شارك المقال
  • تم النسخ

صَحراءُ مرزُوكة.. فضاءُ الباحثِين عن الهُدوء وملاذُ الأعينِ “الأمّارة” بالصّفاء

صور الصحاري في شبكات البث المفتوح تغري. تحرّضُ على الرغبة وتحركُ سواكن الذات الغائرة. أيقوناتُ الغُروب خلفَ الكثبانِ تخلبُ الأرواح السائمة من جمودٍ فرضهُ تفشي الوباء بالبلاد وأفسدَ هناء العباد. تأطيراتُ الجِمالِ تحملُ الزوارِ، والألوانُ الساعيةُ إلى إمتاعِ العينِ وأسر قلوب مبحري مواقع التواصل الاجتماعي.

منذُ منتصف أكتوبر، ووكالات الأسفار تغزُو الفضاءات الافتراضية بالتسويق للرحلاتِ، التي توقدُ تلك الرغبة في السفر وتُشعلها. جلّ الرحلات كانت تتخذُ من الجنوب الشرقي وجهةً، فالصحراءُ عملة مربحةٌ في الفترة الحالية، والكل يحيا بإرادة “الحج” إلى الكثبانِ الرملية الذهبية بمرزوكة. صورُ مأوى الجنوب تعدُ ركيزةً لدى بعض وكالات الأسفار بالمغرب في خضم برامج السفر وتسويقهِ افتراضياً. بناؤهُ فريدٌ وعريقٌ وجَذّابٌ.

اليومُ مشمسٌ بمرزوكة هذا الصباح. الحركةُ عادية تقتصرُ على السكان. روائحُ المأكولات تنفلتُ من المطاعم وأنت تمرّ بالأرجاء فتقتحمُ نوافذَ السيارة. عندما تجتازُ القوس، تلفِي بائعي حليب الإبل داخل خيامهم البُنيّة يُمنةً ويُسرة.

يبدو أنّ طيفُ الزوار قد غاب بانتهاء عطلة “المولد النبوي”. إبّان الأسبوعِين الأخيرِين شهدت الجهة دخول ما يربو عن الأربعين حافلة، يقولُ بعضُ الجالسين في مدخل مرزوكة قربَ القوسِ، والعينُ تترامى على “العرگ” الشامخِ في الأمام.

الهُدوءُ اللامتناهي…

بملامحها البيضاء وعينيها الواسعتين، تصفُ فاطمة الزهراء نبيج، القادمة من الرباط إلى مرزوكة الصحراء ب”الهادئة”، وأنها “تصلحُ للباحثين عن الهدوء أكثر من الباحثين عن الصخب والتسكع”.

وتضيفُ، بصوتها المتشنج، أنها “المرة الأولى التي تزور فيها المكان، وانبهرت بالجو وبساطة الناس وكرمهم، وكيف لا يبخلون على الزوار بمشاركتهم عسل التمر “تاحلاوت” والشاي المرّ وزيت الزيتون وخبزَ “الكوشة” البلدي، وهم يسكنون في خيمة، إنهُ كرم الرحل” تقولُ فاطمة الزهراء.

أُعجبت فاطمةُ الزهراء، “بتعاملِ السكان ونكراتهم للذات في سبيل تقديم خدمات جيدة للزوار وتلميع صورة المنطقة والرفع من تموقعها كقبلة سياحية”، تردف إبنة حي المنزه بالرباط.

لحسن تغلاوي، إعلامي محلي، طلعُ البنية، وملقبٌ ب”مصور الصحراء” بالمنطقة، يقولُ إنهُ “ربما بعض الناس مهووسون بمنظر رذاذ الأمواج وهي ترتطم بالصخر في اليم. وآخرون يعشقون الصفاء في الطبيعة والاخضرار والثلوج تُدثّر أقاصي الجبال… بينما عينُ الصحاري لا تعرف سوى دفء الأرض الرمادية والجبال البركانية والكثبان الرملية”.

وأفاد لحسن وهو يحملُ آلتهُ الفوتوغرافية، “لا أحب هدوء الصحراء فقط، بل أبحثُ منذ طراوة عودي عن البراري الممتدة في كل الآفاق حيث السيارات رباعية الدفع تتسع للحرية فوق الكثبان الرملية بعرگ الشبي، عرگ الزنيگي، عرگ أوزينا وعرگ الرملية..”.

واستطرد لحسن بصراخ، “وماذا عن النجوم التي زرتُ أغلب مدن المغرب ولم أرَ نظيراً لها بأي مكان.. والقمر في عمق السماوات يضيء الأراضين.. وأنا أمارسُ خطيئةَ التصوير الفوتوغرافي في الظلام وسط الكثبان أنبهرُ دائماً بمنظر الهلال، وأقول عفوياً ما شاء الله ثم أبدأ تلقائياً أغني أغاني الطوارق “القمرة طلعت يا ليلى والمشية زيانت”…”، ثم بدأَ يضحكُ…

نشوةُ الغروبِ والشروقِ…

تعتبرُ الصّحراءُ فضاءً لمحترفي الرياضة الميكانيكية. ترى الدراجات النارية القادمة، بعجلاتها السوداء المنتفخة، من كل جانبٍ في صحراء منعدمة الحدود ولا نهاية لها. تبدو لك من بعيدٍ تخطّ الكثبان منذُ الشروقِ حتى الغروب. يتوقفون للحظاتٍ للانتشاءِ بالغروب من أعلى الجبل الرملي. يُجمِعون أن الصحراء أفضلُ مكان للرياضة الميكانيكية.

الدراجات الناريةُ ذاتُ العجلات الأربعة أيضاً هنا، وكذلك الجِمالُ يمتطيها السيّاحُ المغاربةُ في كل الاتجاهات يَميناً وشمالاً. السيّاراتُ رباعيةُ الدفع بدورها تحملُ الزّوار وسط الرمال، تتجهُ بهم صوب الخيامِ، التي يقولُ حميد إن “ليلة واحدة فيها تساوي سنة وسط المدينة من حيثُ هدوئها وطُهرها”.

خديجةُ عريفي القادمة من سلا، تبدو عليها علامات السعادة، والابتسامةُ تكشفُ عن “حُفرتي الزّين” في خدّيها، تقولُ بصوتها الحماسيّ إنها “مستعدةٌ لخوض غمار التجربة مئات المراتِ دونما ملل أو ضجر، بحثاً عن دفء الغروب وطراوة الشروق في المكان.” مشيرةً أن “اختيار مرزوكة كوجهة كان موفقاً للاختلاء بالذات تجاه القمر والابتعادِ عن الضوضاء والصخب والخروج من تبعات الامتحانات النفسية وانتكاسة فيروس كورونا”.

وتتابعُ خديجةُ ذاتُ الأصول من الجهة، إنها “تربطها روابط غريبة بمرزوكة، رغم أنها لم تزرها يوماً، ولكن روح الانتماء للجهة قائمة وبدون منازعٍ.” مؤكدةً أن “الأجواء استثنائية ولا نظير لها في مكان آخر، تجعلك تركز على الواقع ولا تفكر في تصفح حساباتك على مواقع التواصل الاجتماعي..”.

وتوضح خديجةُ بصوتٍ لافتٍ، أن “الالتفاف حول النار ليلاً بعد الغروب، وضرب “الطام الطام” والرقص المحلي، كان رهيباً وهائلاً، لدرجة أني كنتُ أتطلع للسماء فأحسني أناجي “الله” روحياً، وأنهُ قريبٌ… أتمنى أن أعود لأجل عيشِ تلك اللحظة من التأمل المتجاوزةِ للواقع حيثُ أغمضنا أعيننا وأطلقنا العنان، لنحسّ بكل عضو في جسدنا… كان ذلك حقاً خيالياً وانساب الوجدان حتى لم أستطع فتح عينيّ بكثرة التصوف حينها، وانهمرت الدموع بدون شعور”.

“نشتاقُ إلى الأورو والدولار!”

هذه الجملةُ قالهَا محمّدٌ، البالغ من العمر ثلاثين سنة، مازحاً. يسعى عبرها أن يكشف أن السياحة الأجنبية هي ما باستطاعته أن يدّر العملة الصعبة على الجهة ولاسيما مرزوكة، مهما كان إقبال السياح المغاربة وارتفاعُ السياحة الداخلية بالمنطقة، فهي دائماً في حاجة ل”لبرّاني”، كما يقول موحا.

واستطرد موحا، وهو داخل سيّارته رُباعيةُ الدّفعِ أن “النقل السياحي بالمنطقة يشتغلُ أكثر مع الأجانب، وأصحاب السياحة الداخلية يأتون بحافلات الوكالات التي تحضرهم ثم تعيدهم، وكذلك العائلات تأتي بسياراتها الخاصة، لذلك النقل السياحي بالمنطقة ليس رابحاً، إلا عندما نأخذهم لزيارة الرحل أو جولة فوق الرمال بالسيارة”.

وعلق حميد أيت علي، قائلاً إنّه “لا يزال يعاني القطاع السياحي بمنطقة مرزوكة خاصة وفي المغرب عامة، من تداعيات فيروس كورونا وغلق المطارات ومنع التنقل..”.

وأفاد بملامح متجهمة “حقيقة، يمكن وصف قطاع السياحة بالقطاع الحيوي والمتضرر أكثر من هذه التداعيات… ونحن كساكني منطقة مرزوكة لاحظنا تدفق السياحة الداخلية خلال الأسبوعين الماضيين، وهذا راجع لعطلة عيد ما يسمى بالمولد النبوي، حيث حجّ العشراتُ لمنطقة مرزوكة ولمس الجميعُ بعضَ الحركة وعاد بعض الأمل للمنعشين السياحيين وللعمال بالقطاع..”.

واستطرد الفاعل في القطاع السياحي والمُلقّبُ بأفرزيز، “هذه الحركية التي يمكن وصفها بالسياحة الداخلية، لا يمكن الاعتماد عليها، ومقارنتها مع السياحة الحقيقية والركيزة الحقة لهذا القطاع، وهي السياحة الخارجية، وهذه الأخيرة هي أمل الجميع وطموحهم وضمان العيش ومستقبلهم، وعودة المياه إلى مجاريها”.

شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي