قال صبري الحو، المحامي بهيئة مكناس، والخبير في القانون الدولي والهجرة، إن “الأحداث التي تعيشها فرنسا حاليا نتاج لتراكمات من السياسات العمومية الفاشلة في مجالات الشغل و التعليم والسكن، وتراجع مستوى الرفاهية العامة مقارنة بدول الجوار مثل ألمانيا وإيطاليا أو حتى إسبانيا”.
وأضاف صبري في تصريح لجريدة “بناصا”: “سيما وأن الفرنسيين نبهون في إجراء المقارنات بين ما كان عليه الوضع في فرنسا من أفضلية على دول الجوار وما أصبح عليه من تقهقر، وتقدم في مستوى جودة الخدمات عند نفس الدول موضوع المقارنة”.
اليمين والليبرالية.. وجها عملة “الإفلاس الفرنسي”
وتابع أن فرنسا اليوم، توجد “تحت حكم اليمين والليبرالية المالية المتوحشة التي تهتم لمصالحها الضيفة ولنسب الفائدة والعودة السريعة إلى الاستثمار ولهوامش الربح الكبيرة على حساب التوازنات الاجتماعية والرفاهية العامة”، مردفاً: “وهي الأحزاب التي سمحت للبرجوازية الفرنسية وللرأسمال الفرنسي تحت ضغط المنافسة وقوانين العولمة بترحيل العديد من الشركات وخوصصة كثير من الخدمات مما نجم عنه مشاكل اجتماعية، تجلى في ارتفاع معدلات البطالة وتوسيع دائرة الفئات التي تعيش الفقر و الهشاشة، والتي أصبحت تعتمد على المساعدات الاجتماعية”.
واسترسل صبري: “ومن ثم فالفشل المعلن والذريع في السياسات العمومية، والذي يتم التعبير عنه حاليا بطرق عنيفة وغير مدنية هو انحصار لسياسات اليمين الليبرالي المتطرف الذي يهمه الربح السريع ودورة الرأسمال القصيرة وغياب استثمارات استراتيجية طويلة الأمد، وهو في حقيقته فشل في اختيارات الناخبين في فرنسا من جهة”.
وأشار إلى أن فرنسا، قد تكون “أيضا ضحية التبعية لقوانين الاتحاد الأوربي التي أهملت وتهمل الجانب الاجتماعي، والتي وقعت بدورها تحت قبضة الأبناك وبيروقراطية الموظفين الأوروبيين والشركات عبر الوطنية والاستثمارات الخارجية التي لا تؤمن سوى بمنطق الربح”.
وأردف: “وهو الاتهام والشعار الذي رفعته حركات احتلال الملك والشارع العام خلال الأزمة الاقتصادية لسنوات ما بعد 2008، ومن بعدها الأقمصة الصفراء جيلي جون، حيث إن فرنسا انتقلت من الدولة الاجتماعية إلى فرنسا الليبرالية المحضة، التي أهملت وتخلت عن الاهتمام والعناية الاجتماعية التي ميزتها لعقود. ومن ثم فإن محاولة ربط ما تتخبط فيه فرنسا حاليا بالمهاجر هو مجرد شماعة تلقى عليها كل الشرور والآثام، مثلما الدين الإسلامي بريء منها”.
أوجاع الجمهورية الخامسة.. الواقع الذي يتهرب منه الجميع
والواقع الذي يتفادى الجميع الوقوف عنده، حسب صبري، “لأنه مرتبط بأوجاع ومصير الجمهورية الخامسة”، يتمثل “في نمو إحباط ويأس عامين بعد توالي نتائج فشل اليمين في الحكم وفي إعداد وتدبير السياسات العمومية سياسيا واجتماعيا واقتصاديا وما أسفر عليه ذلك من تدهور اجتماعي واقتصادي. ضدا على الخصوصيات التي كانت تميز المجتمع الفرنسي، ناتجة عن ثقافة متميزة و متوارثة عن الثورة الفرنسية في التسامح و المساواة و الأخوة الإنسانية، والتي يتم التعبير عنها دستوريا بالمساواة والأخوة والتضامن”.
ونبه صبري إلى أن هذه الأمور، “بادئ تتعارض مع شعارات وإيديولوجية اليمين التي أكرهت وفرضت على المواطن الفرنسي القبول بالسياسات اللليبرالية والخوصصة وتهريب الاستثمارات ورؤوس الأموال إلى مناطق تحقق أكبر فرص الربح وأكبر هامش في العودة إلى الاستثمار، وأصبح همه الوحيد البحث عن إعفاءات ضريبية في ملاذات ضريبية أو في “المناطق الحرة”. وأصبح المواطن الفرنسي النشيط عاطلا عن العمل ويسعى المساعدات الاجتماعية ولدى المنظمات غير الحكومية التي تشتغل في الميدان الاجتماعي”.
وأبرز أن المشكل نفسه “لاقته وتواجهه فرنسا في علاقاتها الخارجية سواء مع دول الاتحاد الأوروبي، بحيث تنظر إليها دول أوروبا الشرقية واليونان والبرتغال وإسبانيا بنظرة الدولة الأنانية، وتنازعها أخرى مثل إيطاليا وألمانيا في القيادة، بيننا دول الشمال تعتبر نفسها غير معنية، وأي مساس برفاهية مواطنيها قد تنسحب من الاتحاد الأوروبي بمجرد استفتاء تأكيدي على غرار بريطانيا، ووجدت فرنسا وألمانيا يؤديان مقابلا لاستمرار الاتحاد الأوروبي على حساب الحقوق الاجتماعية لمواطنيها”.
انكماش في مناطق النفوذ.. ويأس عامّ داخليا وخارجيا
وأكد صبري أن مشاكل فرنسا، لم تقف “عند هذا الحد بل تواجه صعوبات في إفريقيا وانكماشا في مناطق نفوذها بسبب رفض دول الساحل ومستعمراتها القديمة أسلوب التبعية، الذي أصبح متجاوزا وينظر إليه على أنه استعمار بطريقة حديدة من قيادات إفريقية وطنية مستقلة، و تعزز هذا الرفض بعروض دولية بالشراكة بناتج “رابح رابح ” أي الربح المتبادل. وبزغ ما يمكن تسميته بالحراك الإفريقي نتج عنه طردها من مجموعة من مناطق نفوذها الحيوي في مالي وإفريقيا الوسطى وبوركينافاسو، وبوادر لنفس الرفض في غينيا و الكونغو الديمقراطية والجزائر”.
فاليأس، حسب صبري، “عام داخليا في فرنسا وخارجيا برفض التعامل معها بنفس الأسلوب والسياسة”، فهي اضطرت “إلى الانسحاب الذي يوازيه الطرد، وهي مهزومة من دول الساحل تحت هتافات تندد بسياساتها الاستعمارية والعنصرية وسياسات التبعبة التي تفرضها ليس فقط على دول صغيرة مثل مالي و النيجر، بل على دول متوسطة ونامية مثل الجزائر باعتراف الرئيس الجزائري تبون نفسه حين طالب بوتين بانقاذه للتخلص من تبعية التعامل باليورو، وهو يقصد فرنسا”.
ماكرون متهوّر وغير ناضج سياسيّ
ومضى صبري يقول، إن هذا السلوك، يعكس “تصرفات الرئيس الفرنسي ماكرون تهورا وعدم نضج سياسي في خرجاته الإعلامية وردود فعله، الذي يطبعه إهانته لمحاوريه، وفقا لما تدل عليه حركاته بوضع يده على كتف ضيوفه أو وراء ظهورهم، وفي طريقة جلوسه وتظاهره بأنه ينصت لهم بشكل وطريقة تدل على عجرفة وتكبر و عنصرية لا يقدر على إخفائها، لأنه من هواة السياسة وليس محترفا متمرسا لها”.
فتداعيات هزيمة فرنسا خارجيا، وفق الخبير نفسه، “وخيمة على ثقة المواطن الفرنسي بدولته، إذ يختلف الفرنسيون على غيرهم من مواطني الدول الأوروبية في تركيز اهتمامهم السياسي داخليا ومواظبتهم لما يجري من أحداث في العلاقات الدولية. وهم يرصدون ويعاينون تقدم الصين و روسيا في إفريقيا و يتابعون بحسرة وحنق و مذلة تراجع دولتهم وطرد جيوشها وإفراغ قواعدها وإلغاء صفقات وعقود شركاتها ومؤسساتها واتهامها الأخلاقي بالعنصرية وبجرائم الإرهاب”.
هذا، ونبه صبري، إلى أن دعوات الطرد والإفراغ، تكررت “في مناطق متعددة في كل من مالي وبوركينافاسو وإفريقيا الوسطى، كما اضطرت فرنسا إلى إلغاء عمليات براخان التي توفر الحماية لمناجمها من الأورانيوم في النيجر وتشاد ومالي وفي جنوب الجزائر، بسبب رفض الأخيرة الانخراط والمشاركة في العملية وفي القبول بتوليتها لها، رغم تعديل الجزائر لدستورها بما يسمح بإرسال قواتها إلى الخارج (الأساس الذي تحكم في تعديل هذه المادة)، بل عمدت الجزائر وتجرأت إلى قطع أجوائها أمام الطيران العسكري الفرنسي، وإلغاء صفقات لشركات فرنسية كانت تحظى بالامتياز والأفضلية والامتياز امتدت إلى قطاعات استراتيجية في الجزائر، وذلك تحت الضغط الروسي”.
عجز فرنسا ممتد لمختلف القطاعات
وواصل صبري، أن العجز الفرنسي لم يقف “عند هذا الحد، بل امتد ليطال القطاع الخاص والشركات الفرنسية التي أظهرت عدم القدرة على منافسة الصين داخل السوق الفرنسية نفسها، رغم ما تفرضه فرنسا من سياسات حمائية لسوقها الداخلي وشركاتها الوطنية في مواجهة الصين و الهند و البرازيل. وهي نفس المشاكل التي تواجهها الفلاحة الفرنسية غير القادرة على المنافسة داخل السوق الأوروبية لصالح الفلاحة الإسبانية والإيطالية واليونان وأوروبا الشرقية”.
وأوضح صبري، أن عوامل الهشاشة وأسباب الضعف ونتائج الفشل “تتعدى مسألة الهجرة أو التطرف الديني التي يروج له الإعلام والخطاب السياسي الرسمي الذي يربطه بالمهاجرين أو حتى بالإسلام السني. وهو في كنهه وجوهره ربط اعتباطي وتعسفي و غير صحيح لأنه عبارة عن تهيئات وأوهام اليمين المتطرف العنصري وغير الوطني، الذي يبحث مؤقتا عن ذريعة لتجاوز المعضلة الاجتماعية، والتي اعتاد على معالجة مثل هذه المشاكل باعتماد المقاربة الأمنية”.
وشدد المحامي نفسه، على أن “اليمين أثبت فشله وعجزه، و الأخطر أنه مازال يكتسح و يسيطر على الحكم في أغلب دول أوروبا، رغم أنه يشكل في محصلة العدد أقلية، وفي النهاية يعتبر خطرا على كل أوروبا. فالأخيرة لم تعد جنسا أوروبيا خالصا، فالمجتمع الفرنسي خاصة وكل المجتمعات الأوروبية-بتفاوت بين الدول العريقة في ميدان الهجرة والمعاصرة منها- عرف تحولات ديمغرافية، وأصبح مختلطا ومتنوعا بعد عقود من الهجرة من أجل تلبية حاجات اقتصادية أو من أجل تحقيق توازن ديمغرافي الذي اختل لصالح الشيوخ والكهول”.
وهكذا، يقول صبري، فـ”الخطاب العنصري لليمين المتطرف يشكل خطرا على السلم الاجتماعي الأوروبي لأنه لا يراعي ولا يتكيف مع متغيرات ديمغرافية إجتماعية وحقوقية، وهو غير قادر على مواكبة تحولات وتطور العصر الذي يحتاج عقليات وذهنيات يقظة تراعي حقوق الشركاء في الخارج وسياسات وقيادات وطنية ومتحررة من تحملات وثقل خدمة فئات ضيقة على حساب القاعدة الواسعة للمجتمع الأوروبية”.
واختتم صبري تصريحه، بالتأكيد على أن سياسات سبق أن “أدركتها الصين وروسيا فاستعجلت الأخذ والعمل بها، وطبقتها وتحقق عبرها عائدات سياسية واقتصادية وثقافية سريعة تنعكس على مجتمعاته وعلى وجه وسمعتها في العالم في مقابل انكماش وتراجع نفوذ وسمعة فرنسا.والقادم أخطر!”.
تعليقات الزوار ( 0 )