شارك المقال
  • تم النسخ

سؤال “الغيب الذي لا يغيب”.. لمحة في فلسفة الغيب

اعتاد بني البشر على تطوير ملكاتهم ومهاراتهم في حدود النطاق التفاعلي الذي يحيط بهم، سواءاً من مهارات حسية أو الإبداعية المختلفة، ولكن هل حظي بتطوير أدوات استقباله حول مالم يحط به علماً ؟

إن استيعاب الإنسان لمحددات الغيبيات، واعتبارها غيباً من الأساس هو قضية شغلت باله لسنوات طويله لا أخالها تنتهي، أو كما يقال : فإن “سؤال الغيب لا يغيب”، وهذا يبرره الفضول المتجدد، والإرادة المتقدة التي كونت الفطرة الإنسانية، وقامت عليها أسس توجهاته الفكرية، وسعيه المستمر للاستزادة والاكتشاف والتوسع في العلوم، ومن ذلك فإن هناك شعور صادق يمكن أن يتسلل لقلوبنا حينما نحاول أن نعيش الحالة الإيمانية التي عاشها صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، رغم أننا لم ننل شرف مصاحبة النبي الكريم، فالإيمان بشيء لم يدركه بصر الإنسان ولا علمه، هو أسمى رهان على صدق ما يجول في وجدانه، وتعدي إسلامه لإيمان نقي لا زال يسمو حتى ينعكس على سلوكه وقوله وتفاصيل معيشته وصولاً لمرتبة الإحسان.

فإلى جانب تميز الإنسان عن دونه من المخلوقات بعقله الذي يسمح له أن يصدق الغيبيات، نجد أن النص الشرعي قد جاء بغيبيات شاء الله بحكمته أن يعرفها الإنسان، من مثل قيام الساعة. وهذا أحد الدلائل الهامة والعظيمة على مكانة الإنسان، وتكريم الخالق له. ومن ناحية أخرى فإن ما علم به بمشيئة الله هو من باب المسؤولية التي تقع على عاتقه، فهو أصبح مدرك لها من ناحية، وعليه التحضير لذلك من ناحية أخرى، والتزام حدود ما وصله من خلال الوحي. فلا جدوى من معرفة وقوع شيء في غير أوانه لما يسبب للإنسان من اضطراب وقلق وانتظار لشيء معلوم من أحوال الدنيا مثلاً، ومنه معرفة وقت وفاة الشخص أو إنسان قريب منه، فإن حجب هكذا معرفة هي من رحمة الله وحكمته، لما فيها من برحة طمأنينة للإنسان، وقدرته على إكمال حياته بشكل طبيعي دون خوف ومزاحمة لما لا ينبغي له أن يدركه في الآنية الحالية. وذلك بدا جلياً حتى في همة أصحاب “المشاريع الكبرى” من الأنبياء والصالحين رضوان الله عليهم، الذين اجتباهم الله سبحانه لإيصال الدعوة، فلو علم منهم من انتهى بقومه الأمر بالعذاب أن هذه نهايتهم لفترت عزيمتهم، وقلّ فألهم في نجاح تبليغ الرسالة.

إن فلسفة الغيب في الدين، وبالأخص في الإسلام تطرح وتعالج قضية كبرى في الطبيعة الإنسانية المترددة، وذات الجانبين الظاهر منها والمختبئ قريباً جداً لقلبه الذي لا يحيطه إلا الله سبحانه وتعالى، ومن ذلك نرى في العديد من المواضع القرآنية، ميل الإنسان للعناد والاستكبار ” أَذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ”، وذلك للتعبير عن حالة من الرفض للمثول للعدالة الإلهية يوم العرض حين تتلاشى كل الحواجز والموانع، ويعيد الخلق سبحانه من جديد، يقول الله تعالى في محكم التنزيل: “وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحْيِ الْعِظَمَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ”.

وبالتالي فإن قدرة الإنسان على إيجاد التوازن الدقيق بين ما هو غيبي وما هو معلوم، يشكل تحدياً ذو صلة بتحديد هويته وتمييز شخصه، سيما في الواقع الذي تلاقحت به التعدديات حتى بات أميز ما يعرف به الفرد هو صنف معرفته ولونها، وهنا يكمن التحدي. فالغيبيات التي تشكل نقطة غامضة، هي في ذات الوقت إضافة نوعية للفكر الإنساني وانتاجاته، سيما في تكييف العقل الديني، والإبداع في المجالات الأدبية، وفتح مسارات واسعة أمام الإنسان غير المقيد في عالم المادة المشهود وحسب.

أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة

شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي