فراس إلياس*
انتصار الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، شكّل البداية العملية للتحول الكبير الذي أصاب الفكر الإستراتيجي الإيراني، فلم يعد هذا الفكر مبنيًا على الطروحات الإستراتيجية التي كانت تسوقها إيران في مرحلة ما قبل الثورة، بل أصبح هناك مجالات إستراتيجية جديدة بدأت إيران تنظر إليها كمنافذ جديدة للهيمنة على المجال الحيوي المحيط بها، إذ شكل العام 1979 بداية الربط بين السياسة الخارجية الإيرانية والطروحات الجيوبوليتيكية التي أخذ الخميني يفرضها على الفكر الإستراتيجي الإيراني. ازدهرت الإمكانات الكامنة داخل الإسلام السياسي الشيعي، واكتسبت الطروحات الجيوبوليتيكية للخميني قوة سياسية في إيران، وذلك نظرًا للموقع الجيوبوليتيكي المميز الذي تمتلكه إيران من جهة، ومن جهة ثانية لاحتوائها على احتياطات هائلة من الطاقة في منطقة الخليج العربي وبحر قزوين، فضلًا عن ضمها ما يقرب من 40% من الشيعة في العالم، وهو ما جعلها مركزًا للعالم الشيعي من جهة ثالثة، ومن ثم فإن نجاح الثورة الإسلامية فيها كان له آثار بعيدة المدى في العالم الإسلامي من جهة رابعة.
إن من الأسباب الرئيسية التي دفعت إيران للتحول من الجيوبوليتيك الإيراني إلى الجيوبوليتيك الشيعي، هي التطورات السياسية التي شهدها العالم الإسلامي، وتحديدًا الدول التي تحتوي على مجتمعات شيعية بدأت تستشعر وجودها السياسي، وتناغمت مع الأجواء الثورية التي أنتجتها الثورة الإسلامية في إيران، إذ لعبت الحروب الأهلية في لبنان “1975-1990″، دورًا رئيسيًا في تحويل الشيعة في لبنان من كيان مجتمعي إلى كيان سياسي – عسكري، وخلال هذه الحروب، شهدت الطائفة الشيعية اللبنانية تغييرات عميقة، بما في ذلك النمو السكاني والهجرة من المناطق الجنوبية في البلاد إلى بيروت.
فبروز العامل الشيعي كلاعب رئيسي في الساحة السياسية اللبنانية، عزز الروح المعنوية للمجتمعات الشيعية في المنطقة العربية، وأعطى دفعة معنوية للحركات الشيعية في البلدان الأخرى، كما هو الحال في المجتمعات الشيعية في العراق وأفغانستان والبحرين والسعودية وباكستان، وهيأ الأجواء السياسية في هذه البلدان للخروج من حالة رفض العمل السياسي، والبحث عن فرصة لتصحيح الخطأ التاريخي الذي وقعوا فيه، وبعد هذا التطور السياسي النسبي الذي أصاب الجيوبوليتيك الشيعي، نجح الشيعة في معظم دول المنطقة العربية تدريجيًا في لعب دور أكثر بروزًا، والمشاركة الفاعلة في الهياكل السياسية لهذه البلدان.
ويمكن القول بصورة عامة، إن نجاح الثورة الإسلامية في إيران، إلى جانب الطروحات الجيوبوليتيكية للخميني، الخاصة بتصدير الثورة الإسلامية إلى البلدان المجاورة، أخرج المجتمعات الشيعية من عزلتهم الاجتماعية والسياسية، وظهروا عمليًا على الصعيدين الوطني والدولي، نتيجة للثورة الإسلامية في إيران أولًا، ومن ثم تسييس المجتمع الشيعي في لبنان ثانيًا. أدى الدور الحاسم للإسلام في مجال السياسة الخارجية الإيرانية في العقود الأخيرة، إلى إعادة تقييم جيوبوليتيك العالم الإسلامي على هذا الأساس، مع إعطاء خاصية التركيز على المجتمعات الشيعية في هذا العالم، وجعلها البوصلة التي تحرك السياسة الخارجية الإيرانية في سبيل تحقيق الجيوبوليتيك الشيعي، ومن وجهة نظر جيوبوليتيكية، أدى ظهور حركات الإسلام السياسي بشقيها السني والشيعي كأحد المتغيرات الجيوسياسية في العالم الإسلامي، إلى زيادة حساسية العوامل الثابتة الأخرى.
ومن هذا المنظور، فإنه بالنظر إلى التقارب الأيديولوجي بين هذه الحركات الإسلامية وأيديولوجيا الثورة الإسلامية في إيران، وخصوصًا فيما يتعلق بضرورة إقامة الحكومة الإسلامية العالمية، أصبحت الجغرافيا السياسية الشيعية من جهة، والمجتمعات الشيعية من جهة أخرى، حساسة بشكل خاص بالنسبة للقوى الإقليمية والعالمية. إن الإمكانات الجوهرية للإسلام الشيعي ووجود عوامل مثيرة للدين الإسلامي داخل هذا المذهب، مكنت من تقديم تفسير ثوري جديد للإسلام، ومن ناحية أخرى، فإن وجود معتقدات من قبيل الدفاع عن المستضعفين والعدالة الاجتماعية وسلطة الرجل الصالح والوعد الإلهي بقدوم الإمام المهدي، أعطت مفهومًا جديدًا للإسلام، وقدمها الخميني على أنها الإستراتيجية التي ينبغي أن تتبع من أجل إقامة الحكومة الإسلامية العالمية، وبناءً على ذلك، بدأت المجتمعات الشيعية تنظم نفسها عسكريًا وسياسيًا في منطقة الشرق الأوسط، وهو ما لم يكن ممكنًا في مرحلة ما قبل الثورة الإسلامية.
يشير مارتن كرامر في كتابه “المقاومة الشيعية والثورة”، أنه في الوقت الحاضر أنتجت المجتمعات الشيعية بعضًا من أقوى مفاهيم التمرد الثوري، بحيث أصبح هناك اليوم حزام شيعي يغطي أجزاءً من لبنان وسوريا والعراق وأفغانستان والسعودية والكويت والبحرين وإيران وباكستان والهند، وينقسم هذا الحزام إلى أغلبية – أقلية شيعية في بلدان مختلفة، وهو بحد ذاته يمثل تطورًا كبيرًا في إستراتيجية الجيوبوليتيك الشيعي. فضلًا عما تقدم، كانت أولى الدلائل الإستراتيجية على تحول الجمهورية الإسلامية في إيران من الجيوبوليتيك الإيراني إلى الجيوبوليتيك الشيعي، ما نصت عليه مواد الدستور الإيراني عام 1979، إذ تنص المادة 11 من هذا الدستور على أن جميع المسلمين أمة واحدة، وحكومة جمهورية إيران الإسلامية ملزمة بوضع سياستها العامة على تحالف مع الأمم الإسلامية، ومواصلة جهودها لتحقيق الوحدة السياسية والاقتصادية والثقافية للعالم الإسلامي، وهنا لم تكتف إيران بدعوة المجتمعات الشيعية في العالم الإسلامي للاقتداء بنظام الجمهورية الإسلامية، بل دعت الدول السنية أيضًا للانضمام إليها.
إن المخاوف من تشكيل الهلال الشيعي في الشرق الأوسط “إيران والعراق وجنوب لبنان” من جهة، وصعود الحركات الثورية الشيعية في اليمن والبحرين من ناحية أخرى، دفعت الولايات المتحدة الأمريكية والقوى الكبرى للتعاطي السياسي مع هذه التطورات السياسية الشيعية في العالم الإسلامي، وفي الوقت نفسه، فإن حكم الأقلية الشيعية العلوية في سوريا، وعدد من الشيعة المحتجين في السعودية المقيمين في المناطق الغنية بالنفط في البلاد، أثروا على التطورات الجيوبوليتيكية من الخليج العربي إلى البحر الأبيض المتوسط.
إن حساسية التعاليم الأيديولوجية للمجتمعات الشيعية ستزداد عندما يؤخذ الوضع الجيوبوليتيكي الشيعي في الاعتبار، فالجيوبوليتيك الشيعي هو امتداد للجغرافيا السياسية الشيعية في مختلف بلدان الشرق الأوسط الكبير، الذي ترتبط بالنهاية بدولة القلب أو المركز إيران، وفي الواقع، يغطي الحزام الشيعي الوضع الاقتصادي والإستراتيجي والتاريخي في العالم الإسلامي، الأمر الذي وضع العالم الإسلامي في حالة من التطورات الثورية المستمرة ذات النزعات المعادية للسلطوية “في الداخل”، والمناهضة للاستعمار “في الخارج”.
ونظرًا للخصائص الجيوبوليتيكية للبلدان الواقعة في إطار الجيوبوليتيك الشيعي، فقد تم وصف هيكلها الطبيعي والإنساني والديني والسياسي كوحدة نشطة وفعالة في النظام العالمي، إذ شغلت مواضيع مثل الموارد والسكان والموقع الإستراتيجي والجغرافي، دول المنطقة في قضايا عالمية مهمة، مثل الطاقة والعمليات العسكرية والإستراتيجية والصراعات والاتجاهات الدينية والأمن الدولي والتجارة العالمية. فعلى سبيل المثال، يقع الشيعة في الخليج العربي في منطقة حساسة للغاية من الناحية الجغرافية والسياسية، إذ يلعب الخليج العربي باعتباره أكبر مستودع للنفط في العالم، دورًا حاسمًا في المصير الاقتصادي العالمي، ومع ذلك، فإن أهمية هذه المنطقة لا تقتصر على وجود مواردها النفطية والمعدنية الشاسعة، بل إن الدور السياسي للخليج العربي من حيث أهميته الأيديولوجية والجيوبوليتيكية والإستراتيجية واضح أيضًا.
تكشف نظرة عامة على الظروف الاقتصادية والسياسية والديموغرافية للمجتمعات الشيعية في العالم الإسلامي، أنه لا يوجد شيعة يتمتعون بالسلطة المطلقة في أي بلد باستثناء إيران، ويعيش معظمهم في حالة من الاضطراب الاجتماعي والسياسي، ومثل هذا الوضع أدى إلى احتجاجات سياسية من المجتمعات الشيعية، وهذه الاحتجاجات بدورها تصاعدت مع تصاعد الوعي الاجتماعي الشيعي، وفي هذا الصدد، كان للتطورات الإقليمية والدولية تأثير كبير على استمرار هذه الاحتجاجات، وعلى وجه الخصوص، فتحت الثورة الإسلامية وانتصارها آفاقًا جديدة للشيعة في العالم الإسلامي، وجعلتهم أكثر أملًا في الصراع من أجل تغيير الوضع الراهن. وفي سياق ما تقدم، يقول غراهام فولر في كتابه “الشيعة العرب، المسلمون المنسيون”، إنه من الناحية النظرية، يمكن للشيعة العرب، إلى جانب إيران، أن يسيطروا على معظم موارد النفط في الخليج العربي، فإذا تمكن الشيعة من الوصول إلى مراكز مؤثرة للسلطة في منطقة الخليج العربي، عندها يمكن للمرء تحليل وفهم الحساسية من تصاعد الهوية الشيعية، ودورها في نجاح الجيوبوليتيك الشيعي. ويبرر الباحثان الإيرانيان صفي الله شاه قلعة ومسعود كاظمي، الأسباب الرئيسية للتحول نحو إستراتيجية الجيوبوليتيك الشيعي، ومركزيتها في السياسة الخارجية الإيرانية، ومن أهم هذه الأسباب:
ـ خيبة أمل العالم الإسلامي من عمليات التحديث والتطوير التي يقوم بها الغرب.
ـ فشل الأنظمة العربية في إيجاد حل للقضية الفلسطينية.
ـ العزلة السياسية والاجتماعية القديمة المفروضة على الشيعة. ـ تقييد الحرية الدينية الشيعية ومعتقداتها من حكومات الدول السنية.
ـ التمييز الاجتماعي والاقتصادي الواسع النطاق للمجتمعات الشيعية.
ـ نجاح الثورة الإسلامية وقيام الحكم الشيعي في إيران.
ـ انتصار حزب الله وصموده بوجه “إسرائيل”، ونجاحه بالتحول إلى قوة شعبية ومؤثرة في لبنان. ـ التطورات السياسية في الدول العربية، والثورات الشعبية ضد أنظمتها الاستبدادية. ـالبروز السياسي والعسكري للشيعة في العراق واليمن والبحرين، إلى جانب أفغانستان وباكستان.
*متخصص في شؤون الأمن القومي والدراسات الإيرانية
تعليقات الزوار ( 0 )