Share
  • Link copied

عن الاحتراز الاستباقي من الأوبئة.. قصة سلوك حمى المغاربة من أخطر الكوارث

عبد الفتاح نعوم

إجراءات حكومية غير مسبوقة يعيش المغرب كله علىى وقعها، فمخاطر الانتشار السريع لفيروس كورونا المستجد “كوفيد 19” جعلت مختلف القطاعات تستنفر كل إمكانياتها لمحاصرته، إعلاق للمساجد والمقاهي والمطاعم، منع للتجمعات والأنشطة، ثم انتشار القوات العمومية وفرض حالة الطوارئ.

معظم المغاربة اليوم يسمعون فقط عن أوبئة ومخاطر مماثلة، هي جزء من حكايات الأجداد عما كان، أو صفحات في كتب المؤرخين فقط، لكن الواقع الآن يضع الجميع في حيز تجربة شبيهة، إن لم تكن أقوى وأخطر، فالانتشار السريع للفيروس القاتل بات مستحوذا على واجهة الأحداث، هيمنة تكاد تطمسها فقط حالة الحزم والجدية التي بدت على مختلف مؤسسات الدولة المغربية، حيث التدابير الاحترازية الفتة للانتباه.

في التالي نحفر قليلا في صفحات من ماضي الشعب المغربي، ونكشف كيف كانت السلطة على الدوام تهتم كثيرا لأمر تحصين الغاربة من الأوبئة، وكيف كان المغاربة على مر العصور واعين بأهمية تظافر الجهود للحفاظ على الاستمرار التاريخي لهذه الأمة الفريدة.

تأخر علمي .. وتنظيم اجتماعي فريد

وهو على فراش مرضه، وقبل وفاته بفترة قصيرة، أوجز المؤرخ المغربي الشهير جرمان عياش تميز المغاربة في مكافحة الأوبئة، وذلك لدى إشادته بإحدى أهم الأطروحات التي اشرف على إنجازها في هذا الموضوع، يتعلق الأمر هنا بأطروحة الباحث الراحل محمد الأمين البزاز عن المجاعات والأوبئة في المغرب، حيث يمكن تميزها بحسب عياش في كونها رصدت “تمكن الشعب المغربي من البقاء على الرغم من الكوارث الخطيرة والمتكررة”.

فالتنظيم والتلاحم الذين امتاز بهما المغاربة ومنذ عهد الموحدين كانا هما السبب في تجنيب المغرب مخاطر الإبادة الحقيقية التي كانت تهدده، خصوصا وأن أوروبا نفسها كانت قد غرقت في آتون الطاعون الأسود منذ منتصف القرن الرابع عشر، ولولا التقدم التقني والعلمي الذي دخلت عهوده منذ عصر نهضتها لما تمكنت نظمها الاجتماعية والسياسية من الصمود في وجه الكوارث المتتالية منذ تلك الفترة. “لقد كان المؤلفون الأجانب ينكرون هذا الدور، زاعمين أن الدولة المغربية لم تحرك ساكنا لتقديم الغوث لرعاياها المنكوبين”، يقول جرمان عياش قبل ان يوصل الفضل لـ”البزاز” لكونه أظهر بالعكس، أن ذلك الدور لم تراجع إلا تحت وطأة التدخلات الأجنبية والتكالب الاستعماري على المغرب.

صورة أعادت تجربة الدولة المغربية ووقفها الحازم بكل قواها لمواجهة “كورونا” رسمها كاملة، وسط عدد من الإشادات بها وطنيا ودوليا، وهي الصورة التي لازمت الطريقة التي كانت تتدخل بها الدولة في الماضي، ما ادى إلى حصول استمرارية الشعب المغربي بكل مكوناته وعراقته. فمنذ أواخر القرن السابع عشر وحتى نهاية القرن الثامن عشر كما تحكي معظم المصادر التاريخية كانت الطواعين تخمد وتشتعل، وكانت تأتي غالبا من الشرق إما مع قوافل التجار أو مع مواكب الحجاج، لكن البلاد غالبا ما كانت تفلت مما يقع في تونس والجزائر ومصر بالرغم من أنه لم يكن هناك أي تنظيم للحجر الصحي.

أقام سيدي محمد بن عبد الله نطاقا عسكريا عند الحدود مع الجزائر، ومنذ 1793 فرض ابنه المولى سليمان الحجر الصحي ضد الجزائر، حيث كانت المدن الواقعة بينها وبين الرباط وسلا تقع فرائس للطواعين، ليبلغ الأمر مداه مع إصدار السلطان ظهيرا خاصا بفرض الحجر الصحي على السفن القادمة من هران عام 1797. إجراءات نجت المغرب من طواعين قاتلة، قبل أن يواجه مجددا سلسلة من الأوبئة خلال القرن التاسع عشر.

أوبئة القرن 19 .. المغرب لم يعد أعزلا

يحكي محمد الأمين البزاز في كتابه حول الأوبئة بالمغرب أنه ومنذ بدايات القرن التاسع عشر ضرب الطاعون المغرب بحكم انتشاره في معظم البلدان المتوسطية، لكن المغرب حينئذ انتهج سياسة وبائية نشيطة في الموانئ، حيث تم اتخاذ سلسلة من التدابير بمعية القناصل الأوروبيين في طنجة، وتم طواقم إخضاع السفن الوافدة على المدينة لحجر صحي في أحد الأبراج القريبة من الميناء، وهو ما جنب المغرب مخاطر “الحمى الصفراء” وطاعون العام 1804.

كان الحجر الصحي وطرد السفن الآتية من الدول الموبوءة، وكذلك تعيين الأطباء للتفتيش الصحي في الموانئ والمنافذ الحدودية أمرا جاريا العمل به، ما جنب المغرب الكوارث المحدقة التي اجتاحت محيطه عند نهاية العقد الثاني من القرن 19، قبل أن تنابه مجددا موجات الكوليرا والتيفويد والجدري، ولم يسلم منها حتى بدايات القرن العشرين، حيث أصابت العامة والخاصة، ولم ينج منها حتى الأمير المولى محمد ابن المولى الحسن الأول، حيث كان الجدري قد تسبب في فقده لعينه ما جعل المصادر التاريخية تشير إليه بلقب “مولاي الأعور”.

كان السلاطين لا يتوانون على الاهتمام شخصيا بشؤون وأحوال الناس أيام المجاعات والأوبئة، فيضربون بيد من حديد على أيدي المتلاعبين بالأسعار والمؤن، ويبادرون إلى توفير القوت للمغاربة عبر ربوع البلاد، صورة لم تبدأ الدولة المغربية في التراجع عنها إلا بسبب التسرب الأوروبي، والذي سعا إلى رسم صورة مغايرة ما تزال كتب الدراسين الأوروبيين تحفل بها، حيث وصف المخزن بالقسوة حيال رعاياه المنكوبين، وكل ذلك لتبرير التدخلات الأجنبية التي انتهت بفرض الاستعمار على البلاد.

“الكرنتينا” .. نفوذ أجنبي أم ضرورة صحية

منذ العام 1792 انشأ القناصل الأوروبيون “مجلسا صحيا” في طنجة، وكان يعهد إليه منذئذ صلاحيات فرض تدابير “الحجر الصحي” على السفن الموبوءة أو القدمة من بلدان أصابها الوباء، وهو التقليد الصحي المعروف باسم “الكرنتينا” نسبة إلى عبارة إنجليزية تعني “المحجر الصحي”. بيد أن الفقهاء والفاعلين الدينيين لم يروا في ذلك الحجر ضرورة صحية لتحصين البلاد، بقدر ما رأوه واجهة فقط للاختراق السياسي وتصريف النفوذ الأجنبي.

فالمغاربة والمسلمون الذين عاشوا تجربة “الكرنتينا” وصفوها بالكثير من الاستغراب والدهشة، وأحيانا أسبغوا عليها أصواف الاعتراض والرفض، فهي بالنسبة للمؤرخ أبي القاسم الزياني مثلا “ممنوعة عرفا وشرعا” و”قبح الله مبتدعها”، أما الناصري فرأى في المجلس الصحي بطنجة مجرد خطة أقدم عليها الأوروبيون من اجل التحضير للتدخل الأجنبي في المغرب وصولا إلى احتلاله.

الثابت أن الدولة المغربية كما قاومت جميع مظاهر التدخل الأجنبي، فإنها قاومت أيضا الأوبئة والأمراض الفتاكة، ولم يتوانى رجال السلطة يوما عن الوقوف في وجهها، واقع تاريخي هو ينقله المتخصصون في دراسة أخبار التاريخ، وتؤكده أحداث اليوم الجاري، حيث جذور الماضي وأصالة الشعب المغربي تنضح كلما ألمت أزمة بالبلاد.

Share
  • Link copied
المقال التالي