“لأي مواطن الحق في الهواء والشمس والحرية وله أيضا الحق في الثقافة” بهذه الكلمات دافع عميد المسرح المغربي عبد القادر البدوي -في حوار صحفي- عن حق البسطاء وسكان المدن الصغيرة والقرى في العروض المسرحية.
ويعتبر البدوي، الذي وافته المنية صباح اليوم الجمعة بالمستشفى العسكري بالرباط، واحدا من رواد المسرح المغربي، ومؤسس فرقة البدوي التي تعد من أشهر وأعرق الفرق المسرحية بالمغرب.
ونعى فنانون مغاربة رحيل البدوي عن عمر 88 سنة، ووصفوه بالهرم والفنان المبدع الذي ترك بصمة وأثرا في أجيال من الفنانين.
كما نعت البدوي “النقابة المغربية لمهنيي الفنون الدرامية” عبر “فيسبوك” واصفة إياه بـ “أحد أهم رجالات المسرح المغربي تأليفا وإخراجا وتمثيلا”.
وقال الممثل ورئيس النقابة الوطنية لمهنيي الفنون الدرامية مسعود بوحسين للجزيرة نت “كان مدرسة في التكوين وشكل عائلة فنية كبيرة أثرت في المسرح المغربي”.
وبكلمات مؤثّرة، ودّع الراحل فنانون وناشطون، مستذكرين أعماله التي وصفوها بـ “الخالدة” خاصّة وأنّه أغنى المسرح لأكثر من 6 عقود بالكتابة والإخراج.
ونشر الفنان الصديق مكوار صورة الراحل على تطبيق إنستغرام، وأرفقها بتدوينة جاء فيها “رحم الله الأستاذ عبد القادر البدوي واحد من أهم ركائز المسرح المغربي ورائد من رواده، تعازي الحارة والخالصة لفرقة البدوي للمسرح التي كان لي شرف الانتماء إليها وكل أسرته وألهمهم الله الصبر والسلوان وجعل الجنة مثوى الفقيد”.
وكتب الفنان رشيد الوالي، عبر حسابه على إنستغرام “عبد القادر البدوي في ذمة الله هذا الصباح، بالأمس فقط سألت عنه وقيل لي إنه في حالة جد سيئة، القلب يحزن لكن لا نقول إلا ما يرضي الله”.
بدورها، رثت الممثلة فاطمة بوجو الراحل من خلال نشر صورته عبر حسابه الرسمي فيسبوك، قائلة “اليوم أيضا يغادرنا إلى دار البقاء أحد رواد المسرح الكبار بالمغرب، الممثل والمخرج عبد القادر البدوي، شاهدناه ونحن أطفال في أعمال تلفزية عديدة، وشاهدنا عروضه المسرحية ونحن كبار”.
كما رثته الفنانة لطيفة أحرار قائلة “فاجعة أخرى، الساحة الفنية المغربية تفقد أحد أعلامها. رحم الله المبدع الكبير عبد القادر البدوي”.
مسرح اجتماعي
ولد البدوي سنة 1934 في طنجة، وانتقلت عائلته بعد ولادته إلى حي الأحباس العتيق بالدار البيضاء.
مات والده وهو في ريعان شبابه، فأصبح مسؤولا عن إعالة أسرته، فالتحق للعمل بشركة التبغ وهو في سن الـ 15 من عمره.
لم تحل ظروف عمله في الشركة دون عشقه للركح، فأسس فرقة “أشبال العمال” وتضم زملاءه العمال، وقدمت مسرحيات تدافع عن الطبقة العاملة وتعالج همومها.
كان المسرح بالنسبة لفرقة البدوي، التي تأسست سنة 1952، وسيلة لإيصال صوت المقهورين والبسطاء والدفاع عن حقوقهم في مواجهة المستعمر الفرنسي فترة الحماية، إذ كان يقدم مسرحا نضاليا يحرك مشاعر الجمهور ويلهب عواطفه للدفاع عن استقلال البلاد ويسهم في توعية العمال بحقوقهم من أجل الدفاع عنها.
في فترة الاستقلال كان المسرح وسيلته لتشريح الواقع الاجتماعي، وتفكيك المشاكل العائلية والاجتماعية التي ترزح فيها الطبقة المتوسطة والفقيرة.
يحكي البدوي في أحد حواراته الصحفية أن الشرطة اعتقلته أثناء عرض مسرحية “العاطلون” وكانت تتناول قضية البطالة في مغرب ما بعد الاستقلال.
يقول إن عرض المسرحية تزامن مع ثورة “ماوتسي تونغ” في الصين، وكان الجمهور يلقي كتابه الأحمر على خشبة المسرح خلال العرض تعبيرا عن ابتهاجهم بمضمونه، فتدخلت الشرطة لوقفه إلا أنه أصر على استكمال المسرحية، وبعد انتهائها تم توقيفه واستجوابه بوصفه مؤلف المسرحية وصاحب الفرقة.
يقول بوحسين للجزيرة نت إن البدوي اشتغل على المسرح الاجتماعي وكان يتعرض في مسرحياته، على وجه الخصوص، لقضايا الطبقة المتوسطة والمشاكل العائلية.
ويضيف “هو صوت متميز ومختلف عن أبناء جيله من الرواد” فبينما اهتم مسرح الطيب لعلج بالجوانب الشعبية في الثقافة المغربية، وتناول الطيب الصديقي التراث والمسرح التجريبي، كانت من خصوصيات مسرح البدوي الاهتمام بالبعد الاجتماعي وكانت مسرحياته تجمع بين الجدية في الطرح والصراع الدرامي.
وكان للبدوي تجربة فريدة مع مسرح الفنان المصري يوسف وهبي، إذ قدم معه دورا في مسرحيات “راسبوتين، أولاد الشوارع، المائدة الخضراء” خلال الجولة التي قام بها وهبي في المغرب غداة الاستقلال.
ومن بين الأعمال المسرحية التي قدمتها فرقة مسرح البدوي مسرحيات “الهاربون، غيثة، العاطلون، يد الشر، العامل المطرود، شجرة العائلة، دار الكرم، المعلم زغلول” وغيرها، ناهيك عن تمثيليات للتلفزيون من بينها “نماذج بشرية، نافذة على المجتمع” وغيرها.
المسرح للجميع
بالنسبة للبدوي، فالمسرح لا ينبغي أن يقدم في المدن الكبرى مثل الرباط والدار البيضاء والقاهرة، بل هو من حق البسطاء في المدن الصغيرة والقرى مثلما لهم الحق في الهواء والشمس والحرية، لذلك كان يقوم بجولات تشمل المدن البعيدة في المغرب، ويخصص عروضا موجهة للطلبة يتم الإعلان عنها في الإذاعة.
يتذكر بوحسين هذه المرحلة ويقول “ما زال الإعلان عن مسرحيات البدوي في الإذاعة حاضرا في ذاكرتي، كانوا يقدمون إعلانين، الأول عن عرض البدوي للعموم والثاني عرض خاص بالطلبة يكون ثمن تذكرته زهيد ويتناسب مع وضعهم الاجتماعي”.
خلال عمر مسرح البدوي، الذي أكمل هذا العام عقده السابع، تشكلت ملامح مدرسة رائدة تخرج منها أجيال من الممثلين الذين صاروا نجوما في المسرح السينما والتلفزيون.
ولم يكتف خلال هذا المسار بتقديم مسرحيات مستلهمة من الواقع المغربي، بل قدم عروضا من روائع المسرح العالمي.
“هي تجربة فريدة كانت موضوع أبحاث جامعية” يوضح بوحسين، فقد أنجزت بحوث أكاديمية في العديد من الجامعات المغربية والدولية عن مسرح البدوي وخصوصياته.
وكما كان يُشرح قضايا المجتمع على خشبة المسرح، كان البدوي مدافعا شرسا عن قضايا الفنانين والمسرحيين، وكان ضمن مجموعة من المسرحيين المحترفين الذين استقبلهم الملك الراحل الحسن الثاني في قصره للمشاركة في لقاء خصص لوضع إستراتيجية لقطاع المسرح سنة 1991.
كان من نتائج هذا اللقاء تنظيم المناظرة الأولى للمسرح الاحترافي، تم خلالها الإعلان عن تخصيص 14 مايو يوما وطنيا للمسرح في المغرب.
لم يكن البدوي مجرد فنان مسرحي، بل كان جزءا من عائلة فنية كبيرة، فشقيقه عبد الرزاق كان مخرجا في فرقة البدوي وزوجة شقيقه هي الفنانة عائشة ساجد وابن شقيقه هو المخرج محسن البدوي.
وكما عشق الفن ونذر حياته للمسرح، فقد أورث هذا العشق لابنتيه كريمة التي كان لها ظهور بارز في الدراما المصرية، وحسناء الممثلة والمخرجة المسرحية وهي حاليا المديرة الفنية لمسرح البدوي.
تعليقات الزوار ( 0 )