تقديم:
يعتبر سد النهضة الإثيوبي من أهم المشاريع التنموية التي عرفتها القارة الإفريقية في بداية الألفية الثالثة، وذلك بالنظر إلى تكلفته المالية الضخمة، وكذا إلى تجسيده لطموحات وآمال تنموية تسعى إثيوبيا لتحقيقها من خلال توليد الطاقة الكهرمائية الكفيلة بتحقيق تنمية اقتصادية مستدامة. و إذا كان مشروع سد النهضة نال إجماع مكونات الشعب الإثيوبي، فإن هذا الإجماع قد غاب بين دول حوض النيل، حيث ترى فيه جمهورية مصر تهديدا لأمنها القومي كونها تعتمد على مياه النيل اعتمادا شبه كلي، وتحظى بالنصيب الأكبر من هذه المياه، كما تتمتع بحق الفيتو على أي مشروع من شأنه أن يمس بوضعها المهيمن المستمد من حقوقها التاريخية التي تضمنها لها اتفاقيات دولية تم إبرامها في الماضي.
وأمام هذه الحقائق، ما هي أهمية نهر النيل بالنسبة لجمهورية مصر؟ وما هي أهم الاتفاقيات التي تضمن حقوقها التاريخية في مياه النيل؟ وأمام الطموح التنموي لإثيوبيا باعتباره دافعا أساسيا لتشييد سد النهضة رغم تكلفته الباهظة، ما هي نقاط الخلاف بين مصر وإثيوبيا بشأن سد النهضة؟ وكيف يمكن التوفيق بين الحقوق التاريخية لمصر في مياه النيل وحق إثيوبيا في التنمية من خلال استغلال مواردها المائية؟
أولا: أهمية نهر النيل بالنسبة لمصر.
قديما قال المؤرخ الإغريقي “هيرودوت” مقولته الشهيرة “مصر هبة النيل”، فالأرض المصرية القاحلة والتي يغلب عليها الطابع الصحراوي، يخترقها نهر النيل من الجنوب إلى الشمال، ليحول الوادي والدلتا إلى أضخم واحة طبيعية على سطح الأرض، ما يؤكد أهمية النيل بالنسبة للأمن القومي المصري.
ويمكن حصر هذه الأهمية في كون مصر تعتمد على مياه النيل بنسبة تتعدى 95 في المئة، سواء في أنشطتها الفلاحية والصناعية، أو في الحصول على مياه الشرب بعد تدويرها ومعالجتها. كما يشكل النيل مصدر رزق للعديد من الصيادين المصريين الذين يمتهنون حرفة صيد الأسماك وبيعها في الأسواق المصرية.
ويربط نهر النيل بين مختلف أقاليم مصر ومدنها، حيث يستخدم في التنقل ونقل البضائع والسلع بواسطة البواخر والسفن والقوارب، كما تقل هذه السفن السياح الذين يأتون للتمتع بجمالية نهر النيل وآثار الحضارة الفرعونية على ضفافه، والاستفادة من خدمات الفنادق المقامة على طول مجراه، ما يوفر لخزينة الدولة موردا مهما باعتبار قطاع السياحة أحد ركائز الاقتصاد المصري.
ولا تنحصر الأهمية الاقتصادية لنهر النيل في توفير مياه الري والشرب وباقي الاستخدامات المنزلية، والإسهام في تنويع المنتوج السياحي، بل يعتبر النهر مصدرا مهما للطاقة الكهرومائية وهي طاقة نظيفة يتم توليدها باستغلال قوة المياه المتدفقة في تدوير التربينات المولدة للكهرباء، حيث تنتشر المحطات الكهرومائية في العديد من المواقع على طول مجرى النيل، كمحطة السد العالي، وهي إحدى ركائز الشبكة الكهربائية المصرية بالنظر إلى حجم الطاقة التي يتم توليدها باستخدام هذه المحطة، ومحطة كهرباء أسوان الأولى والثانية.
وإدراكا منها لأهمية نهر النيل البالغة، قامت مصر وعلى مر عقود من الزمن بإبرام اتفاقيات مع دول حوض النيل لحماية حقوقها التاريخية، ومنع أي مشاريع على النيل من شأنها المساس بحصتها في مياهه.
ثانيا: الاتفاقيات الدولية الضامنة لحقوق مصر التاريخية في مياه النيل.
الحقوق التاريخية من المبادئ الثابتة في القانون الدولي لتنظيم الانتفاع من مياه الأنهار الدولية بين الدول المشاطئة لها، حيث أكدت عليها اتفاقية الأمم المتحدة حول استخدام المجاري المائية الدولية في الأغراض غير الملاحية لعام 1997 في مادتها الخامسة والسادسة، وقواعد هلسنكي لعام 1966، وقواعد برلين بشأن الموارد المائية.
ولحماية حقوقها في الانتفاع بمياه النيل ومنع كل التدابير والمشاريع التي يمكن أن تتخذها أو تقوم بها دول حوض النيل، وخاصة دول المنبع، والتي من شأنها الإضرار بحقوقها التاريخية، أبرمت مصر العديد من الاتفاقيات التي تنظم العلاقة المائية بينها وبين باقي الدول المجاورة للنيل، ولعل من أهم هذه الاتفاقيات:
– اتفاقية مياه النيل لسنة 1929: وهي اتفاقية جمعت بين مصر وبريطانيا، التي كانت تنوب عن السودان وأوغندا وتنزانيا وكينيا، وتنص على حظر أي أعمال ري، أو أعمال كهرومائية أو أي إجراءات أخرى، دون اتفاق مسبق مع الحكومة المصرية، على نهر النيل وفروعه أو البحيرات التي ينبع منها، سواء في السودان أو في البلاد الواقعة تحت الإدارة البريطانية، والتي من شأنها الإضرار بحقوق مصر التاريخية في مياه النيل، سواء بإنقاص كميتها أو تعديل تاريخ وصولها.
– المذكرات المتبادلة بين مصر وبريطانيا بخصوص إنشاء محطة توليد الكهرباء من مساقط أوين بأوغندا في الفترة ما بين 1949 و 1953: تنص هذه المذكرات على إقرار أوغندا بأن تشغيل المحطة لن يخفض كمية المياه التي تصل إلى مصر، ولن يغير تاريخ وصولها أو يخفض منسوبها على نحو مضر بحقوق مصر. وهو اعتراف صريح من جانب أوغندا بعدم المساس بمصالح مصر المقررة في اتفاقية 1929 السابقة.
– اتفاقية مياه النيل لسنة 1959: وهي اتفاقية موقعة بين مصر والسودان بالقاهرة في نونبر 1959، وتعتبر مكملة لاتفاقية 1929 وليست لاغية لها، وقد جاءت قبل بناء السد العالي بسنة وحددت كمية المياه التي ستستفيد منها سنويا كل من مصر (,555 مليار متر مكعب) والسودان (,518 مليار متر مكعب).
– الخطابات المتبادلة بين جمهوريتي مصر وأوغندا عام 1991: وقد تمت الإشارة من خلالها إلى المذكرات السابقة المتبادلة بين مصر وبريطانيا فيما يخص إنشاء المحطة الكهرومائية على مساقط أوين بأوغندا، وهي بمثابة اعتراف صريح من طرف أوغندا على ما تم الاتفاق عليه سابقا بين مملكة بريطانيا وجمهورية مصر. وهو ما يحرم الحكومة الأوغندية من التملص من التزاماتها الناتجة عن الاتفاق البريطاني المصري بحجة أنها كانت تحت الاستعمار.
كما أبرمت بريطانيا، كدولة مستعمرة لمصر، وإثيوبيا معاهدة سنة 1902، تعهد من خلالها إمبراطور إثيوبيا “ميليلك الثاني” بعدم إقامة أو السماح بإقامة أي أشغال على النيل الأزرق وبحيرة “تانا” ونهر السوباط يمكن أن تحد من تدفق مياهها إلى نهر النيل.
وفي نفس الإطار تنص المادة السابعة من اتفاقية الأمم المتحدة لقانون استخدام المجاري المائية الدولية في الأغراض غير الملاحية لعام 1997، على التزام الدول الأطراف عند انتفاعها من مياه مجرى مائي داخل أراضيها، بعدم التسبب في أضرار لدول المجرى المائي الأخرى، الأمر الذي يوجب على إثيوبيا تجنب كل التدابير والإجراءات التي من شأنها أن تمس بحقوق مصر التاريخية في مياه النيل، كاتخاذ قرار ملء سد النهضة خلال مدة قصيرة يمكن أن ينتج عنه تخفيض كمية المياه المتدفقة أو تأخير وصولها إلى إقليم مصر، ما يشكل إضرارا بمصالح مصر وتهديدا لأمنها القومي بالنظر إلى اعتمادها شبه الكلي على مياه نهر النيل، وغياب موارد مائية أخرى.
وفي نفس السياق، أقر حكم محكمة العدل الدولية بتاريخ 20 أبريل 2010، والمتعلق بتسوية النزاع بين الأرجنتين والأورغواي حول نهر الأورغواي، مبدأ التشاور والإخطار المسبق في إقامة أي مشروع على النهر من قبل الدول التي تشترك في نهر دولي واحد، تجنبا للإضرار بحقوق إحدى الدول وخاصة دول المصب.
ثالثا: أهمية سد النهضة بالنسبة لإثيوبيا ودلالاته السياسية.
بعد أن كانت إثيوبيا إحدى أكثر بلدان العالم فقرا وتهددها المجاعة بسبب التخلف الذي يشكل الوضع الاقتصادي والاجتماعي المتردي أهم مظاهره، تمكنت منذ بداية الألفية الثالثة من تحقيق مكاسب كبيرة في الميدان الاقتصادي والاجتماعي، حيث أصبحت من الدول التي تحقق أكبر معدلات نمو لسنوات متتالية، ومن أكثر الأماكن استقرارا في قارة إفريقيا على الرغم من وجودها في منطقة تسودها الصراعات وعدم الاستقرار.
ولتغذية صناعاتها المتنامية بالطاقة اللازمة، وتوسيع شبكة الكهرباء في إثيوبيا، كان لابد من البحث عن مصدر للطاقة الكهربائية النظيفة والرخيصة التي من شأنها أن تسهم في الدفع قدما بقطار التنمية، وتجعل إثيوبيا في مصاف الدول المصدرة للطاقة، خاصة وأن بلاد الحبشة تتوفر على موارد مائية مهمة، تتمثل بالأساس في “بحيرة تانا والنيل الأزرق”. من هذا المنطلق تم التفكير في بناء سد ضخم من حجم سد النهضة. وقد تم التفكير في تشييد هذا المشروع القومي منذ القرن الماضي، إلا أن التكلفة المالية الباهظة في ظل الوضع الاقتصادي المتردي آنذاك لإثيوبيا حالت دون ذلك.
كما أن سد النهضة يمكن اعتباره إنجازا سياسيا أكثر مما هو اقتصادي، حيث حاولت إثيوبيا من خلاله توجيه عدة رسائل سياسية لدول حوض النيل، وخاصة دول المصب ومصر تحديدا، أولها أن إثيوبيا القرن العشرين ليست هي إثيوبيا القرن الواحد العشرين، بمعنى أن ميزان القوى في المنطقة بدأ يتغير ويميل لصالحها في ظل حالة اللااستقرار التي تعيشها بعض دول الحوض. وثانيها أن زمن الهيمنة المصرية على مياه النيل، والذي تنص عليه اتفاقية مياه النيل لسنة 1959 قد ولى، ومن حق جميع دول حوض النيل الإحدى عشرة أن تتمتع بحق الانتفاع المشترك، وثالثها أن حق الفيتو تجاه تشييد المنشآت على نهر النيل الذي كانت تتمتع به دولتا المصب قد أصبح لاغيا، ومن حق دول المنبع أن تستفيد من مواردها المائية سواء في الري وأنشطة الزراعة، أو في إنتاج الطاقة الكهرومائية كأساس لأي تنمية مستدامة باعتبارها طاقة نظيفة ورخيصة.
وفي ظل الأمر الواقع الذي فرضته إثيوبيا بتشييدها لسد النهضة، فإن الخلاف بين إثيوبيا من جهة والسودان ومصر من جهة أخرى ينحصر في مدة ملء السد، حيث تحاول مصر إطالة المدة حتى لا تنقص كمية المياه المتدفقة إليها، ولا يقع أي تعديل على وقت وصولها، في حين تطالب إثيوبيا باختزال المدة حتى تتمكن من ملء السد في أقرب وقت ممكن، ويتسنى لها بذلك توليد الطاقة الكهربائية التي هي في أمس الحاجة إليها.
رابعا: طبيعة الخلافات القائمة بين مصر وإثيوبيا حول سد النهضة، وسبل حلها.
من المعروف أن تشييد سد أو أي تدبير آخر من شأنه أن ينقص من كمية مياه النيل، أو يعدل زمن وصولها إلى دول المصب وخاصة جمهورية مصر، كان من الأشياء المحرمة بموجب اتفاقيات تم إبرامها بين دول المنبع ودول المصب، أو من ينوب عنها زمن الاستعمار، كاتفاقيتي مياه النيل لسنة 1929 و1959، والمذكرات المتبادلة بين مصر وبريطانيا بخصوص إنشاء محطة توليد الكهرباء من مساقط أوين بأوغندا في الفترة ما بين 1949 و 1953، والخطابات المتبادلة بين جمهوريتي مصر وأوغندا عام 1991، إلا أنه بعد البدء في تشييد سد النهضة سنة 2011، وضعت إثيوبيا مصر أمام الأمر الواقع، وكانت اتفاقية إعلان المبادئ بين مصر وإثيوبيا والسودان بشأن سد النهضة التي تم التوقيع عليها في الخرطوم سنة 2015، والتي تضمنت عشرة مبادئ، بمثابة اعتراف صريح بهذا السد من طرف كل من مصر والسودان، واعتراف ضمني بحق دول المنبع في القيام على نهر النيل بالإنشاءات التي هي في حاجة إليها لتحقيق التنمية دون الإضرار بدول المصب والمساس بحقوقها.
وعلى الرغم من ذلك، بقيت أمور تقنية عالقة بين مصر وإثيوبيا ، أولها معامل أمان السد، الأمر الذي أدى بالولايات المتحدة الأمريكية والبنك الدولي إلى مطالبة إثيوبيا برفع معامل الأمان. أما نقطة الخلاف الثانية فترتبط بعملية تشغيل وملء السد، وحول كمية المياه التي ستطلقها إثيوبيا في نهر النيل خلال فترات الجفاف، حيث تصر إثيوبيا على بدء ملء السد لتجريب توربينات توليد الطاقة الكهربائية سنة 2021، ثم استكمال عملية الملء للوصول إلى طاقته الاستيعابية الكاملة والتي تقدر ب 74 مليار متر مكعب سنة 2024، وهو الأمر الذي ترفضه مصر وتقترح أن تستمر العملية ما بين سبع سنوات وخمس عشرة سنة على الأقل مع خفض الطاقة الاستيعابية للسد.
ولتذويب هذه الخلافات، ترعى منظمة الاتحاد الإفريقي بدعم من مجلس الأمن مفاوضات صعبة بين مصر وإثيوبيا في ظل تشبث الطرفين بمواقفهما، والمتمثلة بالخصوص في تشبث مصر بحصتها المقدرة ب ,555 مليار متر مكعب سنويا من مياه النيل التي تنص عليها اتفاقيات أبرمتها في الماضي، وعدم اعتراف إثيوبيا بهذه الاتفاقيات واعتبارها اتفاقيات استعمارية قديمة لا يمكن أن تكبل حقها في التنمية. كما فشلت وساطة الولايات المتحدة الأمريكية والبنك الدولي التي كانت تروم إقناع مصر وإثيوبيا بطي الخلاف بناء على مبدأ الانتفاع المشترك من مياه النيل، دون الإضرار بحقوق الآخرين.
خاتمة:
أمام تخوف مصر على انخفاض صبيب مياه النيل باعتبارها مسألة وجودية بالنسبة إليها، وتشبث إثيوبيا بحقها في التنمية باستغلال مواردها المائية، فإن أنجع وسيلة يمكن اعتمادها للتوفيق بين الحقوق التاريخية لمصر والطموحات التنموية لإثيوبيا، هي الإدارة المشتركة للسد، لتجنب كل التأثيرات المحتملة لملئه وتشغيله على التدفق الطبيعي لمياه النيل الأزرق لدول المصب، خاصة خلال فترات الجفاف. ويمكن تحقيق هذا عن طريق تأسيس لجنة مشتركة تجمع بين ممثلي أطراف النزاع لبناء الثقة، وفض الخلافات سواء المرتبطة بسد النهضة نفسه، أو التي ستنشأ في المستقبل والمتعلقة بمياه النيل كمورد مشترك بين دول الحوض الإحدى عشر.
ومع فشل الأطراف في تسويتها تدخل مجلس الأمن والاتحاد الإفريقي والولايات المتحدة الأمريكية.
*طالب دكتوراه في مختبر العلوم السياسية والعلاقات الدولية المعاصرة، بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية – فاس.
برافو الزميل الباحث العربي الحماني.مزيدا من التوفيق والتألق.