معاداة اروافة واقع أم توهم؟
أثارت انتباهي، وذكرياتي كذلك، صرخة سيدة تعرضت وتتعرض لتهم التخوين، والانفصال، والمرتزقة، والأوباش، واولاد الصبنيول، كما يتعرض لها كثير من ساكنة الريف، والمولودون على أديمه، من قبل أناس لا يحترمون شركاءهم في الوطن الواحد، أو انهم عديمو الأخلاق الحميدة. ويتضح أن بطاقة التعريف الوطنية، واللكنة اللغوية المحلية قد تكونان سببا كافيا لإصدار تلك التهم والأحكام. ذكرت صاحبة الصرخة الاحتجاجية، في الفيديو المرفق، أن ولادتها في إقليم الحسيمة، وفقا لما هو مسجل في بطاقة تعريفها الوطنية، يكون وراء وصفها بتلك التهم مجتمعة، أو بإحداها على الأقل؛ كلما توجهت إلى جهة معنية بقضاء غرض إداري ما، أو شأن من شؤون حياتها، تواجه بالصفات المذكورة أعلاه، لا لشيء إلاّ أنها ولدت في إمزورن بإقليم الحسيمة؛ وفقا لتعبيرها.
والواقع أن ما ذكرته هذه السيدة خطير، وخطير، وخطير، بالنسبة إلى كل مغربي – مغربي. وقد سبق لمواطنين أو “رعايا” مغاربة، وأنا من بينهم، أن استنكروا، كتابة، تكرار مثل هذه التصرفات والتهم والأحكام الموجهة ضد سكان الريف بخاصة، وسكان الشمال بعامة. وبالمناسبة، فإن ساكنة المناطق الجنوبية، التي كانت محتلة من قِبل إسبانيا، تشترك مع اروافة في في صفة وتهمة “أولاد الصبنيول”، كما أشارت إلى ذلك وسائل إعلام مغربية في أكثر من مرة.
ونتساءل بمرارة: هل الدولة “الوطنية” وحكوماتها المتعاقبة على المغرب، منذ الاستقلال إلى اليوم، ومراكز التوجيه والقرار فيها، على علم بالأوصاف والتهم التي تطلق على ساكنة الريف، وعلى المولودين في مجاله الجغرافي؟ وماذا فعلت لتتجاوزها وتصحح هذه الأحكام المخالفة لدستور المملكة، ولأخلاق المغاربة الشرفاء، وماذا عملت على محو آثارها المخربة لوحدة الشعب المغربي؟ أم أنها عاجزة عن حماية جميع المغاربة من مثل هذه التصرفات والأحكام المثيرة للمشاعر الجماعية لدى الساكنة، والمتسببة في خلق ردود أفعال سلبية بين مكونات المجتمع المغربي المعتز بوئامه التاريخي، والفخور بتاريخه السياسي والقيم الوطنية المشتركة؟ أم أن الحكومات المغربية هي التي وقفت وتقف وراء تلك التهم قصد تحقيق أهداف غير معلنة، أو لا تريد التصريح بها لأسباب تخصها، وتلجأ لتعليل ذلك باستخدام عبارات من مثل: إنها تصرفات معزولة وفردية؟
من يعادي الريف؟ ما الأسباب، وما الأهداف؟
يجب التنويه بأن عبارة “تصرفات معزولة وفردية” يَلُفُّها كثير من الشك السلبي؛ وإلا كيف يمكن أن يستمر إطلاق هذه الأوصاف والأحكام الجاهزة والتهم الموجهة ضد اروافة، منذ اللحظات الأولى للاستقلال إلى اليوم. لقد قاسى كثير من الساكنة، حتى في طفولتهم، وأنا من بينهم، من بعض تلك التهم، منذ أن كان حزب الاستقلال، قبل انشقاقه على نفسه، يصف الريفيين بالخونة وعديمي الوطنية، وبالانفصاليين، ويوم قام الكولونيل أوفقير وولي عهد المملكة مولاي الحسن بن محمد الخامس بـ”تربية” اروافة؛ حسب تعبيره في ندوته الصحافية في فبراير سنة 1959؛ وقد أكد الملك الحسن الثاني في خطابه المشهور في يناير 1984 أن سكان الشمال عرفوا ولي العهد في 1958 وخير لهم ألاّ يعرفوه ملكا.
وأؤكد مرة أخرى انني وُصِفت، وأنا في سن البراءة، كما يقال في مختلف الثقافات، بابن الانفصاليين والخونة، ومْساخَط سيدنا، وابن الصبنيول. والعجيب الغريب أن أغلب المعلمين القادمين من المنطقة السلطانية (الفرنسية) إلى الريف كانوا يعاملون التلاميذ بقسوة، تعكس، ربما، اقتناعهم بتلك الصفات التي من الممكن أن يكونوا تلقوها من الذين بعثوا بهم إلى المنطقة. ولطالما أحس المشتكون من ظاهرة العداء لهم بأن لا حياة لمن تنادي، وربما اعتقدوا بأن المسؤولين لا يعطون أي أهمية لشكاياتهم واحتجاجاتهم، بل قد تكون سببا في تأكيد التهم الجاهزة، كما فعلت الأحزاب الحكومية الستة يوم 14 مايو 1917 حين اتهمت المطالبين ببعض حقوقهم الاقتصادية الاجتماعية والثقافية بتهديد سلامة الوطن، وبالنزوع إلى الانفصال.
أسئلة وأسئلة، فهل من جواب؟
هناك أسئلة جادة يجب طرحها على كل من يهمه أمر المغرب، أرضا، وشعبا، ودولة ضامنة لحماية المغاربة ووحدة ترابهم في الجهات الأربع للمملكة، وفقا لقيمهم الوطنية ولنص الدستور. منها: ما هو الريف في نظر من يطلق هذه الأوصاف والأحكام على اروافة؟ وهل يدرك آثارها الخبيثة في نفوس الساكنة، وفي مشاعر كل المغاربة الشرفاء حيثما كانوا؟ وماذا فعلت السلطات المعنية برعاية القيم الوطنية، وثقافة الإخاء الوطني بين مختلف مكونات المجتمع المغربي، للحد من هذه الظاهرة التي يبدو أنها تزداد انتشارا واستفحالا، بعد أكثر من ستين عاما على قيام الدولة الوطنية؟ وما موقف هذه السلطات ممن يدعو إلى إلصاق تلك الأوصاف والتهم بساكنة الريف، أو يروّج لها؟ وهل الريف، في زمن الاستقلال يُعتبر، في نظر تلك السلطات، مجرّد مجال جغرافي على البحر المتوسط يزين الخريطة البحرية للمغرب المُنتفِع لا غير؟ أما ساكنته، وحاملو بطاقة تعريف تشهد على ولادتهم هناك، فيجوز وصفهم بتلك الأوصاف الخمسة المتقابلة مع أركان الإسلام الخمسة؟
أما الأسئلة الأخرى الأكثر جذرية فتتعلق بمعرفة من صنع وأسس لنشر تلك التهم والأحكام، وتهدف إلى فك لغز الأوصاف الخمسة ضد اروافة؛ وتتمحور بصفة خاصة على أمر المغرب السياسي والاجتماعي والثقافي، وعلى من أسس لتهمة الريفين بالانفصال، وعلى من أضاف تهما أخرى ورسخها، لكي تشكل أحكاما جاهزة يطلقها مغاربة على مغاربة آخرين بوعي منهم أو بدون وعي؟
يرجح البعض أن التأسيس لإصدار هذه الأحكام يعود إلى قائد الاحتلال الفرنسي للمغرب، الجنرال ليوطي، Le général Lyautey ، الموصوف في كتابات فرنسية بأنه مؤسس المغرب الحديث Fondateur du Maroc moderne، وهو، في الوقت نفسه، المقيم العام الفرنسي الأول في المغرب لمدة 13 سنة، وهو الراسم لوجهته السياسية المستقبلية، ومنها البوادر الأولى لتأسيس نظام الدولة المغربية المركزية الذي ترسخ عقب الاستقلال، المقتبس من النظام السياسي الفرنسي، ومنها نقل العاصمة السياسية من فاس إلى الرباط، وتركيز الحياة الاقتصادية في مدينة الدار البيضاء، ومنها تقسيم المغرب إلى مغرب نافع ومغرب غير نافع، وقد استمر ذلك أيضا في زمن الاستقلال، واستثنيت منه الآن مدينة طنجة، وقد كانت مدينة دولية زمن الاستعمار، بل أن اليوطي هو من حدد شكل العَلَم الرسمي للمغرب، والموسيقى التي اعتمدت، في الستينيات من القرن الماضي، في تلحين النشيد الوطني الرسمي،.
لم يكتف ليوطي برسم صورة المغرب السياسية لمغرب المستقبل فقط، بل أنه ساهم في خلق شريحة اجتماعية، يُطلق عليها في الغالب “ورثة الاستعمار”، التي تعتبر اليوطي المصدر الأول لتحضّر المغرب وتقدمه الراهن، كما كان سلفيون مغاربة يزعمون أن اعتناق المغاربة للإسلام يعود الفضل فيه إلى عقبة بن نافع.
ومن جانب آخر، يعلم المغاربة الأحرار أن اليوطي وأجهزة مخابراته، وخبرائه في الإعلام والحرب النفسية، كانوا وراء إطلاق صفة “الروغي ROUGUI”، أي الثائر على السلطان المغربي، على محمد بن عبد الكريم الخطابي، قائد حرب المقاومة وتحرير شمال المغرب من الإسبان. ويبدو أن اليوطي أقنع السلطان مولاي يوسف بأن الخطابي يريد عرشه، وأقنع حكومة بلده بأن تُنجِد إسبانيا المنهزمة في شمال المغرب على يد المقاومة‘ على الرغم من العداء المستحكم بين النظام الجمهوري الفرنسي والنظام الملكي الإسباني، حفاظا على “شرف الاستعمار وهيبته”؛ لأنه كان يعتبر انهزام إسبانيا في المغرب سيعد انهزاما للاستعمار الأوروبي بكامله.
ما حقيقة موقف مولاي يوسف من حركة التحرر في الريف؟
ومهما كان الأمر أو الداعي لنصرة الاستعمار الإسباني من طرف فرنسا، فإن ضغط ليوطي على السلطان وتحريضه ضد المقاومة جعل مولاي يوسف يُصدِر أوامره إلى فقهاء المساجد، (والمساجد في المغرب يومئذ هي الوسيلة الإعلامية الأكثر تأثيرا في القاعدة العريضة للمغاربة،) لدعوة المغاربة إلى محاربة عبد الكريم الخطابي “الفتان”؛ وصفة الفتان سبق للمخزن المغربي أن أطلقها على الشريف محمد أمزيان الذي حارب بوحمارة، وقاد حركة مقاومة التغلغل الإسباني في الريف الشرقي منذ 1909 إلى أن استشهد في 1912.
ويمكن القول: إن السلطان مولاي يوسف أكد ما كان ينسب إليه من عداء لحركة مقاومة “اروافة” للاستعمار، حينما زار فرنسا ليشارك الحكومتين الفرنسية والإسبانية أفراحهما بـ”الانتصار الباهر” على المقاومة، في “حرب الريف”، حسب تسميتهم، واستسلام الخطابي للقوات الفرنسية يوم 26 مايو 1926. ووقع الاحتفال يوم 14 يوليوز 1826، الموافق لإحياء الفرنسيين الذكري 127 لثورتهم على الملكية وإعلان الجمهورية الفرنسية. وهناك في باريس ألقى السلطان مولاي يوسف خطابا أمام غاستون دوميرغ، رئيس الجمهورية الفرنسية، وبريمو دي ريبيرا، دكتاتور إسبانيا، بمعيه مَلِكِه. ومما جاء في خطاب السلطان قوله: «قدمنا إلى هذه الديار عقب الانتصار الباهر الذي أحرزه الجنود الفرنساوية والمغاربة، الذين يرجع إليهم الفضل في قطع جرثومة العصيان من ولايتنا، وتدعيم النظام والسلام،… وإننا لنجد نوعا من الارتياح في الإعراب لفخامتكم عن التأثر الذي خامر نفسنا لحظتما شاهدنا مرور الآليات المتآخية التي تمثل أولئك الشجعان الأشداء الذين أظهروا في ميادين أيالتنا آيات ومعجزات من البطولة والصبر والثبات، فلشخصكم يافخامة الرئيس نرجو خير الرجاء وكامل السعادة، ونرفع كأسنا لنشربها نخب عظمة فرنسا ورفاهيتها». (نشرت جريدة “السعادة”، التابعة للإقامة العامة الفرنسية نص الخطاب في 20 يليوز 1926).
مما لا شك فيه أن موقف السلطان مولاي يوسف سيبقى يطرح أكثر من سؤال على المؤرخين والباحثين عن أسباب العداء للريفيين، وعلى الذاكرة الجماعية للأجيال المغربية المتعاقبة، بتداعياته المستمرة في الزمان والمكان، وبانعكاساته على المواقف السياسة للحكومات المتعاقبة وحاشياتها، وكذا السلطات المعنية نحو الخطابي ومنطقة الشمال بكاملها.
من المسؤول عن ترسيخ العداء لأهل الريف؟
يبدو أن خطاب الملك الراحل، الحسن الثاني، في يناير 1984 الذي وصف فيه أهل الناظور والحسيمة وتطوان والقصر الكبير بالأوباش قد رسّخ وعمّق التهم الموجهة ضد الريفيين والشماليين بعد تأثير الحرب النفسية الفرنسية الموجهة ضد مقاومة الريفيين والشماليين، وبعد رسائل السلطان مولاي يوسف إلى فقهاء المساجد، ثم خطابه في باريس، المشار إليه أعلاه، وبعد ترديد تهمة “مْساخَط سيدنا” وتهمة “خيانة الوحدة والحركة الوطنية”، أثناء مطالب ساكنة الريف بالحد الأدنى من حقوقهم في وطنهم المغرب سنة 1958. كل ذلك يتحمل مسؤولوه استمرار ترديد تلك الأوصاف والتهم الجاهزة والأحكام المسبقة ضد اروافة؛ فهل من إجراء وفعل يؤديان إلى تجاوز ما اسميناه “أخلاق خبيثة”؟
استبشر سكان المنطقة بإمكان بزوغ فجر جديد، على المنطقة وعلى المناطق المهمشة أو المغضوب عليها من قبل العهد السابق، بتولية محمد السادس عرش المغرب، وما صاحب ذلك من زيارت ملكية إلى أقاليم الشمال والريف بصفة خاصة. وكانت الزيارات تتم باستقبالات رائعة لا يماثلها إلا الاستقبالات التي خصصت لزيارات الملك محمد الخامس. أما الملك الحسن الثاني فعاطفته ومزاجه لم يكونا، على ما يظهر، لصالح الريف والمنطقة، منذ ما قبل توليته عرش المغرب، وهو لم يستطع أن يخفي ذلك في خطابه الموصوف بـ “خطاب الأوباش”، المشار إليه أعلاه.
كان تأسيس هيأة الإنصاف والمصالحة سنة 2004 وما حملته من آمال لبداية مغرب جديد يتمتع فيه جميع المغاربة، دون استثناء بحقوقهم في وطنهم، وفقا للعهود التي قدمها الملك محمد السادس أمام شعبه. ووفقا لما نص عليه دستور سنة 2011، وتأكيد عاهل البلاد عزمه السير بالمغرب، كل المغرب، نحو القطيعة النهائية مع ليل الأمس، في ظل احترام التعدد السياسي والثقافي للمغرب.
ما العمل؟
غير أن ما جرى في الواقع على الأرض، وخاصة في الريف، كان أكثره مخيبا لتلك الآمال؛ فلا فكّ العزلة قد تحقق، ولا شغل للساكنة قد توفر، ولا مستشفيات جامعية قد أنجزت، لأن المنطقة لا جامعة فيها، ولا عدالة اجتماعية أو تكافؤ الفرص أصبح بديلا للظلم الاجتماعي، رغم وعود ووعود. وحين قام شباب بالاحتجاج والتظاهر السلمي مطالبين بتحقيق ما “بشرت” به هيأة الإنصاف والمصالحة، والمشاريع التي وعدت بها الدولة في مواثيق رسمية. وبدل تفهم مطالب حراك الشباب الاجتماعي، ووجه أولئك الشباب بتهمة تهديد سلامة الوطن والنزعة الانفصالية، من قبل الأحزاب الستة الحكومية في 14 مايو 2017. وكان ذلك إيذانا باعتقالهم والحكم عليه بالأحكام المعروفة. أما أحزاب المعارضة الممثلة في البرلمان فقد سكتت، باستثناء حزب يساري ممثل بمقعدين فقط. وما يتلفظ به أنصار الأحزاب ضد اروافة يؤكد أن الناس على نهج زعمائهم وأحزابهم ونقاباتهم. فهل يجوز أن نحمل مسؤولية إلقاء التهم الخمسة على اروافة لأناس عاديين، ونعلل ذلك بأنها “تصرفات فردية معزولة”.
نعم أخطأ محتجو حراك الريف في استعمال بعض التعبيرات أثناء احتجاجاتهم السلمية، كما يمكن أن يخطئ أي إنسان نتيجة الضغوط الممارسة عليه، وليس ناجمة عن إرادة ذاتية أو جماعية. ومن هنا لا نرى وجود أي مبرر لإعلان أحزاب الحكومة المشترك على التلفزة المغربية ما أعلنوه. وها نحن نرى ونعيش التصرفات وإلقاء التهم والأحكام المسْبَقة على جزء من الشعب المغربي، دون أن تحرك السلطات ما يجب تحريكه لحماية كل المغاربة من أوصاف مشينة وحاطة بانتمائهم إلى الوطن المشترك.
فما العمل؟؟؟؟؟
*مفكر مغربي ودبلوماسي سابق مقيم في كندا
تعليقات الزوار ( 0 )