Share
  • Link copied

سينما التنوير

«من أين يقطف كانط تلك الورود التي يقدمها لعاشقته؟، هل من الحديقة؟، أم من مقبرة الميتافيزيقا؟»
دريدا

تبدو هذه الوردة جميلة في الكلمات، لكنها تفقد عطرها، وردة بدون عطر، تحولت إلى مفهوم في الاستيطيقا الكانطية.. هكذا يمكن قراءة المشروع الجمالي للسينما العربية، فما هو هدفها؟، هل الحقيقة؟، أم الفن؟، أم الإنسان؟.

لولا السينما لظل العالم أعمى، فالثورة الفنية التي أحدثتها السينما كانت في صالح الثورة العلمية والتقنية من أجل الإنسان، ومعنى ذلك نشر التنوير، باعتباره خروجا للإنسان من القصور الفكري بواسطة الشجاعة على استعمال عقله. وبعبارة أخرى، فإن السينما كانت هي كمال الوعي التاريخي للإنسان بما هو إنسان. لأنها حررت الذوق بالفن، وطهرته من الدوغمائية والنمطية، التي تنشرهما الكنيسة. فهيمنة الكنيسة بدأت تتراجع مع ظهور السينما، التي كانت ديكارتية في بدايتها، فانطلاقا من الذوق الرفيع يستوي العقل السليم.

في الاستيطيقا نسعى دائما إلى فحص الشيء بأعيننا، فالسينما تعلمنا الخبرة الاستيطيقية للذوق، بيد أن الإدمان على مشاهدة الأفلام لا يعني الحصول على الذوق الرفيع، وبالأحرى الذوق السليم، لأنه يظل بعيدا عن الكوجيطو: أنا أفكر إذن أنا موجود. هاهنا يكمن سر الأسرار، ذلك أن سينما الفكر تكون دائما موجهة لمن يستعمل فكره، أما الذي يتلاعب بكلمتي: «أعجبني الفيلم، لم يعجبني»، فلا يهم سينما التنوير.

والحال أن فيلم «الكلب الأندلسي»، بالرغم من عنوانه المستفز للعرب، نجد فيه السيرورة النظرية والبرهانية تتحول إلى معرفة بالحواس، مما يعني أن بينويل كان متأثرا بمكتشف الاستيطيقا بغمارتن، الذي قال إن علم الجمال هو التفكير بالحواس بطريقة جميلة.

سينمائي هو من يحب الفن، أي يتحدث بالطريقة نفسها التي يتحدث بها الفن، لذا تكون السينيفيليا هي نفسها الفيلوسوفيا، فهما معا مولعان بالحقيقة، والإنسان جار الحقيقة، يقيم شعريا على هذه الأرض.

في هذا الفضاء العام ينبغي على السينما العربية أن تتحرك نحو الفن من أجل اكتشاف الحقيقة، لأنه بدون هذا الهدف ستظل تدور في الفراغ، ينتظرها في العدمية، ولعل الضياع الذي تعيشه يعود إلى هذا الفشل، ذلك أن ما يمنح السينما معنى هو الحقيقة كما هو الحال بالنسبة للفلسفة، التي تنتظر عصر الحقيقة لكي تزدهر. وأجمل مثال على هذا التسلل إلى كينونة الفن بواسطة قلق البحث عن الحقيقة، هو فيلم «سارق الدراجة»، لأنه لا معنى لهذه الدراجة، إلا أنها ترمز إلى الزمان، والزمان هو لب الوجود، أي حقيقته. ولذلك من المستحيل العثور على هذه الدراجة الهوائية.

وربما يكون هذا السر الذي ينبغي اكتشتافه من قبل هذه السينما، التي ظلت تائهة عن الحقيقة وعن نفسها، السينما هي الصورة: «والصورة ما يظهر بذاته، وكيف يظهر» كما قال هايدغر، الذي دعا إلى أنطولوجيا الصورة، من أجل تطابق الوجود والمعنى في المطلق، عندما يتجلى في الفن، فماذا يعني أن يبقى الروح مغتربا والفن موجودا؟، وما معنى أنطولوجية الصورة إن لم تكن هي معنى المطلق في الفن؟.

يتحدث الفيلسوف عن الفن كمدخل إلى المطلق، والمطلق ليس سوى الروح عندما تنمو في الحقيقة، هكذا تبدو الذات المبدعة، أي المؤلف السينمائي الذي يسعى إلى تحرير شعبه من العدمية من خلال التنوير، باعتباره ما يجعلنا في أعماق الفن، والفن لا يتعرف على نفسه إلا في الصورة، وما الصورة إلا السينما حين تبدع المعنى في العمل الفني.

السينما هي المطلق حين يتجلى في الصورة، التي قادت الاستيطيقا إلى الظهور كعلم للذوق يريد اختبار الجميل بالحواس. وأهم حاسة هي العين، فالعين والروح هما الدعم الأنطولوجي للسينما: «فصورة الاحمرار البارز على الوجه مثلا يمكن أن يحيل على الإثارة، أو ربما على مظهر من مظاهر الحمى». لأن الصورة أنطولوجيا تعني ما يظهر، ويجب النظر إليه كما يظهر، وبعبارة أخرى، فإن أنطولوجيا الصورة هي ذاتها أنطولوجيا الفن.

لم يرغب هيجل في قتل الفن، حين أعلن في الاستيطيقا عن موت الفن، بل إنه أشار إلى موت الإنسان، ولذلك منحه آخر أمل، وهو تحقيق وجوده في الشعر، لأن الشعر هو جوهر الوجود، وأوفر حظا من البراءة. وبالفعل إنه سيعيش أطول من الفنون الأخرى، فالسينما الشعرية ستحقق الأبدية، ولن تموت. وما تريده السينما العربية هو أن تلبس ثياب الشعر، وتتمظهر بمظهر تلك الواقعية الشعرية، من أجل المتعة البصرية والروحية.

من أجل معنى المعنى، يجب بناء السينما على الصورة الشعرية، التي ستخلصها من الواقعية النمطية. فهذه النشوة الشعرية هي ما يوجه السينما نحو الفن. وحينئذ ستعلن عن ميلاد الروح في مرح المأساة، وسيتم تأسيس استيطيقا الذات، لأنه إذا كانت الأسطورة قد حطمت الحس الفني في السينما، تعبيرا عن عجز الفكر الذي لا يستطيع أن يؤسس ذاته على نحو مستقل، وبالأحرى أن توجه السينما من المرئي إلا اللامرئي.

Share
  • Link copied
المقال التالي