شارك المقال
  • تم النسخ

الصحراء المغربية: وشيج العلاقة بين الصحراويين والمركز والعائق الجزائري

نهض المرابطون من جنوب الصحراء إلى الشمال، معلنين عن إنشاء دولة موحدة وقوية، عاصمتها مراكش، ومنذ ذلك الحين، والصحراويون مندمجون داخل دولتهم، ولم يشكلوا في يوم من الأيام أي حركة انفصالية عن السلطة المغربية المركزية، سواء في العهد المرابطي، أو في العهود والدول اللاحقة، إلى عهد العلويين.

وهكذا كان الصحراويون يرتبطون بعقد البيعة مع سلاطين المركز، ويخصصونهم بالدعاء على المنابر، ويغدقون عليهم بالهدايا.

الدكتور عبد الله الجباري

ووشيج العلاقة بين الصحراويين والمركز ليست في حاجة إلى الاستدلال، نظرا لكونها من المسلمات التاريخية، والبدهيات العقلية، وهذه القضية وأمثالها يصدق عليها قول الحكيم المتنبي:

وليس يصح في الأفهام شيء//إذا احتاج النهار إلى دليل.

وفي هذا المقام، نستنير بإشارات دالة على وحدة اللحمة بين مكونات المجتمع المغربي، ورموز الوحدة عبر التاريخ.

أولا: ورد في المعيار للونشريسي 9/542 سؤال من أهل الصحراء المرابطين موجه إلى ابن رشد، مفاده أن قبائل متعددة كانوا يتغاصبون الماشية فيما بينهم، وهذا الغصب قديم موروث من أجدادهم، ونظرا لتورعهم، وجهوا للفقيه عدة أسئلة، منها:

** هل يجوز لأحدهم أن يبتاع من ذلك المال المغصوب أم لا؟  

** هؤلاء القوم “يهدون إلى أمير المسلمين ناصر الدين أيد الله أمره من تلك الإبل المغصوبة فيما بينهم، هل يسوغ لأحد أراد التورع إن وهبه أمير المسلمين من تلك الإبل شيئا أن يأخذه أو لا”؟

** “هل يسوغ له أيده الله أن يثيبهم على هديتهم من بيت مال المسلمين أو لا”؟

** هؤلاء القوم “يهدون لأمير أمّره عليهم أمير المسلمين، وهو ممن يغصب مثل غصبهم، وأن ذلك الأمير يهدي إلى أمير المسلمين أيده الله تعالى من تلك الإبل المغصوبة، هل يسوغ لأحد أخذه إن أعطاه أمير المسلمين أيده الله إياه أم لا”؟.

نقف مع هذه النازلة وقفات متعددة، لنتعرف على الثاوي من ألفاظها، ودلالة ذلك على واقعنا.

1 – لم يطلب هؤلاء الصحراويون الفتوى من أحد من شيوخ الصحراء، كما لم يلتمسوها عند شيوخ مراكش أو فاس أو سبتة أو غيرها، بل وجهوها إلى ابن رشد مباشرة بالعدوة الأندلسية.

2 – رمزية ابن رشد ليست باعتباره فقيها كسائر الفقهاء، بل كونه الفقيه الرئيس للدولة، إليه توجه استفتاءات السلاطين، كسؤال السلطان المرابطي عن أئمة الأشاعرة والموقف الشرعي منهم، إضافة إلى أن رجال الإفتاء يستشيرونه ويعرضون عليه فتاويهم، كالقاضي عياض بسبتة. لذا كان سؤال هؤلاء الصحراويين الموجه إلى ابن رشد، ذا رمزية خاصة، لأنهم لا يتعاملون مع ابن رشد الشخص، بل يتعاملون معه باعتباره مؤسسة رسمية من مؤسسات دولتهم التي ينضوون تحت لوائها.

3 – تضمنت النازلة أن هؤلاء الصحراويين يهدون لأمير المسلمين من ماشيتهم، وهذا دليل أصرح من سابقه على الوحدة، إذ لو كان عندهم أمير أو رئيس لما ارتبطوا بأمير المسلمين.

4 – أطلق المستفتون على السلطان عبارات “أمير المسلمين – ناصر الدين” مشفوعة بالدعاء “أيد الله أمره”، وهي عبارات دالة على أنهم تحت نفوذه، وليسوا أجانب عن سلطنته.

5 – تضمنت الفتوى أن الوسيط بين هؤلاء الصحراويين والسلطان هو “أمير أمّرَه عليهم أمير المسلمين”، وهي إشارة دالة على وجود تنظيم إداري حينها، يؤطر العلاقة بين الصحراويين والإدارة المركزية، وأن السلطان عيّن عليهم ممثلا له، وهو الذي تسلَّم إليه تلك الهدايا موضوع الاستفتاء.

6 – لم يكن السلطان في موقع الآخذ فقط، بل كان يأخذ الهدية ويثيب عليها، فيعطي لبعض أولئك الصحراويين شيئا من تلك الإبل المهداة إليه من قِبلهم، لذا سألوا عن جواز أخذها منه من عدمه.

هذه الإشارات تدل على وشيج العلاقة بين السلطان المغربي وأبناء الصحراء في عهد اللمثونيين، كما تدل على خلو الصحراء من أي تنظيم مستقل عن السلطة المركزية، إمارةً كان أو إقطاعا أو مشيخة.

ثانيا: اشتهرت في الصحراء سبخات متعددة هي من أهم مناجم الملح في المنطقة، وبعضها في منطقة طرفاية، وكانت معاملاتهم في هذه الملح وفق عقد السَّلم، ووقع الخلاف بين فقهائهم حول السّلم، هل يجوز فيها بالشبر أم بالوزن؟ لذا احتكموا إلى الفقيه محمد بن عبد الكريم الأغصاوي رحمه الله كما في المعيار 5/136، ملتمسين منه الفتوى والقول الفصل في النازلة، وهو من علماء منطقة اغصاوة القريبة من وزان، وفي الإحالة عليه دليل على الوحدة بين الجنوب والشمال.

ثالثا: إذا تجاوزنا القرون الماضية، وبحثنا في العلاقات الصحراوية بالمركز في الأمس القريب، عهد السلطان الحسن الأول (1873-1894)، فإن اللحمة لم تنقطع بين أطراف الدولة ومكوناتها، ولما تعرضت السواحل الصحراوية في عهده إلى محاولات الاختراق الأوربي المتكررة، فإنه كان يوجه رسائل الاستنكار إلى ممثلي الدول بطنجة، ولم يواجهه حينها أحد من سفراء تلك الدول بكون الصحراء خارجة عن حدود دولته. كما أنه كان يتواصل مع أبناء الصحراء وزعمائها، وكان يدعمهم بالسلاح والمال لرد عدوان المعتدين، فهل كانت هناك “دويلة” صحراوية تقوم بهذا الواجب؟

ولما أسر الصحراويون من قبائل واد نون بعض التجار الإسبان سنة 1876، لم تتوجه إسبانيا إلى حكام الجزائر لإطلاق سراحهم، بل أرسلت بعثة بقيادة إدوار دو رومية E. Romea إلى السلطان الحسن الأول مطالبين بإطلاق سراح هؤلاء الأسرى، وهذا دليل على إيمان الإسبان بالوحدة المغربية، وأن الصحراء والصحراويين ليسوا سوى جزء من المغرب، وليسوا جزءا خارج المغرب.

رابعا: في هذا السياق الوحدوي، أرى لزاما الحديث عن شخصية محورية في العصور المتأخرة، وهو رمز للوحدة المغربية، أعني به الشيخ ماء العينين رحمه الله.

الشيخ ماء العينين هو والد المقاوم الثائر أحمد الهيبة، أما والده فهو الشيخ محمد فاضل بن مامين الإدريسي، من مواليد الحوض بجنوب موريتانيا. وكانت تربطه وعائلته علاقة البيعة بالسلطان المغربي.

توجه الشيخ ماء العينين إلى مكناس، وحل ضيفا على السلطان مولاي عبد الرحمان، واشتهر أمره وذاع في كل ربوع المغرب، وكان الحسن الأول يرغب في لقائه عند زيارته إلى واد نون، لكن ذلك لم يتيسر، فلحق عليه الشيخ ولقيه بمراكش، وتكررت زياراته إلى السلاطين في مناطق الشمال، بمراكش أو فاس، سواء عند الحسن الأول أو ابنه عبد العزيز، وكانت له شهرة في الصحراء وعموم بلاد المغرب، وله أتباع في مراكش وسلا وفاس، وله زوايا متعددة، وقال عنه الحسن بن الطيب بوعشرين في “التنبيه المعرب” ص:177 ما نصه: “ما رأيت اليوم بالمغرب الأقصى أشهر من الشيخ ولا أكبر منه قدرا عند العلماء والكبراء وأهل الوقت والأمراء”، فكان أشهر شخصية دينية في المغرب كله، لا فرق بين شماله وجنوبه، ولمكانته عند السلطان، قبل شفاعته في الشيخ محمد بن عبد الكبير الكتاني رحمه الله، فعفي عنه ورجع إلى بلده فاس.

وننقل نصا لبوعشرين حول بعثة ماء العينين لابنه أحمد الهيبة إلى السلطان، وأن هذه البعثة كانت بهدف: “المفاوضة في أمر النصارى وشيوعهم بتلك البلاد الصحراوية، وطلب الإعانة منه بالسلاح المماثل لسلاحهم، والإذن في جهادهم”.

لقد استوطن الشيخُ ماء العينين الآتي من موريتانيا جنوبَ سوس، وامتد نفوذه إلى الصحراء، ولما أراد مواجهة الغزاة، لم يجد بدا من طلب المعونة من سلطان الدولة ورئيسها، مع استئذانه في الجهاد، وهذا الاستئذان وحده دليل على بسط نفوذ السلطان على تلك المناطق، إذ لا يُطلب – فقها – الإذن بالجهاد من غير الإمام، وقد أذن له في ذلك، وزوده كما يحكي بوعشرين بكثير من المكاحل، وهي بنادق الحرب. 

هذه الشخصية الوحدوية تحتاج إلى دراسات معمقة، تبين كيف كان هذا الشريف الصحراوي ذو النفوذ الواسع لا يتحرك إلا في إطار الوحدة المغربية، مع العلم أنه لو أراد الانفصال عن المركز وتأسيس دولة كبيرة في عموم الصحراء (من جنوب سوس إلى شمال السنغال) لفعل ذلك، لما كان له من النفوذ والعلاقات والذكاء.

واستمر الأمر بين المركز والصحراء على هذا المنوال، إلى أن وقع العالم كله تحت تأثير ما سمي حينها بالحرب الباردة، فاستغل معمر القذافي بعض المغاربة، وبث في أذهانهم فكرة الانفصال، وهي الفكرة التي لقيت الترحاب من قبل هواري بومدين بالجزائر، فتأسست جمهورية صحرواية زنيمة لا أصل لها في التاريخ، ولا امتداد لها في الجغرافيا، وهي الدويلة التي لم يعترف بشرعيتها حتى المعارضون للنظام المغربي، مثل الأستاذ عبد السلام ياسين، المعارض القوي للحسن الثاني رحمهما الله تعالى، لأن الحس الوطني يتعالى على الحسابات السياسية رغم أهميتها. كما أن هذه الدولة لم يعترف بها رموز العمل السياسي المغربي، كالزعيم الاستقلالي علال الفاسي، أو الحركة الاتحادية بقياداتها المتعددة (عبد الرحيم بوعبيد – عبد الرحمن بن عمرو)، إضافة إلى عدم الاعتراف بشرعيتها من قبل العلماء، وقد سبق لوفد من السفارة الأمريكية أن زار الشيخ عبد العزيز بن الصديق في بيته بطنجة بداية التسعينيات، ولما سألوه عن قضية الصحراء والموقف من البوليساريو، أجابهم جوابا مختصرا ودقيقا، مفاده أن هؤلاء جماعة من البغاة.

هذه الدويلة الفاقدة للشرعية، مع الأسف، ليس لها من دعم قوي إلا ما يأتيها من دولة الجزائر، وهذا ما يجعلنا نتساءل عن هذا الموقف المعيق لأي تنمية في الجهة الشمالية من القارة السمراء.

إن الموقف الرسمي للجزائر هو المتمثل في العقيدة العسكرية للجيش الوطني الجزائري، وهي العقيدة المعادية مع الأسف للوحدة الترابية بالمغرب، ونظرا لأن أطروحة الجزائر غير قوية، إذ كيف تدعم جمهورية لا أصل لها ولا امتداد في التاريخ؟، فإن كثيرا من الجزائريين ينقمون على قادتهم بسبب هذا الدعم السخي للانفصاليين، ويتساءلون عن الجدوى منه.

هذه الأطروحة المهترئة ورغم الدعاية الإعلامية التي رافقتها منذ السبعينيات، إلا أنها ذهبت هباء منثورا في جزء منها، لذا نجد جزءا مهما من قياديي جبهة التحرير لم يكونوا متحمسين لتهور هواري بومدين في هذه القضية، خصوصا أنهم كانوا قد خرجوا للتو من ربقة الاستعمار، وكثير من قادتهم لم ينسوا الدعم المغربي الرسمي والشعبي. وبعد هؤلاء، ظهر تيار الجبهة الإسلامية للإنقاذ الرافض لمجموعة من أدبيات النظام الجزائري، ومنه أطروحة الانفصال.

ونظرا لأن العقيدة الرسمية للجزائر لا تؤمن إلا بوجود مغرب مقسّم، فإن الدولة العميقة مستعدة لفعل كل شيء للحيلولة دون بروز رأي مخالف لهذا التوجه، ولعل هذا من الأسباب التي جعلت جهة من جهات النظام تُقدم على اغتيال محمد بوضياف أحد رموز فترة المقاومة، والذي لم يكن له أي ميل نحو أطروحة تقسيم المغرب.

إذا عرفنا أن المغرب موحد بصحرائه وصحراوييه منذ المرابطين وإلى الآن، فما العمل؟

هنا أستحضر مقاربات ثلاث:

الأولى: لا بد من التسلح بالصبر والأناة في موجهة النظام العسكري بالجزائر، وعدم الانجرار إلى رد الفعل غير العقلاني وغير الأخوي، وما طرحه المغرب مؤخرا من فكرة دعم انفصال جزائري مقابل دعمهم للانفصال المغربي قرار غير حكيم، وغير متعقل، ومخالف للقاعدة الربانية “ولا تزر وازرة وزر أخرى”. والشعب الجزائري سيقول كلمته طال الزمن أو قصر، ورأينا كيف نزل إلى الشارع بحراك قوي وأزاح العصابة المدنية من الواجهة، ورأينا بعض الحراكيين ممن أعلنوا سخطهم على الدعم غير المشروط وغير المشروع للبوليساريو.

الثانية: على المغرب أن يغير سياسته الإعلامية، خصوصا في سياق الانفتاح، وأن يسوّق مجموعة من البرامج والأنشطة الإعلامية ذات بعد احترافي، للتأثير على المتلقي الجزائري، مع استثمار وسائل التواصل، بهدف خلق رأي عام جزائري، والتأثير على الجزء المتأثر بأطروحة السلطة، وهذه مقاربة مهمة، خصوصا إذا استحضرنا التراجع المهول لوسائل الإعلام الجزائرية، وضعف تأثيرها على الإنسان الجزائري.

الثالثة: المقاربة التثقيفية الموجهة إلى الداخل، لأن المغربي لا بد أن يكون مؤمنا بقضيته، ولا بد ان يكون عارفا بدقائق تفاصيلها، تاريخيا وواقعيا، وهنا نرى أن كثيرا من تلاميذ اليوم، وهم رجال الغد، لا يعرفون الكثير عن هذه القضية، لذا كان لابد من الآتي:

** التركيز على القضية في المنهاج الدراسي في مواد دراسية متعددة، وعدم الاقتصار على مادة دراسية واحدة. 

** صياغة المادة المعرفية بطريقة حرفية تربوية، وليس بطريقة لغة الخشب، لأنها لا تجدي شيئا.

** الإعلان عن مسابقات تحفيزية ذات صلة بالقضية، على مستويات إبداعية متعددة، في الشعر والمسرح والقصة والرسم وغيرها، ويمكن جمع هذا كله في أسبوع وطني يطلق عليه “أسبوع الصحراء”، مع إعطاء هامش الحرية الإبداعية سواء للمؤطرين أو المتفاعلين.

** تشجيع الرحلة من وإلى الصحراء في إطار الرحلات المدرسية والجامعية أو الثقافية.

إن “قوة الحق” لا تصمد إلا إن حملها الأقوياء على أكتافهم، ومن هذا قوله تعالى: “يا يحيى خذ الكتاب بقوة”، وعلى الدولة المغربية أن تأخذ القضية بقوة، بقوة التاريخ، وبقوة الثقافة، وبقوة القانون، وبقوة الإعلام.

شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي