فوجئ الشعب العراقي قبل أيام، وبمناسبة ذكرى دخول الجيش العراقي الى الكويت عام 1990، بمؤتمر صحافي لوزيري الخارجية العراقي فؤاد حسين ونظيره الكويتي سالم عبد الله الجابر، للاحتفاء بإبرام صفقة جديدة تتنازل فيها حكومة محمد شياع السوداني عن القرية العراقية أم قصر التي تصل مساحتها الي 475 كيلومترا، ويتجاوز عدد سكانها خمسين ألف نسمة. ووفق تصريح الوزير الكويتي، ستُزال بيوت القرية، وسيتم استلام المنطقة بالكامل بعد أيام، وهو ما أمر به رئيس الوزراء محمد شيّاع السوداني محافظ البصرة أسعد العيداني الذي نشرت له تدوينة يقول فيها إن أم قصر كويتية وانقضى الأمر.
تسليم أم قصر صفقة أخرى في سلسلة صفقات عديدة عقدت مع الكويت منذ غزو العراق في العام 2003 ولن تتوقف، شملت خور عبد الله وميناء مبارك، واستحقاق العراق من المياه الدولية ومياه المنطقة الاقتصادية، ووضع المنصّات والملاحة وغيرها من استحقاقات فنية تناولها كبار الاختصاصيين العراقيين الفنيين والقانونيين الذين يعرفون ملفّات الحدود بكل تفاصيلها وخرائطها وبشكل دقيق، ليس مع الكويت فحسب بل أيضا مع إيران وتركيا والسعودية. ورغم أن لترسيم الحدود، برّية وبحرية وجوية، ثلاثة معايير، منها السياسي والقانوني والفني المدني والعسكري، فإن نظرة على صفقات حكومات ما بعد الاحتلال المتعاقبة ترينا أنها استغنت، صفقة بعد أخرى، وشيئا فشيئا، عن الكوادر القانونية والفنية، إذ كان بعض أعضاء وفود المفاوضات يخرج عند كتابة البيان الختامي، ويعود بعد أن يتصل بمن يهمه الامر ليغيّر صيغ البيان، ويبدل جملا معينة وصياغات غير مرغوب بها، ليفرضها على الفنيين والقانونيين الذين هم غالبا ما يكونون أقلية في الوفود التي يطغي عليها أعضاء من الأحزاب التي ترتبط بعلاقات مادية متينة بالجانب الكويتي. ويُطرح هذا الامر علنا وليس سرّا، إذ كشفت أحزاب عن مليارات قبضتها هذه الشخصية أو تلك، وهناك فيديو بالصوت والصورة نشر، ومن دون أي مانع، يُظهر استلام شخصيات سياسية من الرئاسات حقائب أموال من الحكومة الكويتية. ويطرح في الإعلام الحكومي بشكل منتظم، سواء من إعلاميين أو من نواب، استلام وزراء بعينهم بضعة مليارات مقابل تسهيل هذه الصفقات وإبرامها. وهذا ما يشجّع أن تشكّل الوفود بغالبية سياسية، وخصوصا من وزارة الخارجية، لتضييق الخناق وعزل القانونيين والفنيين والعسكريين، وهو ما حصل في الصفقات قبل الأخيرة، ويحصل اليوم.
وقد عمد المنتفعون من هذه الصفقات إلى الوشاية بالعميد الركن جمال الحلبوسي، أهم شخصية عسكرية وفنية متمرسة في ملفات الحدود منذ أكثر من 30 عاما، أولا لدى رئيس الوزراء السابق نوري المالكي، ومحاولة سجنه، واعتباره من كوادر النظام السابق، لإسكات صوته ومنعه من إعلان الحقائق والوقائع المتعلقة بمشكلات الحدود مع الكويت بالوثائق والحجج والخرائط التي تحفظ حق العراق في حدوده ومياهه وأرضه. ووصل الأمر إلى دفع هذه الشخصية إلى التقاعد وملاحقته ومنعه من الكلام في الإعلام لبيان الحقائق، ويبدو، حسب تصريح له، أن السلطات الكويتية قد أوصلت إلى العراقيين انزعاجها منه. ورغم تفضيله التقاعد على الخدمة، حيث تجرى مضايقته وملاحقته، ترفض الإدارات العراقية المعنية طلباته بالحصول على أرشيفه للوثائق العراقية التي صدرت خلال مشاركته في مفاوضاتها، وهي كثيرة جدا، وأكثر من مشاركة أي شخصية جاءت بها أحزاب الاحتلال ممن لا كفاءة لهم ولا تخصّص ولا تاريخ.
كما همّشت الجهات الحكومية الوزير الكفوء، وزير النقل السابق ورئيس لجنة النقل في البرلمان عامر عبد الجبّار، وهو المتخصّص أيضا فنيا بملف ترسيم الحدود، والذي عمل في أكثر من مائة شركة عالمية، وجرى إبعاده عن ملف الكويت، لمنعه من أي مشاركة في أي مفاوضات، بسبب خبرته ورصانة إدارة التفاوض والدفاع عن حقوق العراق وعدم بيعها، وعدم تفريطه بأرض العراق ومياهه، وهذا ما دفعه أيضا إلى الاستقالة، للاستمرار في التعبير الحر والوطني والمهني الحقيقي الذي تفتقده حكومات المنطقة الخضراء وبرلمانها الذي اختفى بالكامل، ولم يعد العراقيون يسمعون له صوتا بشأن ما يجري، بينما كانت أصواتهم تعلو وصراخهم يضج في قاعة البرلمان، وهم يهتفون نعم نعم لإيران!
يقول عامر عبد الجبار، في مقابلة أخيرا، إن البرلمان يضم من هو مع إيران وضدها ومع تركيا وضدها ومع السعودية وضدها ومع أميركا وضدها، لكن هناك برلمانيون مع الكويت وليس هناك أحد ضدها، بدليل ما ورد في الإعلام العراقي عن أن السفير الكويتي في بغداد هو من اختار أعضاء الوفد العراقي المفاوض، وذهبت أول إشاداته في المؤتمر الصحافي إلى محافظ البصرة “المنفذ النجيب” أسعد العيداني، الموهوب بتغيير أقواله ومواقفه حسب الطلب، المتحمس لإجلاء سكان أم قصر وترحيلهم بسرعة فائقة، ليحصل على الجائزة بوصفه أفضل صديق لخطط الكويت ضد العراق، ويتهم النظام السابق بالقول إنهم طبقوا، كحكومة، قانون الأمم المتحدة الذي وقع عليه العراق قبل الغزو فقط، ولم يبيعوا أم قصر كما يتهمهم الشعب.
الثالث الذي جرى إبعاده هو القاضي وائل عبد اللطيف الذي أثار، وبحق، إحدى أهم النقاط في ملف ترسيم الحدود، حيث انسحب أهم عضو في وفد الأمم المتحدة، وهو الأندونيسي السيد المختار، بعد طلب الكويت وأصدقائها في الوفد ترسيم الحدود، إلا أنه رفض، لأنه غير مكلف، وليس من اختصاصه القيام بهذه المهمة التي ضغطت الكويت للحصول عليها. يقول القاضي عبد اللطيف إن ترسيم الحدود ليس من اختصاص الأمم المتحدة، لكنها فعلت ذلك مع الكويت بعد انسحاب مندوب العراق والمندوب المختار.
ذا كان النظام السابق، كما تدّعون كذبا وتنشرون ذلك للتشويش على جرائمكم، هو من باع أراض العراق ومياهه في خيمة صفوان، وبحسب قرار مجلس الأمن 833، فما عليكم، وقد أصبح الحكم بأيديكم، إلا تصحيح أخطائه وإعادة الحق لنصابه، بالتفاوض المهني وبالاستعانة بالخبرات والأخصائيين. لماذا أبعدتم كل هؤلاء، ولماذا تهدّدون كل من يدافع عن حقوق العراق وتُسكتون الأصوات الوطنية والكفاءات العراقية وتبعدونهم عن الوفود المفاوضة؟ أم أن ما تقومون به خفية مقابل عروض مغرية هو ما يدفعكم إلى إبعاد هذه الشخصيات التي لا تتسامح مع بيع العراق؟ الخرائط والوقائع التاريخية لا تنسخها صفقات العار والبيع والمتاجرة والسمسرة وسياسة الأمر الواقع، وما هو للعراق سيبقى له، ما دام هناك تاريخ ووثائق ومعاهدات دولية!
دولة الاحتلال، الولايات المتحدة، هي المسؤولة قانونيا عن حدود العراق وصيانة وحدته، وكذلك إيران. لولاهما، وهما تمعنان في تدمير العراق وخنقه وتعتقدان أنه درب طويل ما زال في مخطط تدميره، لما سُمح للكويت وغير الكويت بوضع اليد على بعض أرضه ومياهه وآبار نفطه. ولهذا السبب، لا تزال الولايات المتحدة تضع العراق في البند السادس في ميثاق الأمم المتحدة، وهو أسوأ من البند السابع الذي عانى منه العراقيون 13 عاما، وتبقيه محبوسا في قفص مطالبها للإبقاء على منبع المليارات التي يتزوّد بها الفيدرالي الأميركي المحشور بأزماته المتكرّرة ومطالب الكويت التعجيزية عمدا.
صفقات حكومات الاحتلال لبيع أرض العراق ومياهه من صفحات الحرب المستمرة التي بدأت مع بدء سرقة النفط قبل عام 1990، واستمرّت ولا تزال، وما خروج الاحتجاجات في عدة محافظات وذهابها الى البصرة للتعبير عن رفضها هذه القرارات إلا سببا آخر للمطالبة بتغيير جذري للعملية السياسية وتأسيس نظام وطني يحافظ على العراق، ويلبي مطالب شعبه في الحرية والديمقراطية والمواطنة، وهي مطالب ثوار تشرين التي لا يزال العراقيون يطالبون بها.
تعليقات الزوار ( 0 )