ـ الظالم، المتجبر تكون نهايته مأساوية.
ـ الابن الوفي، البار بوالديه تكون نهايته سعيدة.
في الختام “يدير” العبقري خلّد أسطورة “غريبة وينوفا”، وأخرجها من بين جبال جرجورة بالقبايل إلى العالمية، فمتى يفعلها أحدهم مع “بكا” ومع غيرها من قصصنا الشعبية وأساطيرنا التي هي رمز هويتنا؟
تعليقات الزوار ( 0 )