شارك المقال
  • تم النسخ

صحافة في جيب “الموساد”: “النيويورك تايمز” واغتيال إسماعيل هنية

صبيحة الحادي والثلاثين من تموز الماضي، أفاقت المنطقة على خبر أخذ الحرب الدائرة فيها إلى مستوى جديد. اغتالت «إسرائيل» في طهران رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، الشهيد إسماعيل هنية. ورغم أنها لم تتبن ذلك رسميًا حتى الآن، إلا أن الصورة كانت واضحة، بالنظر للتهديدات الإسرائيلية السابقة لقادة حماس، وردة الفعل على الاغتيال والنقاش الإسرائيلي حوله، خاصة وأن العملية أتت بعد يوم واحد من الاغتيال الإسرائيلي للشهيد فؤاد شكر، القائد العسكري البارز في حزب الله، في الضاحية الجنوبية لبيروت.

لكن على عكس هوية القاتل، ظلت تفاصيل عملية الاغتيال غير واضحة لأيام، تحديدًا وأنها وقعت في مقر رسمي خاص بقدامى المحاربين الإيرانيين شمال طهران، ما أثار الأسئلة حول كيفية تمكن الإسرائيليين من الاستهداف، في ظل الإعلان الإيراني عن فتح تحقيق قضائي بالحادثة لم تصدر نتائجه الكاملة بعد.

هنا، دخلت صحيفة النيويورك تايمز الأمريكية في الأول من آب لتقدم «سبقًا صحفيًا» زعمت فيه الكشف عن أن العملية تمت بزرع قنبلة في غرفة هنية قبل قرابة شهرين من الاغتيال، فُجرت عن بعد، ما شكل «فشلًا كارثيًا لأجهزة الاستخبارات والأمن الإيرانية وإحراجًا هائلًا للحرس الثوري»، على حد وصف الصحيفة.

أخذت تغطية عملية الاغتيال في الإعلام الغربي، وجزء كبير من الإعلام العربي، بَعدها منعطفًا واضحًا، باتت رواية النيويورك تايمز فيه، أو بالأحرى السطور الأولى فيها، حجر الأساس، فيما صُرف النظر عن ثغرات وتفاصيل أخرى في الرواية تشكك بمصداقيتها، وتجعلها امتدادًا لنمط متكرر من التغطيات الصحفية الغربية المعتمدة بالكامل على مصادر استخبارية لا تُسمى ولا تُساءل ويؤخذ كلامها كحقائق ثابتة.

ثغرات مهملَة

استند تقرير النيويورك تايمز إلى «سبعة مسؤولين من الشرق الأوسط»، بينهم إيرانيان زعمت أنهما عضوان في الحرس الثوري اطلعا على تفاصيل الحادثة، إضافة لمسؤول أمريكي، كلهم مجهّلو الهوية تحدثوا للصحيفة «بشرط عدم الكشف عن أسمائهم». وبالنظر لتحديد جنسية الإيرانيين من بين السبعة، ليس صعبًا استنتاج جنسية المسؤولين «الشرق- أوسطيين» الباقين، وهو تعبير كثيرًا ما يستخدم لوصف المصادر الإسرائيلية في الصحافة الغربية.

وفق مقدمة التقرير، كان هؤلاء الثمانية جميعًا مصادر لمعلومة أن الاغتيال جرى عبر قنبلة زرعت مسبقًا في غرفة هنية، لكن التقرير يكمل ليقول إن «خمسة من المسؤولين السبعة من الشرق الأوسط» هم مصدر معلومة أن القنبلة زُرعت قبل قرابة شهرين. ويضيف أن المسؤوليْن الإيرانييْن المذكوريْن «وصفا طبيعة الاغتيال»، لكنهما «قالا إنهما لا يعلمان كيف ومتى زرعت القنبلة في الغرفة»، وهو ما يطرح تساؤلًا حول قدرتهما على الوصول لاستنتاج حاسم حول طريقة الاغتيال بالنظر لغياب هذه المعلومات.

لكن الأهم هو أن ما سبق يشير إلى أن هناك احتمالًا وازنًا بأن تكون أهم المعلومات الواردة في التقرير تستند بالكامل لادعاءات استخبارية إسرائيلية، بالنظر إلى أن الخمسة المذكورين ليس من بينهم إيرانيون. يدعم هذا الاعتقاد ما يورده التقرير من أنه «بحسب خمسة مصادر من الشرق الأوسط»، فإن «مسؤولين استخباريين إسرائيليين أبلغوا الولايات المتحدة وحكومات غربية أخرى بتفاصيل العملية فور وقوعها»، إذ من المستبعد أن تكون مصادر رسمية غير إسرائيلية قادرة على الوصول لمثل هذه المعلومة.

يتابع التقرير ليدعم مقولته عبر استبعاد فرضية أن يكون الاغتيال قد جرى عبر صاروخ أطلق من طائرة أو مسيرة اخترقت الأجواء الإيرانية، بالقول إن «نظرية الصاروخ تطرح شكوكًا حول كيف يمكن لإسرائيل أن تتفادى أنظمة الدفاع الجوي الإيراني لتنفذ غارة صارخة إلى هذا الحد في العاصمة الإيرانية». ثم يستدل على ذلك بالقول إن الدمار المحدود الذي أحدثه الانفجار في المبنى لا يشبه ما يمكن لصاروخ أن يتسبب به، خاصة وأن الأضرار لم تتعد تقريبًا الغرفة التي تواجد فيها الشهيدان هنية ومرافقه وسيم أبو شعبان.

لكن ما لم تتطرق له الصحيفة هو ما جاءت النتائج الأولية للتحقيق الإيراني لتشير إليه في الثالث من آب، من أن مقذوفًا قصير المدى برأس حربي يزن سبعة كيلوغرامات أطلق من خارج منطقة إقامة هنية محدثًا انفجارًا قويًا، حسبما نقلت وكالة تسنيم عن بيان للحرس الثوري. ما يعني أنه أطلق من داخل إيران ولم يخترق أجواءها، ولم يكن بحجم يتسبب بالضرورة بدمار أكبر في المبنى.

ردًا على التقرير، نقلت تسنيم عن «مصدر إيراني مطلع» نفيه لما جاء في النيويورك تايمز، مضيفًا أنه «يجري التحقيق بدقة في التفاصيل والأبعاد الكاملة لاغتيال الشهيد هنية، وتم الحصول على معلومات مهمة، لكن بعض التفاصيل الأكثر وضوحًا، مثل فحص جثمان الشهيد ومكان الحادث، تبين بشكل واضح أن الاغتيال لم يكن ناجمًا عن انفجار قنبلة مزروعة في مكان إقامته». كما أضاف أن ما أورده التقرير من أن اجتماعًا عُقد في الساعة السابعة من صباح يوم العملية بحضور المرشد الأعلى للثورة علي خامنئي «هي أيضًا معلومة كاذبة.. هذا تكتيك إعلامي قديم وعفا عليه الزمن يقدم للجمهور معلومات تفصيلية للغاية، مثل الزمان والمكان وما إلى ذلك، حتى يتخيل الجمهور أن هذه المجموعة الكبيرة من التفاصيل لا بد أنها تشير إلى إلمام ومعرفة الكتاب بتفاصيل القضية».

أما حركة حماس، فردت على تقرير النيويورك تايمز على لسان ممثلها في إيران، خالد القدومي، بالقول إنه يقدم رواية مضللة تنفيها شهادات وحقائق على الأرض، وهي مماثلة لما نقل في الصحافة الإسرائيلية، مضيفًا أن هدف مثل هذه الروايات هو «رفع المسؤولية المباشرة عن الاحتلال الإسرائيلي لاحتواء تبعات الجريمة والرد عليها».

كل ذلك لا يعني أن الاغتيال لم يشكل اختراقًا أمنيًا لإيران، وهو ما يعكسه الإعلان الإيراني عن تشكيل ملف قضائي للتحقيق في العملية، وإصدار المدعي العام للبلاد أمرًا «بتحديد واعتقال كل من يثبت إهماله أو استغلاله من قبل العدو كعميل في قضية الاغتيال»، بحسب مساعد رئيس السلطة القضائية صادق رحيمي، الذي أشار إلى أن وقوف «إسرائيل» خلف الاغتيال مؤكد، لكن التحقيق ما يزال جاريًا لمعرفة ما إذا نُفذت «هذه الجريمة بشكل مباشر أو بواسطة عملاء وجواسيس».

من الموساد وإليها

مثلما لم يجرِ التوقف كثيرًا عند هذه التفاصيل، لم توضع هوية صحفيي النيويورك تايمز تحت المجهر كجزء من تقييم مصداقية تقريرهم. الأهم والأبرز هنا هو أن الصحفي الرئيس من بين الثلاثة الذين حمل التقرير أسماءهم هو الإسرائيلي رونين بيرغمان، الذي يكتب من تل أبيب، والمعروف بقربه من أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية. أثناء خدمته العسكرية الإلزامية، عمل بيرغمان في وحدة الاستخبارات في قوات الشرطة العسكرية، ثم اتجه للأكاديميا لينال درجة الدكتوراه في التاريخ والعلاقات الدولية بأطروحة حول تاريخ علاقة الموساد الإسرائيلي بأجهزة الاستخبارات الإفريقية. تنقّل بيرغمان بعدها بين عدة صحف إسرائيلية، ليصبح بفضل قدرته على الوصول لمصادر في أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية أحد أهم مراسلي «يديعوت أحرونوت» للشؤون العسكرية والاستخبارية. قبل أن يصبح كذلك صحفيًا دائمًا في النيويورك تايمز في المجالات نفسها، فضلًا عن نشره تقارير في كبريات الصحف الغربية، من الوول ستريت جورنال والفورين أفيرز إلى دير شبيغل والغارديان وغيرها الكثير. هذه العلاقات أنتجت أيضًا عدة كتب حصل فيها على وثائق سرية خاصة بالموساد، كان آخرها «انهض واقتل أولًا: التاريخ السري للاغتيالات الإسرائيلية».

على موقعه الإلكتروني، يتباهى بيرغمان بفيديو يعود لعام 2012 يجمع مقاطع من مقابلاته ومداخلاته وما قيل عنه في القنوات الغربية، حيث يوصف بأنه أحد «أهم الخبراء في الموساد»، ويملك ما لا يملكه غيره من الصحفيين من مصادر، فيما نراه هو تارة في زي عسكري، وتارة إلى جانب الرئيس الإسرائيلي السابق شمعون بيريز، ونسمعه يتحدث بحماس عن عمليات الموساد التي «لا تقل إثارة عما ترونه في الأفلام»، والكفيلة «بجعل جيمس بوند فخورًا». «خلال عشرين عامًا [آنذاك] من تغطية الاستخبارات الإسرائيلية، حظيت بقدرة حصرية على الوصول لبروتوكولات الموساد وعملائه وحتى قاتليه»، يقول بيرغمان، زاعمًا رغم ذلك أن تغطياته لم تحظ بإعجاب الموساد، دون أن يفسر كيف استمر عبر السنوات في الحصول على هذا الوصول الحصري.

إلى جانب بيرغمان، حمل تقرير النيويورك تايمز اسم مارك مازيتي، الصحفي الأمريكي المقيم في واشنطن، والمختص كذلك في «الأمن القومي والاستخبارات والشؤون الخارجية»، والذي حملته الكثير من تغطياته إلى «الشرق الأوسط ووسط وجنوب آسيا». ومثل بيرغمان، ركز في عمله على العمليات الخارجية لوكالة الاستخبارات الأمريكية، السي آي إيه، لينشر كتابًا بعنوان «أسلوب السكين: السي آي إيه، الجيش السري، والحرب في آخر المعمورة». كما كان مازيتي مشاركًا في التقرير الذي زعم وجود صلات بين مستشاري ترامب وروسيا، والذي نال عليه جائزة بوليتزر عام 2018.

أما الاسم الثالث على التقرير، فكان للصحفية الإيرانية-الأمريكية فرناز فصيحي، المقيمة في نيويورك، والتي قادت الكثير من تغطيات الصحيفة لإيران، «من السياسات الداخلية، إلى الانتفاضة التي قادتها النساء، إلى انتهاكات حقوق الإنسان، إلى نفوذ إيران المتزايد عبر ميليشياتها الوكيلة في المنطقة»، على حد تعبير فصيحي، التي تضيف أن تغطيتها في السنوات الأخيرة تركزت على «الحرب الخفية بين إيران وإسرائيل». عملت فصيحي، المولودة في الولايات المتحدة، في الوول ستريت جورنال لـ17 سنة، قبل أن تلتحق بالنيويورك تايمز كمترجمة من الفارسية، ثم كصحفية تغطي إيران وتقود تغطيات الصحيفة لشؤون الأمم المتحدة.

إعادة تدوير

كل تلك الثغرات في التقرير وعلامات الاستفهام حول مصداقية أصحابه لم تمنع وسائل إعلام أخرى، غربية وعربية، من أن تبني على رواية النيويورك تايمز في الاتجاه ذاته. صحفي إسرائيلي آخر هو باراك رافيد كرر القصة في موقع آكسيوس الأميركي، هذه المرة بمصدرين مجّهلين آخرين، أضافا «تفاصيل» جديدة من بينها أن القنبلة استخدم فيها الذكاء الاصطناعي، وأن من فجّرها كان عملاء للموساد متواجدين على الأرض الإيرانية. مثل بيرغمان، قضى رافيد خدمته العسكرية في وحدة استخبارية، لكن هذه المرة في وحدة 8200 في الجيش، المختصة بالحرب السيبرانية.

أتت بعدها التلغراف البريطانية لتسهب في الرواية أكثر، فتنقل عن «مصدر في الحرس الثوري» أن الموساد سعى لاغتيال هنية في أيار الماضي خلال مشاركته في تشييع الرئيس الإيراني الراحل إبراهيم رئيسي. لكن الموساد عدل عن خطته في اللحظات الأخيرة «نظرًا للحشود الكبيرة داخل المبنى واحتمالية فشل العملية»، وعمل عوضًا عن ذلك، من ذلك الحين، على زرع قنبلة في غرفته، لتسير بذلك على نهج الصحف الغربية في تصوير الموساد على أنه جهاز دقيق يسعى دومًا لتجنب «الخسائر الجانبية» في عملياته.

تضيف الصحيفة إن الموساد جند لهذا الغرض عناصر في وحدة «أنصار المهدي» داخل الحرس الثوري، وأن التحقيقات كشفت عن وجود مزيد من المتفجرات في المبنى. في الوقت نفسه، تنقل التلغراف عن مصدرها أن «الجميع ما يزال يتساءل كيف حدثت العملية. لا أستطيع إيجاد منطق فيها. لا بد أن أحدًا ما في أعلى سلم التراتبية يعلم ما لا يعلمه أحد»، دون أن تبدو هذه الضبابية والتخمينات كنقيض لاطلاع المصدر على تفاصيل ما حدث.

عربيًا، تلقفت كثير من وسائل الإعلام سريعًا رواية النيويورك تايمز ومثيلاتها، ليعاد تدويرها مرارًا على شاشات الجزيرة، والعربية، والعربي، وبي بي سي عربي، وسكاي نيوز، والشرق، وصفحات الشرق الأوسط، والعربي الجديد، والقدس العربي، وغيرها الكثير. ورغم أن هذه المنصات لا تتطابق تمامًا في مواقفها، سواء من إيران أو حماس أو تجاه الحرب الدائرة عمومًا، إلا أن القاسم المشترك بينها كان تجاهل كل ما سبق من تغطيات للنيويورك تايمز خلال الحرب، سواء تلك التي كررت فيها المزاعم الإسرائيلية حول «جرائم» المقاومة في هجمات السابع من أكتوبر، أو التي بررت فيها استهداف مجمع الشفاء الطبي، أو التي اتهمت فيها المقاومة بالتسبب في مجزرة المعمداني، أو التي حولّت فيها مجزرة الطحين عند دوار النابلسي إلى «مأساة» بلا مجرمين.

كل ذلك ليس سوى غيض من فيض الأمثلة حول انحياز النيويورك تايمز الثابت لصالح «إسرائيل»، قبل الحرب وخلالها، فضلًا عن انحيازها الأقدم والأوسع ضد كل من تعتبرهم الولايات المتحدة أعداءً؛ انحياز يُتغاضى معه عن عناوين المصداقية والتحقق والموضوعية التي يحترف الإعلام الغربي الحديث عنها.

(موقع حبر)

شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي