في خضم الجدل الذي أثاره ارتداء ما سُمي وقتها بالبوركيني في الشواطئ والمسابح الفرنسية، دون غيرها من مسابح المعمورة وشواطئها، خرج رئيس الوزراء الفرنسي، مانويل فالس، بتصريح أثار غضب عدد من الساسة والمؤرخين الفرنسيين. لم يكن مبعث الغضب حرص على حق المرأة الفرنسية المسلمة في ارتداء ما تراه مناسبا كاختيار شخصي حر في بلد الدفاع عن المرأة وحقوقها، بل لاعتبارات أخرى متعلقة بما تمثله ماريان من رمز للثورة الفرنسية ولمبادئ الجمهورية وأسسها.
يومها قال فالس متحدثا عن ماريان “إنها تكشف صدرها لإطعام الناس. إنها لا ترتدي الحجاب لأنها حرة”، علما أن رأس ماريان، عارية الصدر، مغطى بقبعة فريجية أو قبعة الحرية كما تسمى.
في تلك الأيام أيضا، أغارت عناصر الشرطة على المصطافات المسلمات وأجبرتهن على خلع “البوركيني” ودفع غرامات.
سقط فالس ومعه الحزب الاشتراكي، الذي كان من قادته، وصار مجرد رقم على هامش الحياة الحزبية الفرنسية بعد أن انفض عنه “مناضلوه” والتحقوا بالقادم الجديد، إيمانويل ماكرون، سعيا للانتفاع من ريع السياسة ومناصبها. مانويل فالس خرج خاوي الوفاض وجرب حظه بالانتخابات البلدية ببرشلونة، باعتباره إسبانيّا، وفشل فشلا ذريعا في الفوز بمقعد مستشار بلدي. فالس يجوب اليوم استوديوهات التحليل بالقنوات الإخبارية الفرنسية ويعرض، دون خجل، خدماته على الرئيس الفرنسي المقبل في قادم الأيام على إجراء تعديل وزاري وشيك.
ماريان، رمز الجمهورية الفرنسية و”إلهة الحرية”، تنتشر تماثيلها في كثير من المؤسسات الفرنسية العريقة وتستخدم صورها على الشعار الوطني للجمهورية الفرنسية والطوابع البريدية والشعارات المصورة لكثير من التظاهرات بما فيها دورة الألعاب الأولمبية القادمة، صيف 2024 بباريس، تحولت إلى “شماعة” يلجأ إليها “حماة” قيّم الجمهورية كلما استشعروا خطرا داهما على الهوية الفرنسية أو اصطنعوه ترهيبا للمواطنين، أو جزء محدد منهم، لأهداف سياسية انتخابوية تقتات من أحداث أو مآسي آنية وتحاول استثمارها لدعم وتكريس سياسات موجهة لا تنتظر غير الذريعة للضغط على زر التفعيل.
ماريان لها تماثيل أكثر محافظة بملابسها الكاملة. لكن الثوار المتعصبين، ومن يدعي السير على نهجهم من ساسة الحاضر، تبنوا رمزها العاري.
وعندما فُجعت فرنسا بقطع رأس أستاذ التاريخ والجغرافيا صامويل باتي، خريف عام 2020، بعد عرضه الصور الكاريكاتورية المجسدة للرسول محمد صلى الله عليه وسلم على تلامذته، تنادت الغالبية العظمى من الطبقة السياسية عن بكرة أبيها لدعم قانون “الانعزالية الإسلامية” الذي أقرّه الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون ولقيّ دعما كبيرا من مناصريه، وعلى رأسهم كانت الوزيرة المنتدبة المكلفة بالمواطنة، مارلين شيابا، المشتغلة تحت إمرة وزير الداخلية جيرالد دارمنان في حكومة جان كاستكس.
مارلين شيابا، وزيرة شابة، اشتغلت في العمل الجمعياتي الأهلي المهتم بحقوق المرأة لسنوات قبل أن تجد لها موطئ قدم مع “النخبة” الجديدة التي استقدمها إيمانويل ماكرون، سعيا منه لتشبيب طاقمه الوزاري، فعينها كاتبة دولة مكلفة بالمساواة بين النساء والرجال ومحاربة أشكال التمييز. وزارة لا يمكن في واقع الأمر قياس إنجازاتها بشكل كمي، وهو ما سمح للقائمة على تسيير دفتها من التحول إلى مؤثرة على وسائل التواصل الاجتماعي، مع ما يحمله ذلك من تمكين وحضور دائم في النقاشات وعلى وسائل الإعلام. تحولت الشابة مارلين من مستجدة في دائرة الحكم إلى محمية تحظى بثقة ماكرون وبدعمه اللا متناهي. وعندما أعلن الرئيس عن قانونه ضد “الانعزالية”، تمكنت الوزيرة من تأسيس صندوق لدعم الجمعيات بهدف إنجاز محتوى إعلامي محارب للخطاب الانفصالي وداعم لقيم الجمهورية وأهدافها، وصرفت لأجل ذلك مليونان ونصف المليون يورو.
ليس في الموضوع ما يثير الشبهة أو الاهتمام، فهذه أموال عامة استأمنت عليها وزارة لهدف جمهوري يتوافق والسياسة المعلنة من طرف الدولة وأجهزتها السيادية. لكن تحقيقا أجرته، ويا لغرابة الصدف، مجلة “ماريان” وقسم التحقيقات بالتلفزيون العمومي الفرنسي، ونشرته نهاية شهر آذار (مارس) الماضي، أظهر أن صرف الدعم ذاك طالته شبهات سوء تدبير ومحاباة، وهو ما أكده تحقيق صحفي ثانٍ على موقع ميديا بارت.
ولأن الفضيحة أكبر من أن تداريها استقالة المسؤول عن لجنة صرف الدعم، فقد أصبحت الأسماء الواردة في القضية في مرمى سهام تحقيقين أحدهما جنائي والثاني برلماني، والتهم شبهات اختلاس أموال واتهامات بالمحاباة وإنتاج محتويات مثيرة للجدل.
عُقدت جلسات استماع برلمانية ودوهمت مقرات ومساكن ولا تزال القضية تتفاعل بالنظر إلى حجم الاختلالات المرصودة وعلاقتها بمال عمومي لا يمكن التجاوز عن طرق صرفه واستخدامه. الوزيرة متهمة هي وفريقها بتفضيل جمعيات على أخرى لأسباب شخصية لم تراع المصلحة العامة ولا الهدف الذي أنشئ الصندوق لأجله.
وعلى الطرف الآخر اتهام لجمعيتين يرأس إحداهما “صحفي” وناشط معادٍ للإسلاميين، اسمه محمد سيفاوي، باسم اتحاد جمعيات التربية الرياضية والتجهيز العسكري، والثانية ترأسها أحلام منوني باسم جمعية إعادة بناء المشترك.
الجمعية الأولى ومسؤولاها متهمان بالحصول على الدعم بناء على مشروع من سبعة جمل ليس إلا، بمبلغ ناهز ثلاثمائة وخمس وخمسين ألف يورو، وأفضى إلى عرض 13 شريط فيديو على منصة يوتيوب دون أن يتجاوز عدد مشاهديها الخمسين مشاهدة في أفضل الأحوال، وحساب انستغرام لم يتعد عدد المشتركين فيه مائة وأربعين مشتركا. أما المصاريف الأهم فكانت عبارة عن أجور محمد سيفاوي وشريكه في تسيير الجمعية بما يقارب مائتي ألف يورو.
وأما الجمعية الثانية، فالشكوك حامت حول أحقيتها بالحصول على الدعم باعتبار حداثة تأسيسها، الذي لم يتعد أشهرا قبل بدء صرفه، وأيضا بهزالة ما قدمته من محتوى مقابل ثلاثمائة ألف يورو، ممثلا في ما يقارب الستين تسجيلا مصورا كان أغلبه موجها ضد خصوم ومنافسي ماكرون خلال الانتخابات الرئاسية الأخيرة، في وقت يمنع فيه القانون استخدام الأموال العامة للترويج الانتخابي خارج الحملات الرسمية.
هكذا إذن، وفي الوقت الذي كان وزير الداخلية الفرنسي يمارس هوايته في استصدار الأحكام من القضاء بإبعاد الأئمة ورؤساء الجمعيات ذات التوجه الإسلامي خارج البلاد، وتحريض مدراء المدارس بالإبلاغ عن الطلبة المتغيبين أيام الأعياد الدينية الإسلامية. وفي الوقت الذي كان فيه الاتحاد الفرنسي لكرة القدم، يمنع الحكام من توقيف المباريات لتمكين للاعبين المسلمين من كسر الصيام، أو يحث فيه مدربو الفرق والمنتخبات اللاعبين على تأجيل تلك الشريعة حتى الانتهاء من المقابلات. وفي الوقت الذي انشغلت فيه وسائل الإعلام والساسة باللاعبين الرافضين للمشاركة في مقابلات دعم الشذوذ، كان بعض منتحلي الصفة وأدعياء الدفاع عن المثل الجمهورية، وبدعم واضح من مؤسسات رسمية حكومية، يقتسمون كعكة صندوق ماريان على شكل رواتب وتعويضات بمئات الآلاف من اليوروهات بعيدا عن كل إشراف أو مساءلة.
الخصوم السياسيون ينادون باستقالة الوزيرة مارلين شيابا، التي لم تجد من دفاع أمام اللجنة البرلمانية غير الاختباء وراء عدم تذكر الوقائع، لنفي التهمة عنها وإلصاقها بأفراد من طاقم ديوانها. رئيسة الوزراء قالت إنها تعتقد أنه “ليس ضروريا أن تتنحى”، والأعين مشدودة لما يمكن أن يتبع القضية وتداعياتها من ارتدادات ربما لن تنتظر ظهور لائحة التعديل الوزاري الذي ينتظره الجميع.
لأجل هذا وذاك، ستبقى فرنسا مريضة برفضها المرَضي قبول اختلاف مواطنيها المسلمين وحقهم في العيش وفق قناعات دينية تختلف مع العلمانية المتوحشة التي تتبناها مؤسساتها، وتجعلها معادية للأديان بدل أن تكون حامية لها. فرنسا التي، وباسم ماريان الرمز وما تمثله، ومارلين الوزيرة، التي لا تجد حرجا في الظهور على مجلة بلاي بوي وإن لم تعر عن صدرها أو تكشف عن جسدها، وما تسعى لنشره وتكريسه، تجد في محمد وأحلام وغيرهما أدوات طيّعة لمحاولة ضرب نسيج مجتمعهما المسلم، وإن كانت أهدافهما الفعلية مجرد تحقيق منافع مالية وشهرة زائفة وقرب من دوائر القرار.
لقد صدق رئيس الوزراء الفرنسي الأسبق حين قال إن ماريان “تكشف صدرها لإطعام الناس”، فها هو صندوق يحمل اسمها، بعد أكثر من مائتي سنة من ظهورها، يطعم الجوعى المختفين وراء الدفاع عن الجمهورية ومبادئها وقيمها. الغريب أن كثيرا من “المتهمين” في هذه القضية هم ممن كانوا مقربين من مانويل فالس المعجب بصدر ماريان العاري والمتجاوز عن غطاء رأسها.
تعليقات الزوار ( 0 )