Share
  • Link copied

“سَلَمات أبو البنات”.. ونقاش شخصيّة “الأب” في العائِلة العربيّة

رغم أنّني لم أتقن تماماً الدّارجة المغربيّة بعد، فلم يمضِ على استقراري في المملكة المغربيّة أكثر من بضعة أشهر، إلّا أنّني قرّرت ذاتَ ليلةٍ رمضانيّة مُشاهدة مسلسل “سَلَمات أبو البنات”، بعدما أثار متابعون ونشطاء موجةً من التعقيبات المؤيّدة والمنتقدة لهذا العمل الذي بثّته قناة MBC5 في رمضان المنصرم، والحقّ يُقال؛ فإنّني أَرْهقتُ الصّديقات والأصدقاء المغاربة بأسئِلتي المتكرّرة حول بعضِ المصطلحات الدارجة، كما أضحكتهم بالضّرورة وأنا أحاول نطقها بلكنتي الفلسطينيّة.

سَلمات أبو البنات

مسلسل درامي مغربي، من تأليف بشرى بلواد، وإخراج هشام الجبّاري، وبطولة كل مِن محمد خيي، والسعدية لديب، وعمر لطفي، وبشرى أهريش، والبشير عبدو، وجيهان كيداري، وفاطمة الزهراء بلدي، وسلمى صلاح الدّين، وعبد الغني الصّناك وآخرين. 

تدور أحداث المسلسل حول شخصيّة الأب مختار سلمات التي جسّدها الفنان خيي، حيثُ يُحال إلى التقاعد بعد سنواتٍ طويلةٍ من العمل مراقباً لخط “التراموي” بالدّار البيضاء، ومن الواضح أنّ هذه السّنوات خلقت فجوةً كبيرةً بين المختار وعائلته المكوّنة من ثلاث فتيات إضافةً لزوجته، مما يؤدّي لتسارع الأحداث والمشاكل الاجتماعيّة، بعد تفرّغ المختار لعائِلته، والتي تتطوّر عبر الحبكة الدراميّة بطريقةٍ منطقيّةٍ أحياناً، وتحمل المبالغة في أحيانٍ أخرى. 

وقد وجَّهَ الكثير من المشاهدين الانتقاد للمسلسل الذي احتوى أخطاءً إخراجيّةً لستُ بصدد إعادة ذكرها، لكن لعلّ الاستعجال نتيجة ما لحق بالبلاد من أزمة صحيّة أدّت لوقوع هذه الأخطاء التي تغتفر إذا ما نظرنا إلى المسلسل كمترجمٍ لقضايا مجتمعيّةٍ مُلِحَّةٍ تمسّ العائِلة العربيّة بشكلٍ عام وليس المغربيّة فحسب، وإذا نظرنا إلى التّابوهات التي طرحها المسلسل بجرأة وحقيقيّة.

أولادُكم أبناء الحياة المُشتاقة

فتح المسلسل الباب واسعاً لنناقش شخصيّة “الأب” العربيّة وعلاقته بالعائلة والأبناء/البنات، فعلى الرّغم من أنّ الكثير من المتابعين قد يرون في مختار سَلمات نموذج الأب المثالي المُحافظ والحريص على أبنائِه وتربيتهم، الخائِف على “شرفِهِ” وسمعته في “الحومة/الحيّ” في ظلّ ما يُسَمّى بتغيُّر العادات المجتمعيّة، والانفتاح والتّحرر الذي يُهدِّد الأُسَر العربيّة، إلّا أنّ هذا كلّه تحوَّلَ إلى خوفٍ مَرَضيٍّ وشكٍّ دائِمٍ ظهر في تصرّفات وملامِح المختار سلمات أثناء خروجه مع بناتِه وتعامُلِهِ اليوميّ معهنّ، وإنْ كان المسلسل وقفَ على مسافةٍ واحِدةٍ من الأطراف كافّة؛ إلّا أنّنا لن نستطيع تجاهُل هذا الضّغط النّفسي والحدّ من الحرّيات الأساسيّة في الحركة والتّنقل التي مارسها سلمات على بناته، ما أدّى لضجرٍ وخوفٍ دائِمَين خَلَقَا مبرراً لحالة الكذب في الأسرة/الأُسَر، وعدم التّصارح مع الأب من جهةٍ كتصرّفات “نسرين” الفنانة سلمى صلاح الدين، وأدّى أيضاً لأن تصبح شخصيّة نسرين ذاتها كما يقول المثل العربي “هَجين.. وِقِع في سلّة تين” عندما كتب لها “يوسف” الفنان عمر لطفي، خطيبها وزوجها فيما بعد، رقم هاتِفه، فهرعت للكلام معه ثمّ للخروج.  

وبالضّرورة فإنّ سيناريو المسلسل يختلف عن سيناريو الواقع.. فاللّقاء “البريء” مع يوسف، والذي أفضى لإصرار الشّاب فيما بعد على خطبتها رسمياً لن ينتهي هكذا في الكثير من الأحوال. ولم يتوقّف الأب تحت ذرائِع “سمعته” عن ممارسة ضغوطه تِجاه ابنته حتى بعد خطبتها، ولو جاءت مضحكةً مشاهد خروجه معها ومع خطيبها إلّا أنّها تمثّل مشكلة عدم الثّقة والشّك، وتوّج هذه التّصرفات بالرّجوع إلى العادات والتّقاليد القديمة في اشتراط الزّواج على التّرتيب خاصّةً للبنات في الأسر العربيّة.. ولعلّنا نتّفق أنّ الحبّ محرّكٌ أساسيٌ لهذه التّصرفات؛ لكنّ إحدى الأساطير تروي حكاية الدّب الذي ظلّ يحتضن ابنه بقوّةٍ خوفاً عليه من البرد حتّى قتله.. وفي المسلسل توالى هذا الاحتِضان وإنْ أنقذه السيناريو من نهايات المَوت.

قضايا مُلحّة تقاطعت مع الفكرة الأساسيّة

الابنة الكبرى لسلمات، “ثريّا” الفنانة جيهان كيداري، جاءَت لتخدم أيضاً الفكرة الأساسيّة حول الأب، فلم يمنعها عدم وجود الرّقابة المباشرة منه عليها في العَمل مِن ممارسة ما لا تَرغب، وإن قُويضَت به بطريقةٍ بشعةٍ مقابل عملها.

التّحرش كان أحد القضايا التي حاول المسلسل علاجها في ظلّ تفاقم هذه الظاهرة في بيئات العمل العربيّة بشكلٍ عام، بطرق التّرغيب والتّرهيب المتعدّدة، وقد أدى الفنان ياسين أحجام دور المتحرّش باحترافيّةٍ عاليّةٍ، وكان قد صرّح أنّها المرّة الأولى التي يمثّل فيها دوراً يحمل فيه ملامِح الشّر. وعودة للقضيّة الأساسيّة فرغم كلّ ما حصل استمرّ الأب في ممارسة سلطته محاولاً تجاهُل عُمر الذي أحبّ ابنته ثريّا وساعدها بعد قتلها للمتحرّش، مقابل رغبته بتزويجها لمديره السّابق في العمل، كما عانت “أمل” الفنانة فاطمة الزّهراء بلدي من ذات الممارسات التي كادت أن تفقدها حبّها مرّةً أخرى.

وعودةً لما خلّفَهُ الخوف من عدم خلق حياةٍ صريحةٍ في عائِلة سلمات، لم تخبر ثريّا والدها بما حصل معها سابقاً مع مديره في العمل، كما لم تخبِر أحداً بما فعله “عزّوز” الفنان عبد الغني الصّناك، صديق العائِلة الذي مارس معها البيدوفيليا “التّحرش الجنسي بالأطفال”، ما خلّف أزمةً نفسيّةً حادّةً لثريّا وبالضّرورة ولعدد من فتيات الحيّ كحنان، وأخريات كتب عزوز أسماءهنّ على الجدار قبل انتحاره، ولن أنسى هنا الإشادة بالقدرة الهائلة للفنان الصّناك في التمثيل الصّامت وبالملامِح فقط للمشاهد الإيحائيّة المُسترجعة.

وفي ذات السّياق، ومِن باب “إمشي الحيط الحيط”، لم تقم “الأم لطيفة” الفنانة السعديّة لديب، بالتّبليغ عن جريمة الإجهاض التي تقوم بها “أخناثا” الفنانة بشرى أهريش، رغم أنّ الفرصة كانت مواتيةً أكثر مِن مرّة، لتقع في النهاية ضحيّة صمتها غير المبرّر.

كما ناقش المسلسل عدّة قضايا كالفروق الاجتماعيّة بين العائِلات، والسّرقة، والفقر، وهي قضايا مستمدّة من الواقع العربي اليومي المُعاش. وبالمجمل فإنّني لن أستطيع تقييم المسلسل نظراً لعدم اطّلاعي على تطوّر الدراما المغربيّة، لكن يمكنني القول إنّه جاء ناجحاً في وضعنا وجهاً لوجه أمام قضايانا الاجتماعيّة والأخلاقيّة، وحرّياتنا الفرديّة.

*شاعر وصحفي فلسطيني مقيم بالرّباط

Share
  • Link copied
المقال التالي