Share
  • Link copied

سعيد يقطين: الإبداعات السردية العربية تتطوّر باطراد

يعد الناقد سعيد يقطين من العلامات المضيئة في تاريخ النقد العربي الحديث، فلا ترى أي مشتغل في السرديات إلا وكانت كتبه حاضرة بقوة في ثنايا كتاباته، ولا غرابة في ذلك، ما دام يقطين راكم عددًا من الأبحاث والدراسات التي تحولت إلى مشروع نقدي ممتد مع طلبته الكثر الذين واصلوا توسيع إشكالاته في أطاريحهم، فمنذ كتاب “تحليل الخطاب الروائي” في ثمانينيات القرن الماضي إلى آخر إصدار له تحت عنوان”السرديات ما بعد الكلاسيكية: مسارات واتجاهات” (2023)، يواصل يقطين اجتراح الأسئلة وصوغها في ضوء المنجز الروائي العربي المعاصر أو السرديات التراثية وكذلك تفكيك الإنسانيات الرقمية.

هنا حوار معه:

(*) هل يمكنكم أن تقربونا أكثر من هذا الأفق النقدي الذي تسعون لأن تعمقوا فيه النظر؟ هل يتعلق الأمر برغبة في استكمال أبحاثكم حول الأدب الترابطي؟ ما رأيكم في التصورات التي تقول بأن الاشتغال على ظاهرة أدبية لم تستقر بالشكل المطلوب في ثقافتنا العربية يعدّ ترفا فكريا؟

ما تحدثتِ عنه تحت مسمى الأفق النقدي هو وليد مشروع دشنته منذ بداية اشتغالي بالنقد الأدبي، وكانت بدايته الفعلية مع كتابي” القراءة والتجربة” (1985). وظل هذا المشروع يتطور مساهمًا في تأسيس إطار تصوري محدد للسرديات استفدت فيه من تفاعلي مع النظريات الأجنبية، ومن خلال احتكاكي بالنصوص السردية العربية الحديثة والقديمة. وظل يتطور ليواكب جديد النصوص السردية التي بدأت في الظهور مع الثورة الرقمية، فكان من ثم اهتمامي ليس فقط بالنص الأدبي، ولكن أيضًا بالنص المترابط الذي هو وليد تلك الثورة. ولقد ساهم هذا التطوير في دفعي إلى الانفتاح على السرد حيثما وجد، فكانت دراساتي حول الثقافة والسياسة والمجتمع تتصل اتصالا وثيقًا بذاك الإطار التصوري. أما من يتحدث عن الظاهرة الأدبية غير المستقرة في ثقافتنا ويربطه بالترف الفكري فمردود في تصوري. إن مواكبتنا، ومحاولة فهمنا واستيعابنا لما

ينتج خارج فضائنا الثقافي، مطلب مهم وحيوي لأنه يمكننا من تحقيق الانتقال إلى ما يعرفه العصر، وأي تأخر في ذلك لا يمكنه إلا أن يضاعف من تخلفنا. إن ما علينا أن ندينه ليس ما نسميه “الترف الفكري”، ولكن العجز عن مواكبة ما يجري، وعدم فهمه فهمًا جيدًا. والظاهرة التي لم تستقر يجب أن نفتح لها الإطار النظري والمعرفي الذي يؤهلها للتشكل والتطور والاستقرار.

(*)هل حقًا بات بمقدورنا اليوم الحديث عن برمجيات إبداعية قادرة على تعويض الخصوصيات الإبداعية في ظل الثورة التكنولوجية الرهيبة؟ ما رأيكم في النقد الرقمي إذا جاز الحديث عن هذا النوع من النقد ما دام الأمر نجده فيما سمي بالبلاغة الرقمية؟

يمكن للبرمجيات الجديدة أن تلعب دورًا هامًا في تيسير عملية تجميع المعلومات، وتوفير المواد الأساسية للبحث في أي مجال من المجالات. لقد كان الباحث يقضي وقتًا طويلا جدًا في البحث عن وثيقة، أو مادة محددة، والبرمجيات تمكن المرء من توفير الوقت والجهد. لكن العمل الإبداعي لا يمكنها أن تضطلع به نهائيا لأنه فعل إنساني. أما “النقد الرقمي” أو ما يمكن تسميته بالدراسات الرقمية فاختصاص جديد يتطلب معرفة جديدة بالعلوم والمعارف الجديدة. يمكن للدراسة الأدبية الرقمية أن تستفيد من الدراسات النقدية والبلاغية القديمة والمناهج الحديثة، ولكن بدون تطويرها بالاستفادة من العلوم الإنسانية الرقمية عمومًا، والاشتغال بها، بكيفية جديدة وملائمة لما يمكن أن يتولد مع الإبداع الرقمي، لا يمكننا أن نتحدث عن نقد رقمي إلا بتساهل كبير، وبتسيب لا حدَّ له.

(*) كل من يتابع كتاباتكم في الصحافة العربية يلمس لديكم نزوعًا نحو البحث في سردية القرآن. هل هو مشروع نقدي جديد يعمل الأستاذ يقطين على الحفر فيه بعدما راكم خبرات نصية ومنهجية ومعرفية تجعله في منأى من السقوط في أيديولوجية ما علمًا بأن النقد العربي لم يسبق أن قدم أبحاثًا نقدية متخصصة في هذا النوع من النصوص الدينية المقدسة؟

لقد اهتم كثيرون ممن لهم ثقافة أدبية بالنص القرآني، ولهم في ذلك آثار متعددة. بالنسبة إليّ، منذ أن بدأت أطّلع على الأدبيات البنيوية في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات من القرن الماضي، وضعت نصب عيني إمكانية التعامل مع النص القرآني لخصوصيته وتفرده عن النصوص العربية والإنسانية الأخرى. وبعد تطور المشروع الذي اشتغلت به منذ ذلك التاريخ، والذي حللت به نصوصًا عربية وأجنبية قديمة وحديثة ومعاصرة. بدا لي أن الانتقال إلى دراسة القرآن الكريم والحديث النبوي يمكن أن يكون نافذة أخرى أطوّر فيها مشروعي السردياتي لأن ما يتقدم إلينا من خلال النص القرآني والخطاب النبوي يتيح ذلك. وأتمنى أن تكون هذه الدراسات مختلفة عما قرأناه عن القرآن الكريم والحديث النبوي سواء في الكتابات العربية أو الإسلامية أو الغربية، سواء لدى من اشتغل به من زاوية أدبية أو دينية.

(*)اشتغلتم على الكلام العربي في كتابكم “الكلام والخبر” واستطعتم أن تجنسوا الكلام العربي وفق مقولات بنيوية صارمة مع وعي نقدي يظهر مدى حرصكم على تبيئة الفكر النقدي العربي؟ ألا ترون بأن الكلام العربي وسردياته بات أوسع من النظرية البنيوية التي تراجعت في أصولها ومن قبل منظريها؟

إن البنيوية في تصوري ليست نظرية، ولا منهجًا. لقد كانت إبان ظهورها إبدالًا معرفيًا يدعو إلى دراسة الظواهر الإنسانية والاجتماعية دراسة علمية. وهذا ما ظل غائبًا لدى ما اشتغل بالبنيوية في الوطن العربي، إذ كان التعامل معها على أنها منهج يلغي السياق وكل ما هو خارج النص. وكان هذا اختزالًا لها، وفهمًا قاصرًا. ولما تبيّن للنقد العربي أن الوقوف على الشكل وحده، غير كاف، تخلصوا منها بادعاء موتها، أما في الغرب فقد  برز خلال الانطلاق منها والاشتغال بها علمان أدبيان هما: السيميائيات والبويطيقا، فقد تطورت الدراسات السردية من خلال هذين العلمين معًا فكانت السيميائيات الحكائية من جهة، والسرديات، من جهة أخرى. وهذا العلمان تطورا وتجاوزا مرحلة البدايات التي انغلق فيها هذان العلمان على نفسيهما بهدف التأسيس. ومع التطور وظهور مرحلة ما بعد البنيوية تطور العلمان معا، وصرنا الآن نتحدث عن “السرديات ما بعد الكلاسيكية”. وليست هذه السرديات الجديدة سوى تطوير لما تحقق في المرحلة البنيوية. وكتابي الأخير يرصد التطور الذي عرفته السرديات منذ بداية ظهورها إلى الآن، ويؤكد علاقة الاجتهادات الجديدة بالبنيوية التي كانت هي الأصل. في كتاب “الكلام والخبر” كنت أعمل على تطوير السرديات بطرح أسئلة تتعلق بنظرية الأجناس الأدبية. وكان الهدف من ذلك وضع السيرة الشعبية بصفتها نصا سرديا في سياق تطور الأنواع السردية العربية، وتاريخها.  إن ما بعد البنيوية هو بنيوية جديدة، ولم يكن ثمة تراجع عن الروح البنيوية إلا لدى من اختار مسارًا جديدًا في الدراسة والبحث.

(*) هل فعلًا “الأدب في الخطر” كما اعترف بذلك تزفيتان تودوروف؟ وألا يفكر سعيد يقطين في مراجعة تصوراته البنيوية في السرد أم أن الانتقال بين المناهج النقدية لا يفرض أي رقابة ما؟

أجبت عن هذا السؤال بكيفية محددة في كتابي “الفكر الأدبي العربي” (2014). كان المقصود بهذه القولة الدراسات الأدبية التي تحنطت في مقررات الثانويات، وكليات الآداب الفرنسية. بالنسبة إلي أنطلق من الروح العلمية التي تشكلت لدي منذ أن اتخذت موقفًا من النقد الأيديولوجي العربي في السبعينيات. وهذه الروح تتطور مع الزمن. ولهذا كان عندي مشروع، وهو يتطور باستمرار في ضوء تلك الروح. إنني لا أنتقل بين المناهج النقدية. والسرديات البنيوية أو الحصرية التي اشتغلت بها في “تحليل الخطاب الروائي” (1989)، طورتها ووسعتها في “انفتاح النص الروائي” (1989)، تحت مسمى “السوسيو سرديات”، وفي كتاب “الرواية والتراث السردي” (1992)، حين اشتغلت بنظرية “التفاعل النصي”، اعتبرت هذا التفاعل النصي تطويرًا لمفهوم الانفتاح في كتاب “انفتاح النص الروائي”. ومن خلالهما معا، كان انتقالي إلى “النص المترابط” الذي برز مع الثورة الرقمية. إنها صيرورة من التحولات والتطورات. وفي الكلام  والخبر انتقلت من التحليل السردي للنصوص إلى البحث في نظرية عامة للخطاب السردي من خلال البحث في أنواعه، ونجد الشيء نفسه في مختلف كتبي اللاحقة.

(*) توج كتاب “الفكر الأدبي العربي: البنيات والأنساق” بجائزة الشيخ زايد في صنف الدراسات النقدية، وهو بحث يعمق النظر في إشكالات النقد العربي المعاصر من الوعي المنهجي إلى التطبيقات النصية لدى نخبة مهمة من التجارب النقدية العربية المعاصرة وهي قضية الممارسة والتنظير عند أبرز النقاد المعاصرين العرب. هل يمكننا أن نقول إن كتابكم النقدي نجح في تفكيك النقد الأدبي وإبراز معيقاته بهدف بناء نقد أدبي آخر؟

كان هذا هو هدفي من هذا الكتاب الذي هو وليد خبرة امتدت على مدى أربعة عقود، أي منذ أول مقالة نشرتها سنة 1974. كان بإمكان هذا الكتاب أن يصدر في بدايا الألفية الجديدة، ولكن اهتمامي بالنص المترابط والثقافة الرقمية (2005 ـ 2012) جعلني أؤجل إصداره إلى سنة 2014. نجاح الكتاب في الوطن العربي محفوف بالكثير من الإكراهات لغياب تقاليد البحث العلمي في ثقافتنا. قد يجد بعض القراء والباحثين ما يمكن أن يفيدهم، ويحثهم على التفكير بطريقة مختلفة، لكن واقعنا الثقافي، ولا سيما الأكاديمي منه يكرس الكسل الفكري، وإنجاز “المقبول” للترقية في سياق ما هو متوفر. إن المشروع الذي اشتغلت به لا يمكن أن يطور من خلال أعمال فردية. إنه يدعو إلى العمل الجماعي. وهذا العمل غير متوفر لدينا لغياب تقاليد جامعية أصيلة.

(*) كيف يقيم سعيد يقطين ما يؤزم الفكر الأدبي العربي اليوم، وما هي الآليات التي يمكن العمل بوساطتها من أجل أن نعيد للنقد الأدبي فعاليته الجوهرية للنهوض بشؤون الأدب والتفكير النقدي عند العرب عامة؟

تتطور الإبداعات السردية العربية باطراد. وتتنوع التجارب في كل الأقطار العربية. لكن النقد الأدبي بمعناه الإعلامي الذي يمكنه مواكبة جديد الأعمال والتعريف بها شبه منعدم. والدراسات الأدبية التي تتحقق في رحاب الجامعة من خلال الرسائل والأطاريح دون المستوى. لم تبق إلا الجوائز التي تقدم لنا “قراءة” ما لبعض هذه الأعمال. لذلك باتت الإبداعات السردية التي تسجل في مختلف اللوائح الطويلة والقصيرة والحائزة على الجائزة هي التي يتعرف عليها القارئ العربي. وهذا الواقع يخفي الكثير من الإبداعات الجيدة التي لا ترشح للجوائز، أو لا تكون ضمن أي من اللوائح. وأرى أن تطوير الإعلام الثقافي، وتشجيعَ مراجعاتِ جديدِ الإنتاجات الإبداعية والنقدية، مدخل طبيعي لاسترجاع مكانة الأدب في الحياة اليومية العربية بعد أن بدأت تهيمن الوسائط الجديدة. كما أن استعادة دور المؤسسات الثقافية الرسمية والشعبية مثل الاتحادات والروابط والجمعيات الثقافية، وإقامة التظاهرات حول قضايا الفكر الأدبي وعلاقتها بالإبداع العربي ضرورة يمليها ما صار يعرفه الواقع الثقافي من تراجع. بدون الحوار والنقاش العلمي حول ما يعتور واقعنا الثقافي والفكري والأدبي لا يمكن الخروج مما يؤزم واقعنا بوجه عام.

(*) أصدرتم مؤخرًا وفي وقت متقارب جدًا كتابين، أحدهما تحت عنوان: “عتبات السرديات ومُناصَّاتها” (2023)، و”السرديات ما بعد الكلاسيكية: مسارات واتجاهات”(2023)، وقبلهما بزمن يسير أصدرتم كتابًا حول “السرد العربي: أنواع وأنماط” (2022). وهذا الكتاب الأخير تطرحون فيه تصورًا يروم تطوير إشكالات السرد العربي في ضوء أسئلة المستقبل، ولعل التراث السردي العربي حاضر بقوة في طبيعة المقاربة التي تنتهجونها مع العلم أنكم تنفتحون فيها على مقاربات ومناهج عديدة؟ لماذا العودة إلى الاستشراق والفيلولوجيا في هذا الكتاب تحديدا؟ ألا يعني هذا تخليكم عن المقاربة البنيوية؟ وما قصة هذه الكتب الثلاثة في زمن قياسي؟

أبدأ بالحديث عن هذه الكتب الثلاثة، وضمنها كتاب “السرديات التطبيقية” الذي نال جائزة كتارا (2022) والذي هو قيد الطبع، جاءت نتيجة تفرغي، وتقاعدي العملي في بداية سنة 2022.  لقد تقاعدت سنة 2017، ولكني بقيت أزاول التدريس والإشراف على الأطاريح متطوعًا. قررت إعادة النظر فيما تراكم لدي من كتابات وأبحاث، وتفرغت لها نهائيًا. فأنهيت بعضها، وبعضها الآخر قيد الإنجاز. أما كتاب “السرد العربي: أنواع وأنماط”، فهو تطوير للأبحاث التي قدمتها في كتاب “السرد العربي: مفاهيم وتجليات”، وتوسيع لبعض المباحث التي قدمتها فيه. وفي هذا تأكيد أنني أنطلق من المشروع البنيوي وأطوره. لم أتخل عن الإطار التصوري العلمي الذي أنطلق منه. ولذلك فالرجوع إلى المباحث الفيلولوجية، والوقوف على منجزات المستشرقين، وإعادة النظر فيما قدمته بخصوص السرد العربي، جزء من العمل الذي أشتغل به. إن السرد العربي القديم غني ومتنوع، والغربيون يهتمون به كثيرًا. لذلك أرى أن قراءة هذه الأعمال ضروري للكشف عن قيمة هذا التراث لديهم، وكيف يمكننا أن نقدم قراءات مختلفة تستكشف ما لم ينتبهوا إليه في تراثنا لأسباب متعددة. ومواقف بعضهم من القرآن الكريم والحديث النبوي جزء من هذه المهمة. إن البحث السردي الذي أمارسه يتنوع ويتعدد، ليس بتعدد المناهج، ولكن بتعدد زوايا الرؤية التي أنطلق منها. فحين أعمل على تحقيق نص مثلًا، يكون عملي مختلفًا عن تحليل نص سردي قديم، أو البحث في نوع سردي محدد بهدف الإمساك بمكوناته ومقوماته. ويمكن قول الشيء نفسه حين أعمل على معاينة كيف تطور نوع سردي في التاريخ العربي، أو برز نمط من أنماط هذا السرد. إنني في كل هذا لا أنتقل بين المناهج. فالتصور الذي انطلق منه واحد، ولكنه يتطور بالنظر إلى الموضوع المشتغل به. ولهذا السبب يمكن للقارئ المتمعن أن يجد في مختلف مؤلفاتي ترابطا وثيقا بينها. ولا فرق في ذلك بين اشتغالي بالرواية، أو السرد القديم، أو السرد الرقمي، أو البحث في القرآن الكريم والحديث النبوي، أو حتى في المقالات التي أكتبها وهي تعالج قضايا اجتماعية أو سياسية، أو ثقافية عامة.

Share
  • Link copied
المقال التالي