Share
  • Link copied

عندما تتحوّل ساعات اليد في جامع الفنا بمراكش إلى ساعةٍ رمليّة!

يؤكّد الكاتب الاسباني” فرناندو دياث بلاخا ” فى مقال طريف له عن مدينة مراكش الفيحاء البهجة أنّ لإسبانيا مع جيرانها الثلاثة – كما يحدث دائماً – فرنسا والبرتغال والمغرب، معايشات، وصولات، وجولات، وذكريات لمعارك، ومواجهات إنتصرت فى بعضها وإنهزمت فى أخرى ، فمع فرنسا ما زال الإسبان يذكرون غزو 1808 حيث حاول نابليون تنصيب أخيه خوسّيه بونابارتي على التاج الإسباني. ومع البرتغال ما فتئ التاريخ يذكّرنا ولو بغيرقليل من الحدّة هذه المرّة ” بحرب البرتقال” التي أعلنها السّخيف ” مانويل غودوي ضد إسبانيا وفرنسا عام 1801. فى حين كانت لاسبانيا معايشات مواجهات وعراكات مع المغرب أطول وأكثر شراسة وعنادا.

ويشير الكاتب ولنتوقّف مع هذا القرن، ناسين الحملة الإفريقية التي شاء وصادف الحظّ أن سجّلت بواسطة قلم ” ألاركون”، ورسمت بريشة الفنّان ” فورتوني” ، إنه لا تكاد تمرّ خمس أو عشر سنوات دون أن يشعر الإسبان بوجود أو حضور جارنا فى الجنوب ( المغرب) بين ظهرانينا : ففى عام 1909 برّانكو ديل لوبو( وادي الذئب) أو إغزار نأوشّن ، وفى عام 1921 معركة أنوال الشهيرة، وفى عام 1934 مغاربة فى أستورياس، وفى 1936 مغاربة فى كلّ مكان خلال الحرب الاهلية الاسبانية ، وفى 1956 هجوم على مدينة سيدي إيفني، وفى عام 1975 المسيرة الخضراء…واليوم المطالبة بسبتة ومليلية والجزر المتوسطية المحاذية للمغرب.

الغوص فى الماضي البهيج

حاول هذا الكاتب في مقاله الآنف الذكر إبراز أنّ التاريخ فى هذه مدينة مراكش العريقة ما يزال حيّا نابضا محتفظا بأصالته، وماضيه، وعاداته، وتقاليده منذ عدّة قرون خلت، يسلّط الكاتب الأضواء على مدى حقيقة التقارب والتداني اللذين يطبعان الشعبين الإسباني والمغربي، خاصّة بعد أن تشبّعت شبه الجزيرة الإيبيرية، وإسبانيا على وجه الخصوص بالإشعاع الحضاري الإسلامي زهاء ثمانية قرون ونيّف .

على الرّغم من كلّ ما سبق، وحسب هذا الكاتب، فإنّ المواطن الإسباني العادي لا يشعر بأيّ نوع من الحقد والضغينة نحو ” المغاربة” الذين إعتاد الإسبان أن يدعوهم بشكل عشوائي ومبهم وببساطة ” لوس موروس” ، كما لو كانت أواصر الدم أقوى وأمتن،وأعمق من ذكريات الحرب والمواجهة.

إنّ المواطن الإسباني يذهب إلى المغرب بواعزٍ قويّ، وبفضولٍ غريب ، وهو بذلك يبدو وكأنّه يشرئبّ بعنقه وعقله ووجدانه على شفا الزّمن ، ويطلّ على تاريخه الشخصي، أو كمن يغوص فى ماضيه الخاص البهيج . ويشير الكاتب : وبالفعل إنه إذا كان هناك مكان فى العالم توقّف فيه العصر الوسيط بكلّ سحره، ورونقه، وبهائه ، فإنّ هذا المكان هو المغرب.

فاس الغرّاء ومرّاكش الفيحاء

فاس الغرّاء ومرّاكش الفيحاء التي تلقب بالبهحة ، فى المدينة الأولى من هاتين المدينتين- يقول الكاتب – أوقفت المرشد السياحي عندما هممنا بالدخول فى شارع ضيّق جدّاً من أزقّة المدينة العتيقة بعد اختراقنا لباب بوجلود العريقة ، وأنا أشير إلى عود أو عمود من الخشب يتوسّط الزقاق،وقلت له متسائلاً :

– هذا الشارع الضيّق يغلق بالليل أليس كذلك .؟!.

-أجل ، ولكن كيف عرفت ذلك ..؟

-لأنّ هذا ما كان يفعله سكّان قرطبة فى القرن الثاني عشر.

نعم إنّ الماضي جاثم وقائم وكائن هنا. إنّ المسلمين عندما يطلقون البارود فإنّما هم يقومون بنوع من العروض العسكرية التي تصفها لنا المذكرات التاريخية القديمة العائدة للقرون الثاني عشر، والثالث عشر، والرابع عشر . إنّ المغرب بأجمعه إنّما هو نقلة نحو الأمس، إنّ التجوال فى مدينة مرّاكش على سبيل المثال هو نوع من الإنبعاث عبر نفق الزّمن الغابر البعيد. كلّ شئ ساكن، ثابت فى الذاكرة والوجدان، وفى الواقع والحاضركذلك، إنّ المغرب هو المكان الوحيد فى العالم الذي ليس فيه مجال لتكرار الصّور، وتوارد المعالم العمرانية، والمآثرالتاريخية لتنوّعها وتعدّد المناظر فيه وثرائها.

يقول الكاتب: إنّني إذا ما بنيت قصراً فى المرتفعات والآكام الجبلية الاسبانية العالية ، فإنّ ذلك سيكون مثيراً للسّخرية، إلاّ أنني إذا شيّدت منزلاً من هذا القبيل فى مراكش- كما فعل بعض أصدقائي- فإنّ أحداً لن يضحك على محاولتي لإعادة إستحضار الماضي ، ذلك أنّ الماضي فى المغرب لم يمت. وهكذا فإنّ العمّال الذين ستسند إليهم مهمّة بناء الدار لا ينحدرون فقط من أصل هؤلاء العمّال الموريسكيين الذين سبق لهم أن شيّدوا دور وقصور قرطبة وغرناطة ، بل إنهم سوف يقومون بهذا العمل المعماري بنفس الصبر، والأناة، والفنيّة ،والمهارة، والاتقان الذي ميّز أولئك. من أجدادهم القدامى

( إنّ المغربي الذي يبني ….مائة مثقال” دوبلاس” كان يكسب فى النّهار….واليوم الذي كان لا يعمل فيه … نفس القدْر كان يخسره كذلك) !.

ويضيف الكاتب قائلا ” بل إنّ هؤلاء العمال المَاهرون سوف يستعملون نفس المواد ،والأدوات التي إستعملت فى قرطبة وغرناطة .إنّهم سوف يعيدون نفس اللّمسة والمهارة العريقتين القديمتين سواء بالنسبة لهؤلاء الذين يشتغلون بالطّوب (استقرّت هذه الكلمة في اللغة الاسبانية اليوم باسم Adobe ، ) أو بالفخار ( وهذه باسم Alfarería ،وصانع الفخار أو الخزّاف الى Alfarero أو بالفضّة، أو الذهب.

إنّ الذي يتيه فى فاس العتيقة يمكن له أن يجد نفسه فى لمح من البصر داخل زقاق لا مخرج له، سوف يغمره إحساس وكأنّه ثمل . وبينما تكون لسعة رائحة الجلود المدبوغة تزكّم أنفه، فإنّ عينيه تملأهما ألوان قويّة مشعّة خضراء، حمراء، وزرقاء، صفراء ،تنبعث من مستودعات المياه، والحفر، والغمر حيث يتمرّغ الدبّاغون تماماً بالضبط كما كان يفعل أسلافهم فى هذه الحرفة فى إسبانيا القديمة خلال الوجود الإسلامي بها .

جامع الفنا أشهر ساحة العالم

” ساحة جامع الفنا” الشهيرة بمدينة مرّاكش في العالم أجمع اذا كانت قد أصبحت اتراثاً إنسانياً اليوم ، تحت رعاية منظّمة اليونسكو العالمية ، فالفضل فى ذلك كما هو معروف يعود للكاتب الإسباني المعروف الراحل خوان غويتيسولو، الذي إختار هذه المدينة الساحرة مكاناً أثيراً لإقامته، وعيشه، وإبداعه ،ويقول الكاتب فرناندو ديّاث بلاخا : إنه لكي نغوص فى عمق التاريخ ، ونجول فى الماضي البعيد ،ونتسربل بردائه ينبغي لنا أن نقوم بإطلالة على السّاحة العمومية الكبرى بمرّاكش التي يطلق عليها سكّان هذه المدينة إسم “ساحة جامع الفنا “، إنّ ساعة اليد فى هذا المكان السّحري قد تتحوّل إلى ساعة شمسية، أو مائية، أو رملية، إذ نشعر ونحن فى خضمّها أنّنا قد عدنا الزّمانَ القهقرىَ مئات السنين، إنّها السّاحة التي تروىَ فيها (بضمّ التاء) قصيدة ” السّيد” و” لاثيليستينا” و ” كورباتشو”، إنها ساحة شاسعة،واسعة، كاملة، وشاملة تماما كما كانت موجودة من قبل عندما كان عنصرعدم الرّاحة غير متوفّر فى الدّور،والقصور، وفى المساكن، والمنازل فإنّ هذه الاخيرة كانت تقذف بالناس منذ الصباح الباكر إلى الشارع حيث تتجسّد الحياة الدائمة الدّائبة اليومية للمواطن ،هناك يمكنك أن تأكل ، وتشرب، وتفاوض، وتناقش،أو أن تلهو .الكبار من أجل المال، وقوت اليوم، والصّغار من أجل التسرية والتسلّي، وفوق ذلك كلّه ترى أشياء مثيرة فى أغرب عروض حلقية (نسبة إلى الحلقة) فى العالم. حيث يغدو الشارع شبيهاً بسيرك كبير مقسّم إلى أطراف، وأجزاء ،إلى أناس يتجمهرون زرافات ووحدانا فى كلّ مكان ،تتوفّر فيه جميع الاذواق التي تستجيب لكلّ الرّغبات والأهواء، وترضي كلّ الأعمار.

قصص خرافيّة وأساطير وحكايات

هناك تجد الرّجال البهلوانيين ، ومروّضي الدّببة (كذا)،والقردة،والأفاعي، والمعز،هناك يوجد الباعة والمشترون تتخلّلها تلك المناقشات و”الشطارة” اليومية ،و” المساومة” الدائمة التي لا تنتهي حول الأسعار التي تشكّل جزءاً مهمّا جدّا من الحياة الإجتماعية للمواطن المغربي ، وللأجانب كذلك اليوم. ..!

حفظك الله يا رجل، كيف ترفض شراء شئ فقط لأنه قيل لك أنه باهظ الثمن..؟!

إنكم سوف تهينون البائع حتى الموت ، هذا الذي يساوم بدوره حتّى على كأس الشّاي ، سبب وجود وقوت بائعه اليومي..!

كذلك نجد هناك علاوة على ما سبق هؤلاء الذين يجمعون بين ماضي الأمس، وحاضر اليوم. إنهم ” الحلائقيّون” الذين يروون أبهى القصص، وينسجون أغرب الحكايات الأسطورية تماماً كما كان يفعل أجدادهم فى القرون الوسطى. إنّ الأغلبية السّاحقة للمستمعين المتفرّجين والمتتبّعين لهذه القصص والحكايات – مثل سابقيهم – لا يعرفون القراءة ولا الكتابة ،ولهذا فإنّهم يسعون إلى إشباع الأذن بما لا يستطيع المتفرّج أو المتتبّع الوصول إليه،أوالحصول عليه بواسطة العين، إنهم هناك مشدوهون ، مشدودون،مندهشون، يقظون، وقد كوّنوا حلقة مستديرة كبرى بإحكام حول الرّجل الذي غالبا ما يكون طاعنا فى السنّ، أو نازلاً مُنحدراً من أعالي الجبال، يحكي بوتيرة مسجوعة ومنغّمة قصصا مثيرة، وحكايات مدهشة،وأساطير مهولة تدور حول أميرات حسناوات صاحبات العفّة والصّون، وربّات الدلال والجمال، كما أنه يحكي عن الأشرار الذين يرجّحون كفّة الشرّ على جانب الخير ، وحول الفوارس المغاوير، والفرسان الشجعان الذين يرفعون عاليا ألوية الخير، ورايات النبل، وبنود الكرامة الخالدة منذ الأزل.

بنفس أسلوب التغنّي الذي طبع حكايات” السّيد” (EL Cid Campeador ) يجعلون المستمعين يعيشون فى كلّ لحظة وحين عن كثب الموقف المرويّ. أتذكرون…؟ ” سوف ترون سهاماً ونبالاً تصعد وتهوي” عندما يتمّ وصف المعركة،أو” آه لو حضر السّيد القمبيطور”.. هكذا يقال عندما يكون الرّاوي يكاد أن يوشك من الإنتهاء من روايته – ومثلما كان يحدث فى القرن الثاني عشر- يمنحه المستتمعون المتتبّعون فى الأخير بضع دريهمات ، ثمّ يعودون إلى دورهم ليحلموا بما سمعوا ،واستمتعوا ، بينما يكون المتفرّجون الأجانب – نحن المسيحييّن الغربييّن – ندلف إلى غرفنا فى الفنادق الفخمة ، لنعود ونسقط بعنف على القرن الواحد والعشرين..!.

*كاتب وباحث ومترجم من المغرب ، عضو الاكاديمية الاسبانية الامريكية للآداب والعلوم بوغوطا كولومبيا.

Share
  • Link copied
المقال التالي