لا يختلف اثنان على أن “طوفان الأقصى” سيكون عنوان مرحلة جديدة في مسار القضية الفلسطينية.
فعلى مدى تاريخ هذه القضية، وفي كل الظروف والمراحل، لم يحدث أن تم القيام بعمل عسكري بهذا الحجم، وقتل وجرح وأسر كل هذه الأعداد الهائلة، حتى في زمن طغيان شعارات القومية الناصرية، وفي أوج الحرب الباردة.
غير أن ما يهمنا هنا هو تسجيل بعض الملاحظات “الطازجة”، بغض النظر عن التطورات التي سيحملها المستقبل القريب والبعيد.
أولى هذه الملاحظات، أن المفاجأة كانت مذهلة ليس للإسرائيليين فقط، بل للعالم أجمع.
لقد كشف “الطوفان” أن أجهزة المخابرات الغربية ليست بالضرورة “بكل شيء عليمة”، لأن عملية بهذا الحجم وبهذه الدقة تطلبت شهورا، وربما سنوات، من الإعداد، في حيز جغرافي محدود جدا، وتحت سمع وبصر “الموساد” الذي يقدمه كثيرون وكأنه “لا تخفى عليه خافية”، سواء بسبب القدرات التقنية المتطورة التي يتوفر عليها، أو بسبب العملاء الميدانيين النشطين في كل مكان، فضلا عن “التنسيق الأمني”.
ولقد بدا من التخبط الغربي حجم هذه المفاجأة، سواء من خلال تحريك البوارج وحاملات الطائرات، وكأن الأمر يتعلق بمواجهة مع روسيا أو الصين، وليس مع رقعة جغرافية بطول “ملعب لكرة القدم”، أو من خلال مسارعة الاتحاد الأوروبي لقطع المساعدات عن الفلسطينيين قبل التراجع عن هذا القرار العجيب ساعات بعد ذلك، بل ومبادرة الفرنسيين والإسبان للتبرؤ منه علنا.
ثاني الملاحظات، تتمثل في المسارعة إلى نسبة “شرف الطوفان” إلى إيران، وربط ذلك بسعيها لتعطيل مشروع التطبيع السعودي الإسرائيلي، الذي تم الحديث عنه صراحة قبل أيام فقط، والحال أن المحللين الموضوعيين يدركون أن الإعداد لهذه العملية المعقدة تطلب شهورا طويلة جدا، بل إن ألان جوييه مدير المخابرات الفرنسية الأسبق أكد أنه من السابق لأوانه الحديث عن دور إيران في هذه العملية، مع جزمه بأن هناك بالفعل من يقف وراء هذا الطوفان، لكن هويته لن تكشف إلا في المستقبل.
ومن المثير بالمقابل، أن يعمد باحث من مستوى ألان بوير إلى القول بأن “إيران دولة عربية”، وهو المحلل السياسي وأستاذ علم الجريمة الشهير، قبل أن ينساق هو أيضا في اتجاه تحميلها المسؤولية، وهي نفس الخلاصة التي توصل إليها مبكرا حتى بعض “المخللين” العرب، وضمنهم مغاربة بطبيعة الحال، حيث سرعان ما بدأوا في ذرف دموع التماسيح على الضحايا المدنيين من الجانبين، مع رسم أسوأ السيناريوهات بالنسبة لأهل غزة، حيث توقعوا أن يدفعوا ثمن المغامرة “الإيرانية”، وكأن الكيان في حاجة إلى ذريعة لممارسة القتل المجاني.
ثالث الملاحظات، وهي مرتبطة بسابقتها، توحي بوجود نية مبيتة لتبخيس دور المقاتل الفلسطيني في هذه العملية، مع أن الأمر لا يحتاج إلى برهنة.
فحتى لو افترضنا أن كل ما حدث هو بتخطيط وتدبير من الحرس الثوري، فالأكيد أن “الخبراء” الإيرانيين لا يتواجدون بغزة، ولا يقبل عقل أن يعتمدوا على شبكة الأنترنيت للإعداد -عن بعد- لعملية من هذا الحجم، فضلا عن أن “الطوفان” كشف عن مستوى عال جدا من “الانضباط التكتيكي” -بلغة محللي مباريات كرة القدم-، بل إن ألان جوييه أكد أن بعض أسلحة “حماس” مصدرها أوكرانيا، وهي معلومة لا يمكن أن يتم إطلاقها هكذا، رغم أنه لم يقدم أية تفاصيل.
فالأمر لا يتعلق بعمل فدائي معزول، أو بقصف صاروخي عن بعد، أو حتى بعملية “انتحارية” أو باختطاف طائرة، بل نحن أمام عمل عسكري تم تنفيذه بدقة وكفاءة شديدتين.
وبتعبير ألان حوييه نفسه، فإن مقاتلي القسام جنود محترفون فعلا، وليسوا مجرد مليشيويين متحمسين كما يقدمهم الإعلام الغربي والإسرائيلي.
رابع ملاحظة تتمثل في أن “الطوفان” كشف أن قضية فلسطين لم تفقد كثيرا من “مركزيتها” في العالم العربي، حيث طغت حالة من الفرح المعلن على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، في جميع الدول العربية، وخاصة منها “المطبعة” أو السائرة في طريق التطبيع.
وقد انعكس ذلك جليا في بيانات وزارات خارجية تلك البلدان، حيث لم تُدن لا صراحة ولا ضمنا “طوفان الأقصى”، بل تفاوتت فقط في مستوى تحميل إسرائيل مسؤولية التصعيد بسبب الاعتداءات المتكررة والاقتحامات المتواصلة للمسجد الأقصى، بل إن الإمارات بادرت إلى الإعلان عن تقديم 20 مليون دولار كمساعدات عاجلة للفلسطينيين.
بعبارة أخرى، اتضحت هشاشة “التطبيع”، ومدى تأثره وارتباطه الشديد بالمتغيرات على الأرض.
وهنا أيضا، ولتأكيد أن الأمر لا يتعلق بخلاف سياسي أو إيديولوجي، بل بمسألة دين وعقيدة، فإن ألان جوييه المذكور أعلاه، والذي لا يخفي تعاطفه التام مع إسرائيل، أكد أن من سماهم “الألترا أرثودوكس” اليهود، هم أحد أهم أسباب التصعيد الأخير، لأنهم يريدون هدم “قبة الصخرة” -تفادى الحديث عن المسجد الأقصى للأسباب المعلومة- وإقامة الهيكل “المزعوم” مكانها، ووضح للفرنسيين بأن الأمر يشبه إلى حد بعيد أن يطالب أحدهم بهدم كنيسة “نوتر دام دو باري” لإقامة مسجد على أنقاضها.
خامس ملاحظة، وهي أيضا تبع لسابقتها، تتمثل في أن مشاريع التطبيع فشلت في التغلغل في عمق الشارع العربي، ومنه المغربي الذي يهمنا.
فرغم سنوات من الشحن والتضليل و”تازة قبل غزة”، كشف الطوفان أن “أصدقاء” الكيان في المغرب، قليلون جدا، وأن إسرائيل استقطبت فقط بعض الأسماء “المعروفة” و”الممقوتة”، ولم تخترق النواة الصلبة للنخبة بجميع مكوناتها.
وهذا أمر في غاية الأهمية، خاصة في المغرب، البعيد عن “مسرح المواجهات”، والذي يشكل ملف الصحراء أداة ناجعة لابتزازه، وتسيطر على كثير من مواقع صناعة القرار “الإعلامي” فيه، نخب مستغربة، “متخففة” من بعض “ثوابت” الهوية.
إن هذا المعطى مهم جدا، ولا شك أنه سيستوقف صناع القرار في الكيان العبري، ليكرروا السؤال المطروح منذ عقود في مصر والأردن: لماذا يفشل “التطبيع” في دفع قضية فلسطين نحو النسيان؟
لينضاف ذلك إلى “النقد الذاتي” الذي يمارسه كثير من المفكرين والإعلاميين الإسرائيليين أنفسهم، وإلى التساؤلات الجدية التي يثيرونها حول مستقبل الكيان أصلا.
ومن المفارقات الدالة هنا، أن تأجيل زيارات وزير الخارجية الأمريكي إلى المغرب والتي كانت تهدف إلى الإعداد لمؤتمر النقب 2، وكذا إلى السعودية لوضع اللمسات الأخيرة على “مشروع التطبيع” المفترض، مؤشر على أن المتغيرات التي فرضها “الطوفان” لا يمكن القفز عليها أو تجاوزها، وبيان الخارجية السعودية مؤشر واضح لا لبس فيه.
سادس ملاحظة، وهي بمثابة خلاصة أفرزتها التطورات الأخيرة، تتمثل في انهيار كثير من الصور المرسومة عن إسرائيل، والتي تحولت إلى بدهيات ومسلمات.
فخلال الشهور الأخيرة، اهتزت صورة “الديموقراطية” في إسرائيل، بعد مساعي نتنياهو لتحجيم الدور الرقابي لـ “السلطة القضائية”، وبالتالي خدشت الصورة الوردية التي كانت تظهر الكيان على أنه الواحة الديموقراطية الوحيدة وسط صحراء الديكتاتوريات.
نفس الاهتزاز طال “المؤسسة العسكرية” التي ظلت دائما تسبقها دعاية أنها الأقوى والجيش الذي لا يقهر.
وهو اهتزاز لم يبدأ مع “الطوفان” بل توالى بشكل تدريجي على مدى العقدين الأخيرين عندما نجحت المقاومة في تطوير أساليبها، وانتقلت من الدفاع إلى الهجوم، ولم تعد الاعتداءات الإسرائيلية مجرد نزهة، بل أصبحت مكلفة بشريا وسياسيا واقتصاديا وأمنيا.
ولهذا اعتبر كثير من المحللين السياسيين “الطوفان” بمثابة نهاية أسطورة “قوة الردع”، نظرا لمجريات المواجهات العسكرية ميدانيا.
ونفس المصير طال حتى قطاع الاستخبارات الذي كان البعض ينسب إليه إنجاز المستحيلات، والحال أن نجاحاته في كثير من “المهام الخارجية” سببها الرئيسي هو العمالة الداخلية والتواطؤ المكشوف.
خلاصة القول، سيكون “طوفان الأقصى” -دون شك- بداية مرحلة جديدة مغايرة تماما لما سبقها، لأن العالم أجمع أدرك -متأخرا ربما- أن فلسطين هي قضية الفلسطينيين أولا وأخيرا، وليست قضية يمكن تصفيتها عبر بوابة التطبيع.
وأن حلها -إذا كان هناك حل أصلا لهذا الصراع الوجودي- لا بد أن يراعي حقوق ومصالح الشعب الفلسطيني، الذي تعتبر دماؤه وشهداؤه الجهة الوحيدة الناطقة باسمه.
تعليقات الزوار ( 0 )