Share
  • Link copied

شظايا أفكار في زمن الحصار الكوروني

      على خلاف مجموعة من سلالات الفيروسات التاجية المتوطنة في الصين (Endemic)،استطاع فيروس كورونا المستجد أن  يتفلّت من السيطرة ليمتد إلى 180 دولة على الأقل، ولذلك صنف كمرض وبائي جديد (Pandemic)  لينضاف إلى أوبئة عديدة عاشها العالم، هو مرض تنفسي فتاك بحيث قد تصل حدته أحيانا إلى التوحش المميت، حيث معه يُحضَر عليك أن تلهو مع جسمك لأن اللمسة قد تغدو مرادفة للموت.لم نتصور كيف يهاجمنا أو كيف سيحدث ذلك، بل حتى لا ولم نقدر على توقع مسارات تطور شيوعه.

       فمع عزل مئات الملايين من الناس حول العالم، تحول مرض كورونا إلى جائحة وأصبح حدثًا عالميًا حقًا، فهو لا يحترم الحدود التي فرضها الإنسان، بل إنه في ظل حركة العولمة تضاعف نطاق مخاطره على السكان والمجتمعات والاقتصادات بشكل كبير، وربما هي المرة الأولى في التاريخ الحديث التي  يركز العالم المترابط بأكمله على حل مشكلة واحدة هي مشكلة هذا المرض.

       وهكذا فأسطورة الوباء التالي أو الطاعون القادم المتخيّلة منذ سنوات على أساس تشابك منهجي بين العلم والسياسة والإنتاج الثقافي صارت حقيقة تحذر من  رعب فكرة أن تصبح الحياة الإنسانية الراهنة تحت رحمة جسم دقيق على حد تعبير لويس باستور .

      في الوقت الذي يتصرف فيه هذا الكائن الفيروسي غير المحدد أنطولوجيا كعدو خفي للبشرية، لم يستطع  هذا التحدي أن يترجم أشكال اليقظة الجماعية في إطار نظام الأمن الصحي العالمي تحت اسم “الاستعداد للأوبئة” إلى استجابة عالمية فعلية للوباء الحالي. ذلك أن  تاريخ الأوبئة القريب جدا مع السارس وأنفلونزا الخنازير وأنفلونزا الطيور لم يجعلنا أكثر حكمة، ربما لأنه كما كتب هيغل “الشيء الوحيد الذي يمكننا تعلمه من التاريخ هو أننا لا نتعلم شيئًا منه”.

      طبعا هذه ليست دعوة للاستمتاع بمعاناة واسعة النطاق بشكل سادي بقدر ما تساعد أزمتنا الحالية، عكس ذلك، على التفكير في حقيقة محزنة هي أننا بحاجة إلى كارثة حتى نتمكن من إعادة التفكير في السمات الأساسية للمجتمعات التي نعيش فيها.

      ما رأيناه مع مرض كورونا هو عودة هائلة إلى المعنى الأصلي لمصطلح فيروس، ذلك أنه في العقود الأخيرة، تم استخدام هذا المصطلح في الغالب لتحديد الفيروسات الإلكترونية التي أصابت فضاء الأنترنيت والتي لم نكن على دراية بها على الأقل حتى تم إطلاق العنان لقوتها التدميرية لأجهزتنا الحاسوبية وبياناتنا الرقمية. أما حاليا فقد وجدنا أن العدوى الفيروسية تعمل جنبًا إلى جنب في كلا البعدين: الافتراضي والحقيقي.

        علمتنا التعليمات الصحية أن الحفاظ على مسافة جسدية هو إظهار الاحترام للآخرين. صرنا نتجنب بعضنا في ظل الخشية من أن يكون منا حاملون للفيروس، وما قد يكون مرضًا عابرًا بالنسبة للبعض يمكن أن يكون مميتًا بالنسبة للآخرين. لقد سمعنا  مرارًا وتكرارًا أن كل واحد منا مسؤول شخصيًا بالحفاظ على “مسافة مضمونة بشكل متبادل”. يذكرنا ذلك بقاعدة البقاء في الحرب الباردة (التدمير المؤكد المتبادل).

      أدى الانتشار المستمر لوباء الفيروس التاجي إلى انتشار وباء واسع النطاق للفيروسات الثقافية والإيديولوجية التي كانت كامنة في مجتمعاتنا، من أخبار مزيفة، ونظريات مؤامرة.حيث كشفت حجة وجوب أن تسيطر الدولة على الشائعات لمنع الذعر، أن هذه السيطرة نفسها تنشر عدم الثقة وبالتالي تخلق المزيد من نظريات المؤامرة. فقط الثقة المتبادلة بين الناس والدولة يمكن أن تمنع حدوث ذلك.

      بل إن ما جعل الأمور تسوء هو أنه لا توجد طريقة سهلة لفصل حرية الكلام عن الشائعات خاصة في ظل المجال الواسع للأخبار الرقمية، ولذلك بقدر ما تشكو الأصوات الناقدة من أن السلطات قد تعامل أحيانا الحقيقة على أنها إشاعة، بقدر ما نستغرب أن وسائل الإعلام الرسمية نفسها مليئة فعلا بالشائعات. إن قبولنا في صمت السيطرة الكاملة على حياتنا من قبل أجهزة الدولة في ظل الوباء،يجب أن لا يثنينا عن اتباع ما أسماه إيمانويل كانط “الاستخدام العام للعقل” الذي قال بشأنه فيما يتعلق بقوانين الدولة “أطيعوا، لكن فكروا، حافظوا على حرية الفكر!”.

      الغريب أن بعض قادة الدول حتى وهم يحاولون إظهار الهدوء والثقة، ينطقون أيضًا بتنبؤات رهيبة بشكل منتظم، فمنهم من رجح أن يستغرق الوباء حوالي عامين، ومنهم من رجح أنه سيصيب من 60 إلى 70 في المائة من سكان العالم، مع وفاة الملايين منهم. ربما رسالتهم الحقيقية كما ذهب إلى ذلك الفيلسوف سلافوي جيجيك SLAVOJ ŽIŽEK)) هي أنه سيتعين تقليص حجر الزاوية للأخلاقيات الاجتماعية مثل رعاية المسنين والضعفاء، حيث أعلن في  إيطاليا بالفعل وبباسطة أنه إذا ساءت الأمور في مواجهة اصابات مرض كورونا، فإن أولئك الذين تزيد أعمارهم عن 80 عامًا أو الذين يعانون من ظروف صحية خطيرة سيتركون ببساطة ليموتوا. إنها نازية جديدة تعيد إلى الأذهان استراتيجيتها البائدة  الممهورة بشعار “دعوا كبار السن والضعفاء يموتون لتقوية الأمة وتجديد شبابها”.

      الآن ونحن عالقون في أزمة ثلاثية الأبعاد: طبية واقتصادية ونفسية، وفي الوقت الذي  ما نزال نتساءل عن ماهية الخطأ الذي وقعنا فيه غير مستعدين لكارثة على الرغم من تحذير العلماء لنا عنها لسنوات، ُجهدنا تفكير أشد حول كيفية إدخال التعديلات اللازمة على ترتيبات نظام الرعاية الصحية لدينا. بل سيؤثر التغيير على كل شيء، من الطيران إلى العطلات إلى الاتصال الجسدي البسيط…

      أكثر من ذلك، سوف لن يعود العالم ليبراليا، وبشهادة الليبراليين الذين اكتشفوا تهديد الوباء للقيم الليبرالية وأصبحوا واعين بأن التغيير الجذري فقط هو الذي يمكن أن ينقذهم.قد تبدو هذه الرؤية شيوعية، ولكنها ليست خيالية، بل فرضتها ضرورات البقاء، وإلا كيف نفسر اتجاه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لتقييد حرية الشركات الخاصة بإجبارها على إنتاج ما هو مطلوب للقتال ضد الفيروس التاجي، خاصة أن صدمة الاجتياح الوبائي كانت قوية على بلاده وسائر الدول الغربية المتقدمة، لأنهم اعتادوا على الحياة بدون أعداء حقيقيين، فوجدوا أنفسهم في مواجهة عدو لا تماثلي لم  تمض على عمره سوى ستة أشهر لكنه أثبت أنه مازال قادرا على إحداث الفوضى في بلدانهم وفي كل مكان من العالم.

      سيتعين علينا للعودة إلى حياتنا الطبيعية بناء الوضع الطبيعي الجديد على أنقاض حياتنا القديمة، لكن كونه سيكون جديدا هو أكبر دليل على أنه لن يكون طبيعيا حقا، بل سيصير على غير ما كان قبلا. وربما سنجد أنفسنا في مرحلة ما بعد التعافي من الوباء خاصة في ظل التهافت على ترميم أضراره الاجتماعية والاقتصادية أمام بربرية جديدة تكون علاماتها واضحة بالفعل.

      يقول الجميع اليوم أنه سيتعين علينا تغيير نظامنا الاجتماعي والاقتصادي. ولكن، كما لاحظ توماس بيكيتي في تعليق حديث في Nouvel Observateur فإن ما يهم حقًا هو كيف نغيره، في أي اتجاه ،وما هي التدابير المطلوبة.

     صحيح أنه تم تسييس الوباء بكثافة، لكن هذا لا يعني وجوب أن نضع السياسة جانبا، فهذه فكرة قاصرة، ذلك أن السياسة الحقيقية مطلوبة في الوقت الراهن، حيث القرارات المتعلقة بالتضامن الدولي لا يمكنها إلا أن تكون سياسية بشكل بارز لتفرض علينا أن نعمل في انسجام لإنقاذ أنفسنا ما دمنا جميعًا معا في هذه الأزمة.فمن خلال جهودنا لإنقاذ البشرية من التدمير الجزيئي للحياة نحن نخلق إنسانية جديدة. فقط من خلال التهديد الوبائي الذي يحاصرنا يمكننا أن نتصور إنسانية موحدة.

*أستاذ العلوم السياسية، جامعة سيدي محمد بن عبد الله

      .

Share
  • Link copied
المقال التالي