قراءة في رواية “الحاج أَلِمَانْ..غُيوم الريف” للكاتب المصري إبراهيم أحمد عيسى.
لا جدال في أن الأدب لا يمكنه أن يقوم مقام التاريخ، فلكل منهما خصائصه وشروط إنجازه ووظائفه التي يسعى في تحقيقها. لكن ذلك لا يمنع الأدباء من اعتماد هذا التاريخ مرجعا يبنون عليه “مُتَخيَّلهم” في كثير من نصوصهم الأدبية التي يبدعونها. والحق أنهم -وفي إبداعهم لتلك النصوص- لا يكونون معنيين بتتبع كل تفاصيل ذلك التاريخ، وإنما تجدهم ينجذبون لبعض الأحداث دون غيرها، خصوصا ما ارتبط فيها ببعض قصص وحكايات البطولة التي تُنسَب لأشخاص مروا من دنيانا ذات زمن، وكان أن خُلِّدت بفضلها أسماؤهم ضمن سجلات المجد والكرامة.
ولعل قيمة تلك الأعمال الأدبية تأتي مضاعفة إذا جاءت متصلة بماضي الأوطان التي يقيم فيها القراء، أو راصدة لكفاح أقوامهم فيها. وضمن هذا النوع من الأدب يمكننا إدراج رواية “الحاج ألمان، غيوم الريف” للكاتب المصري إبراهيم أحمد عيسى.
عن “الحاج أَلِمان”
يتعلق الأمر هنا بالعنوان الذي اختاره صاحب الرواية لعمله (مع عنوان فرعي هو: غيوم الريف)، ويعني به شخصية حقيقية وثقت بعض نصوص التاريخ الحديث وجودها (على قلتها). وقد ارتبط هذا اللقب (الحاج ألمان) بمنطقة الريف في المغرب خلال عشرينيات القرن الماضي، وذلك خلال مواجهة المغاربة في هذه المنطقة لقوات الاحتلال الإسباني الغازية . ف- “الحاج ألمان” هو لقب اشتهر به جندي ألماني اسمه “جوزيف أوتو كليمنس” دفعت به الأقدار إلى شمال إفريقيا؛ جنديا ضمن الفيلق الأجنبي بالجيش الفرنسي، ليتقلب طويلا بين الجزائر والمغرب، قبل أن يُعلن إسلامه ويتزوج امرأة مغربية؛ مُستقرا بالريف ومنضما إلى قوات محمد بن عبد الكريم الخطابي في مواجهتها لإسبانيا، حيث عُهِد إليه بتأسيس نواة لسلاح المدفعية ضمن جيش “أمير الريف”.
وقد هيمنت حكاية هذا الألماني على أحداث الرواية وحازت موقعا مركزيا ضمنها، فكان أن عرض علينا السارد العديد من المحطات التي طبعت مساره الحياتي وجعلته يأخذ هذا المنحى. وكانت الانطلاقة من مدينته الألمانية دوسلدورف، مرورا بفرنسا، ثم وصولا إلى الجزائر، وبعدها المغرب. وعن بعض هذا التحول الذي عرفه المسار الحياتي للرجل نقرأ في الرواية: “..تبدل الحال كثيرا، ومرة أخرى صار جنديا، ولكن هذه المرة ضمن فيلق أجنبي بالجيش الفرنسي، حياة لم يتخيلها يوما..” ص25.
حكايات وقصص إنسانية متنوعة
وغير حكاية “جوزيف أوتو كليمنس” العجيبة هاته، يتتبع السارد في الرواية حكايات أخرى تعود لشخصيات جمعتها بالجندي الألماني علاقة ما أو دارت في فلكه، لكن مع تفاوت في المساحة المُفردة لكل منها. وهي، في معظمها، شخصيات سجل التاريخ وجودها الواقعي. وحازت حكاية الصحفي الفرنسي”رينيه فوليتير” (الذي انتهى به المطاف حكواتيا في مدينة طنجة) مساحة أكبر من غيرها.
وقد تَعَرَّف هذا الصحفي و” صائد الحكايات” الفرنسي إلى “كليمنس” على ظهر الباخرة التي أقلت جنود الفيلق الأجنبي من فرنسا إلى الجزائر، قبل أن تتطور علاقتهما في المغرب وتتحول إلى صداقة متينة، امتدت بينهما لزمن طويل؛ حيث كانا يلتقيان بين الفينة والأخرى على أرض الريف، أو يتبادلان الرسائل عن بعد. وقد استمرت هذه العلاقة إلى ما بعد نهاية الحرب وعودة “الحاج ألمان” إلى وطنه، ولم تتوقف إلا بموت هذا الأخير في ألمانيا.
ومُتتبعا لحكاية هذا الفرنسي دائما، يعرض السارد لفصول علاقة عاطفية عاصفة جمعت هذا الشاب بصحفية إنجليزية اسمها “آن ريتشارد”، كانت قد قدِمت إلى المغرب بغرض متابعة أخبار المنطقة الشمالية المشتعلة عند نهاية العقد الثاني من القرن العشرين، وإنجاز تقارير للصحافة البريطانية عنها. وكان “رينيه” قد التقى بها في لقاء صحفي جمعهما بالقائد الجبلي “الشريف مولاي أحمد الريسُوني” في مدينة شفشاون، ليُعجَب بها، قبل أن يُغرم كل منهما بالآخر، وتؤول علاقتهما إلى ما آلت إليه من غرام جارف، فخيانة، ثم فراق. ومُصورا لبعض مشاعره لدى لقائه الأول بحبيبته الإنجليزية، كتب الفرنسي لصديقه “الحاج ألمان” ما يلي: “..أنا سعيد يا صاح، بل أنا أسعد رجل في العالم، كان لقاء رائعا. لم تكن تُصدق أني أمامها. ابتسامتها الهادئة تحولت إلى ضحكة حب..” ص220.
وبجانب حكاية “رينيه فوليتير” وصديقته الإنجليزية، يحكي السارد عن رفيقين أجنبيين آخرين ل-“لحاج ألمان” ضمهما الفيلق الأجنبي الفرنسي في مهمته بشمال إفريقيا، وهما: “إسماعيل التركي”، و”عبد الله الصربي”. وتتشابه تقلبات هذين الرجلين في كل من الجزائر والمغرب بتلك التي مر بها الجندي الألماني، لينتهي بهما المطاف ضمن المقاومة المغربية في الأطلس والريف، حيث استقرا، بعد أن تزوجا امرأتين مغربيتين، هذا قبل أن يلقى أحدهما الموت بعد الأسر في إحدى المعارك ضد الجيش الفرنسي في المغرب (إسماعيل التركي)، ثم الموت على يد القوات الإسبانية، وهو على أرض المعركة بالنسبة للآخر(عبد الله الصربي).
وبالإضافة إلى هذه الشخصيات ذات الأصول الأجنبية، تقدم لنا الرواية حكاية رجل مغربي من الريف اسمه “حَدُّو الأكحل البَقِّيوي”، وهي شخصية عُرفت بكثرة تنقلاتها بين المغرب والجزائر وممارستها للتجارة، ناسجة بذلك شبكة علاقات واسعة، كانت أقواها تلك التي جمعتها بالفرنسي “رينيه”. لكن شهرة هذا الرجل ستتصل أكثر بالطيران، إذ كان مهووسا بموضوع الطائرات وقيادتها (نجح في امتلاك طائرة خاصة خفيفة) وهو ما سيقربه من محمد بن عبد الكريم الخطابي، حيث ستُوكَل إليه مهمة تأسيس “سلاح الجو” ضمن قوات قائد الريف.
انتصارا للمغرب ولمقاومته
ولأن رواية “الحاج ألمان” عُنِيت بالانتصار للمقاومة المغربية وبالانحياز لبطولات أهلها، فقد سلط السارد فيها الضوء على شخصية مغربية نسائية عجيبة، ألا وهي المرأة المغربية البطلة “يِطُّو الزَّيَانية” التي شاركت أباها المقاوم العظيم ” موحا أوحَمُّو الزَّيَاني” في التصدي للقوات الفرنسية في موقعة “الهْرِي” المجيدة، يقول عنها السارد: “نادرات مثيلات يطو، امرأة ذات عقل رشيد وقلب شجاع..فارسة نبيلة على دراية بأخلاق الحرب..”ص 225. ولم يُثْنها استشهاد أبيها عن مواصل المقاومة والكفاح، إلى أن خرت شهيدة في معركة التحم فيها رجال قبيلتها الأطلسية مع قوات المقاومة الريفية ضد جيوش الاستعمار الفرنسي على مقربة من مدينة فاس.
وعن التاريخ دائما، يقف القارئ للرواية عند كثير من التفاصيل والإشارات التي وثقتها نصوص المؤرخين المغاربة والأجانب للعقدين الثاني والثالث من القرن العشرين في شمال المغرب. ونذكر منها ذلك الصراع الحاد والعداء المُتبادل الذي وسم علاقة القائد “مولاي أحمد الريسوني” بالجِنرال الإسباني العنيد والمغرور “سِيلْفِسْتْرِي”، والذي وصل ذروته مع هجوم هذا الجنرال على معقل الريسوني في أصيلة واستباحته لبيته فيها، وفي ذلك يورد السارد على لسان الريسوني “..هذا المدعو سيلفستري ليس سوى خاسر، هزمه ثوار كوبا ودحروه..”ص123.
كما يُظهر السارد -في تتبعه لتلك الأحداث- جرأة واضحة في عرضه لبعض القضايا المتصلة بوحشية الاستعمارين الفرنسي والإسباني في كل من الجزائر والمغرب؛ مُتوقفا عند ظاهرة قطع الرؤوس والتمثيل بالجثث التي مارستها القوات الأجنبية الغازية في البلدين. وفي ذلك ينقل عن الجنود الفرنسيين -وهم يدافعون عن تمثيلهم بأهل البلد المقاومين- قولهم : “..عن تلك العصابة المُخرِّبة التي قُتِلت وقُطعت رؤوسها ليكونوا عبرة لمن يحاول العبث مع الفيلق ورجاله..” ص 170.
وغير هذا، فقد تطرق السارد أيضا إلى موضوع الأسلحة الكيماوية والغازات السامة التي استعملتها إسبانيا في هجومها على المناطق الريفية، مما تسبب في وقوع ضحايا كُثر بين المدنيين المغاربة؛ الذين قُتلوا بكل بشاعة ووحشية.
وتُنبئنا كثرة التفاصيل والإشارات التاريخية في الرواية عن المجهود التوثيقي الكبير الذي بذله الكاتب قبل مباشرته لكتابة نصه هذا. وقد أفصح في نهاية عمله عن مصدر تلك المعرفة التاريخية التي استند إليها في بناء مُتخَيَّله، مُقدما شكره لمجموعة من الأساتذة المغاربة (ذاكرا أسماءهم)؛ ويقصد بهم أولئك الذين وفروا له المادة التاريخية التي اشتغل عليها، أو وجهوه في قراءته لها.
عن البناء الفني في الرواية
كان هذا عن أحداث الرواية ومضامينها، أما عن معمارها الفني، فقد اعتمد الكاتب فيه ما يشبه “الحكاية الإطارية” التي ضمت حكايات أخرى؛ متفرعة عنها. وهي صيغة كتابية تُحيل عند سماعها إلى النص السردي التراثي “ألف ليلة وليلة” وذلك في حكاية الملك شهريار مع شهرزاد، كما إلى غيرها من نصوص حديثة أخرى. أما في “الحاج ألمان” فإن “الحكاية الإطارية” ترتبط بالصحفي “رينيه فوليتير” وجمهوره “الطنجاوي”. فقد تحول هذا الفرنسي -مع مرور السنوات- إلى حكواتي مُقيم بمدينة طنجة المغربية، حيث يقص بعضا من حكاياته على جمهوره في مقاهي المدينة وباقي الفضاءات العامة.
وهكذا ينطلق السرد بمطالبة جمهوره له بسرد حكايته الشخصية، لكنه لن يفعل ذلك، وإنما سيسرد عليهم أحداث الرواية كراو محايد، لا تجمعه بتلك الأحداث أي صلة (وإن كان أحد الفاعلين الأساسيين فيها). غير أنه سيعود في النهاية ليُوحّد شخصيتيه ( الصحفي “رينيه فوليتير” والحكواتي الأجنبي الغامض بمدينة طنجة) ومن ثم سيُعرفنا بما آلت إليه حياته بعد أن هجرته صديقته الانجليزية.
واعتبارا لهذا الأمر، لم يتخذ السرد في “الحاج ألِمان” ذلك النمط الكلاسيكي القائم على التوالي والتعاقب في تقديم الأحداث، بل عرف الكثير من التداخل في الأنماط السردية؛ فكثرت الاسترجاعات وتعددت. كما جاءت أحداث الرواية مُقسّمة إلى فصول؛ اتُّخِذ لكل منها عنوانا فرعيا، فكنا أمام ما يشبه دراسة أكاديمية، أو قصصا مستقلة عن بعضها ضمن مجموعة قصصية.
ومن الملاحظات الأخرى التي تهم الجانب الفني في الرواية -والتي تبدو جلية لقارئها- أذكر تلك الوقفات الوصفية العديدة التي ينجزها السارد (وهو أمر كان قد أثارني في رواية سابقة قراتها لنفس الكاتب وهي “باري، أنشودة سودان”)، وفيها يبدع في تصوير الشخصيات والأمكنة المختلفة. وهي وقفات احتفت كثيرا بالجغرافيا المغربية في تعددها وتنوعها. وكان حظ فضاءات وأحياء مدينة طنجة كبيرا في التفاتات السارد تلك، خاصة في ما تعلق برصد مشاعرالصحفي/ الحكواتي الفرنسي وتحركاته، ومن أمثلة ذلك أُورِد هذا المقطع الذي جاء في بداية الرواية: “..جميلة هي طنجة في الصباح، نشيطة كامرأة جبلية تستيقظ مع ضوء الفجر الأول، تعتمر شَاشِيتَها وتمسك إبريقا تسقي به أحواض زهورها. حسناء رائقة المُحَيَّا. تطحن الحب وتعجن العجين. وعلى شفتيها ابتسامة رطيبة. يسمونها عروسة الشمال المتوجة على حافة العالم..” ص11.
وأختم هذا العرض بالقول بأهمية الرواية وتميزها بالنسبة للقارئ المغربي، فهي تتبع في أحداثها لبعض من المحطات التاريخية الهامة التي وسمت بلدنا في زمن عصيب؛ عانى فيه المغاربة كثيرا من الظلم والتسلط الأجنبيين. هذا غير أهميتها بالنسبة لجميع قراء العربية، وخاصة لأولئك الذين يرون ضرورة أن يكون الأدب صاحب رسالة ومضمون قيمي يسعى في أن يؤديهما، بالموازاة مع وظيفته في تحقيق الإمتاع.
كاتب من المغرب
تعليقات الزوار ( 0 )