Share
  • Link copied

شكرُ إيران … والنقاش العبثي

حبا الله الأمة الإسلامية برجال يؤثرون العمل على القول، ويعملون بجد على نهضتها ورقيها وتخليصها من مخالب أعدائها، وابتليت الأمة في الآن نفسه بأناس عطّالين بطّالين، آمنوا بمقولات توهموها مسلّمات وبدهيات، وارتقوا بها إلى مستوى المَعْيَرة، فحاكموا غيرهم من العاملين بناء عليها.

ومن هذه البابة، ما وقع مؤخرا بعد النزال العسكري بين المقاومة الفلسطينية الباسلة، والجيش الصهيوني المدعوم من العالم الغربي وغير قليل من العالم العربي، حيث توجه السيد القائد إسماعيل هنية بتوجيه الشكر لكل من قدم عونا ودعما للمقاومة، ووجه الشكر لدولة إيران، كما أثنى القيادي موسى حمدان على بشار الأسد الذي استقبله رفقة آخرين بسوريا، فقامت على إثر هذين الحادثين معارك ضارية على مستوى مواقع التواصل، حيث ندد كثير من المعلقين على هذين الرجلين تنديدا واستنكارا، وَوُوجهوا بتعليقات آخرين مدحا وثناء.

المثاليات والمبادئ:

تبنى المستنكرون على القائدين الميدانيين هنية وحمدان سمفونية غريبة، مفادها أن شكر إيران هو بالضرورة دعم لها في مواجهاتها ومواقفها في سوريا والعراق واليمن ولبنان، ومنهم من زعم أن إيران لم تقدم الدعم إلا لتنال هذا الثناء لتسويق نفسها في العالم العربي، وبالتالي الاستمرار في تعاونها مع سوريا الأس.، دون أن ننسى البعد الطائفي الذي كان حاضرا بقوة في هذا النزال الإلكتروني، حيث ذهب البعض إلى “حرمة” شكر إيران الرافضية التي تحرف القرآن وتلعن الصحابة إلى أخر الأسطوانة، ومنهم من ذهب إلى أبعد من هذا، حيث قال بضرورة امتناع المقاومة الفلسطينية عن تسلم الدعم الإيراني، وقد أضحكتني بعض “اجتهادات” المعلقين، حيث حاول إقناع المخالف بصناعة قياس لا نظير له ولا شبيه، حيث قال بحرمة الإشهار للخمر لأنه محرم، وقياسا عليه، لا يجوز شكر إيران علناً، لأن ذلك يستبطن دعاية لها. إلخ ما قرأت من تعليقات.

الواقعية والميدان:

ابتلي الفضاء التواصلي بأناس يتقنون قراءة الكتب وكتابة التعليقات، مع راحة البال، والحياة في أمان، مع بعد تام عن الواقع وإشكالاته وإكراهاته، أما المكتوون بنار الواقع، وترتيب الأولويات، فإنهم يؤمنون بالبحث عن المصلحة أيا كانت، وقد تكون المصلحة ضررا دون ضرر أخطر منه، لكن صاحب المبادئ والمثاليات يرفض ذلك الضرر وإن كان محقِّقاً لمصلحة درء الضرر الأعلى.

وبعيدا عن المثاليين، نرجع إلى أصحاب الواقع والمحتكين بالواقع والمخالطين للواقع.

كان علال الفاسي رجلا عالما فقيها مقاصديا خريج جامعة القرويين، لكنه لم يكن بطّالا، بل كان في غمرة الواقع وفي صراع واحتكاك مباشر مع الواقع، وله إشارات بديعة وملاحظات دقيقة يمكن الرجوع إليها للاستفادة منها لفرملة الجنوح نحو المثاليات.

كان شكيب أرسلان رحمه الله معارضا لكل الاحتلالات التي عانت منها الأمة، الاحتلال الفرنسي والاحتلال الإنجليزي والاحتلال الإسباني وغيرها، وكانت هذه المعارضة عنده مبدأ وعقيدة، وليست تكتيكا متغيرا، لهذا حارب إيطاليا بالسلاح وبالدعاية في ليبيا، ورغم ذلك، مدّ يد العون لموسوليني حينما أراد أن يدشن عهدا للتقارب بين إيطاليا والعالم الإسلامي، هنا ثارت ثائرة أصحاب المبادئ والمثاليات، فهاجت الدعاية الإنجليزية ضد الأمير شكيب، واستعملت سذج المصريين في هذه الدعاية، مستعملين لغة المبادئ، وأن الدم الإسلامي واحد، ولا فرق بين ليبيا وبين غيرها من البلدان، إلخ ما نسمعه اليوم من كلام حول عدم التفرقة بين الدم الفلسطيني والدم السوري واليمني.

هنا يأتي دور علال الفاسي، الرجل الذكي الواقعي البعيد عن المثاليات، والحريص على دينه وعلى أمته حتى لا يتهمه أحد، فقال معلقا على موقف شكيب أرسلان: “لم يكن الأمير في عمله هذا أكثر من سياسي يستعمل التكتيك اللازم لإنجاح قضايا العرب والمسلمين المتحدة في اهتمامه وتفكيره”.

وليزيد الأمر وضوحا، ضرب علال الفاسي مثالا بعد وفاة أرسلان، وافترض أنه لو كان حيا لساند المقربين من أعدائه الإنجليز، لأنهم ضرر أقل من ضرر اليونان في قبرص، فقال علال الفاسي: “لكي نفهم عقلية الأمير في هذا، يجب أن نذكر على جهة المثال قضية قبرص التي تطالب اليونان بتحريرها من السيطرة الإنجليزية، بينما تريد الأقلية المسلمة المقيمة بها أن تبقى مؤقتا تحت حكم الإنجليز إلى أن ترجع إلى أمها تركيا، فلو كان الأمير حيّا لما وقف غير موقف التأييد للأقلية المسلمة، أي لبريطانيا عدوته اللدود، ولما شغل نفسه بمبدأ تقرير المصير العزيز على دول الأمم المتحدة”.

هذا درس عظيم في السياسة، ودرس عظيم في المقاصد الشرعية التي كان الفاسي حامل رايتها، وقد بيّن بالكلام الصريح الفصيح، أن شكيب أرسلان – وهو مؤيد له – قد يتخلى عن المبدأ والمثال من أجل المصلحة، فقال: “إن سياسته الخارجية لم يكن يمليها عليه مبدأ مثالي محضَّر، ولكن كان يمليها عليه إيمانه بقوميته العربية وبمِلِّيته الإسلامية، فالجهة التي فيها مصلحة العرب والمسلمين هي الجهة الحق التي يجب أن يناصرها، ولو كانت ضد المبادئ العامة التي يشيد الناس بذكرها في كل المناسبات”.

ولنتأمل الجملة الأخيرة جيدا، ولنقرأ كيف ينظر الفقيه السياسي للموازنة بين المصالح والمبادئ.  

أما كون شكر المقاومة هو دعم لإيران وتزكية لعقيدتها الشيعية، فهذا هراء بيّن، وأستغرب كيف يصدر عن باحثين، وقد استعان النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعبد الله بن أريقط وهو مشرك، وكافأه على ذلك، فهل كان بتلك المكافأة مزكيا لعقيدته وأقواله؟

وبالنسبة للبعد الطائفي الحاضر القوي في هذه المعركة، نشير إلى أن علاقة السنة بإيران مرت من مرحلتين:

المرحلة الأولى: مرحلة الشاه. كان السنة والشيعة سمنا على عسل، وكان حكام السعودية يتبادلون الهدايا مع الشاه، ويثنون عليه وعلى سياسته، وكان علماء السعودية في [غيبة] تامة عن الروافض وعقائدهم. وكان عامة فقهاء المسلمين على وئام مع الفقه الإمامي الشيعي، وقد استمدت مدونة الأحوال الشخصية بتونس (1957) من المذهب الجعفري وانفتحت عليه، وعلال الفاسي السني المالكي أبا عن جد، ذهب إلى إيران، وزارها مرات، واستضيف في إحدى زياراته شهرين تامين، ولنستمع عنه يحكي عن إحدى زياراته حيث قال: “زرت [مشهد] العاصمة الروحية، ونعمت بزيارة المقام الرضوي”.. ولنتأمل عبارتي [العاصمة الروحية]، و[المقام الرضوي] جيدا، وقال أيضا: “وصلت [مشهد]، فوجدتني مع إخوان عرفتهم من قبل، وحضرت مع الشعب في ضريح الرضا محفل العزاء لمقتل سيدنا الحسين بن علي رضي الله عنه، وعرفت مقدارا لمحبة التي تملأ روح الشعب الإيراني لآل البيت الكرام، ومهما تكن آراء المذاهب الإسلامية في مسائل الإمامة ولوازمها فإن أحدا لا يمكنه إلا أن يعجب بهذا الحب العميق للرسول ولذريته، وهذا التطلع للعدل الذي هو الغاية من كل نضال”، اما افتراءات السنة على الشيعة، فقد تناول إحداها حين تحدث عن “دفع كل المحاولات التي عمل لها دساسون، معظمهم من الأجانب لإيهام أن هناك قرآنا شيعيا وآخر سنيا، وإن هناك زيادة أو نقصان في كتاب الله”.

المرحلة الثانية: مرحلة الثورة. وهي إحدى أعظم الثورات في التاريخ على الإطلاق، وغني عن البيان، أن الثورة والحرية تنتقل بين الشعوب وتتجاوز الأقطار، كما يعبُر الاستبداد والقهر والإيديولوجية الحدود والأقطار والقارات، ولما انتصر البلشفيك في روسيا، انتشرت إيديولوجيتهم، ولم تبق حبيسة القطر الواحد، ولما تفكك الاتحاد السوفييتي، تساقطت الأنظمة الموالية له واحدا تلو الآخر، ولما اندلع الربيع العربي في تونس انتقلت نسماته عبر الأقطار أيضا، ولما انتصر الإخوان في انتخابات مصر خافت الدول الإقليمية من انتقال “العدوى”، فتسابقت الإمارات والسعودية يتباكون على الغرب ويطلبون منهم الغطاء السياسي للقيام بالثورة المضادة…..

قياسا على ما سبق، نقول بأن الثورة الإيرانية كانت ستصيب لا محالة دول الجوار، خصوصا أن في البحرين والسعودية والعراق وغيرها مواطنون شيعة، لذا تحالف العرب كلهم، وتجاوزوا خلافاتهم لمواجهة إيران، فوجدنا الوهابية بالسعودية أرجعوا علماءهم من “الغيبة”، وانتشرت الفتاوى الرافضة للرافضة، وتحالف السعوديون الوهابيون مع العراقيين البعثيين، رغم أن البعثيين كفار في نظرهم، ولم يرفع أحد منهم شعار المبادئ والمثاليات حينها، ووضعوا يدا في يد لمواجهة الخطر الفارسي المجوسي الرافضي…

المقارنة بين المرحلتين المشار إليهما تعني بالملموس أن الصراع بين الشيعة والسنة الموجود الآن هو صراع سياسي محض، ولو كان صراعا إيديولوجيا فكريا عقديا لكان سائدا قبل الثورة الإيرانية.

نعم، لإيران أخطاء في سياستها الخارجية، كما أن للسعودية أخطاء أيضا، والأمر نفسه مع عراق صدام وسوريا حافظ الأسد ومصر السادات ومَن قبله ومن بعده.

ومن غرائب وطرائف المثاليين، أنهم يناهضون الطائفية، ولا يشعرون أنهم في الطائفية غارقون، لذلك تراهم الآن يرفضون شكر هنية للإيرانيين، ويرفضون تعامله معهم، ولكنهم كانوا كثيري الثناء والتعظيم والتبجيل للمجاهدين الأفغان في حربهم ضد الروس، ولم ينددوا بالدعم الأمريكي للمجاهدين، ولم يستنكروا تلقيهم صواريخ كروز والأسلحة المتطورة منهم. فلماذا يقبلون الدعم الأمريكي ويرفضون الدعم الإيراني؟

لا جواب لهم سوى أن الإيرانيين أراقوا الدم السني في مناطق بعينها، وكأن الأمريكان كانوا يجمعون الدم السني المتناثر في العالم في القارورات لتقديمه لنا باعتباره أطيب الطيب.

هنا نسجل أن كثيرا من المبدئيين ليسوا سوى أدوات في يد الاستخبارات العالمية والمحلية دون وعي أو شعور منهم. لسذاجتهم وطيبتهم، فهم جند الله في معركة الخطأ حسب عبارة فهمي هويدي.

شكر بشار الأسد:

من مؤاخذات المبدئيين المثاليين الحالمين، استنكارهم على أسامة حمدان حفظه الله الذي أشاد بمواقف بشار الأسد في دعمه للمقاومة.

والسؤال هو: لما استقبل بشار ممثلي المقاومة المقيمين في بلاده ماذا عساهم أن يقولوا له؟ هل استقبلهم ليلوموه ويعاتبوه وينتقدوه؟ أبعد هذه الوقاحة وقاحة؟

إن سوريا الأسد (حافظ وبشار) احتضنت المقاومة ودعمتها منذ عقود، وهذا ما لم تقم به البحرين أو الإمارات العربية المتحدة، ومن جعل هؤلاء سواء ليس لحمقه دواء، ومعلوم أن شكر بشار في دعمه ليس بالضرورة تزكية لاستبداده أو ديكتاتوريته أو تفرده بالحكم.

لنعد إلى الوطنيين ونبتعد عن الحالمين. كانت قيادات الحركة الوطنية في المغرب تزور فرنسا وإسبانيا، وتقيم هناك، وكانت على علاقة بالمقيمين العامين بالمغرب، وكانت القيادات الوطنية تراسل المسؤولين الفرنسيين سواء في فرنسا أو في الإقامة العامة، ويدبجون خطاباتهم بلغة ديبلوماسية لبقة، فيها ثناء وتمجيد، ويفتتحونها بفخامة فلان، أو حضرة صاحب الفخامة المسيو فلان، رغم أن الحرب بينهم في الواقع سجال، فهل كانت تلك المجاملات الخطابية من نواقض الوطنية؟

وذات مرة، منعت إسبانيا علال الفاسي من دخول تطوان عبر سبتة، فما كان منه إلا أن يذهب إلى إسبانيا ليلج المغرب عبر بوابة طنجة، وما أن وطئت أقدامه أرض الوطن حتى استقبله الوطنيون بخبر محزن، وهو أن فرنسا تبحث عنه لاعتقاله، فرجع إلى إسبانيا أياما، ثم ذهب إلى فرنسا وأقام بها شهورا، وكان يلتقي بالفرنسيين ونخبتهم، هنا ننتبه إلى أن السياسة ليست مؤطّرة بالمنطق والمبادئ والقواعد الفيزيائية الصارمة، فعلال الفاسي مبحوث عنه من قِبل فرنسا على أرض المغرب، لكنه غير مطالَب به وغير مبحوث عنه حين كان مقيما في فرنسا. فهل هذه الإقامة دليل على خيانته كما يروج المبدئيون المثاليون عن الخميني الذي كان مقيما في فرنسا ذاتها؟ وهل كان الغنوشي عميلا لبريطانيا حين أقام على ترابها سنين عددا؟ وهل كان الشهيد المهدي بنبركة عميلا لفرنسا حين استوطنها ردحا من الزمن؟

لا دواء للمثاليين البطالين العطالين إلا مقاربة مثل هذه الأسئلة الشائكة المحرقة، وكذا الانخراط في الجمعيات والنقابات والأحزاب حتى يعرفوا الواقع من كثب، دون أن يعرفوه من خلال الدفاتر والقوانين الرياضية والفيزيائية.

Share
  • Link copied
المقال التالي