السلطوية هي نمط للحكم يتموقع بين الشمولية و الديمقراطية و يقبع راخياً ظلاله على الكلّ. مُشتقة لُغوياً من السلطة لذا هي تنتهج خيار احتكار “مطلق السلطة” لكن بواجهة ديمقراطية و صورة شكلية للتداول تلغي في كنهها حرية الأفراد و أدوار المجتمع المدني. فالسلطوية -في تصريف منهجها- تلغي الوضوح و الشفافية و تستعيض عنهما بالالتباس و الضبابية التي ترخي بِسِتَار الحُجب و التعتيم عن الواقع و بنياته المُعيبة.
يقول الحق جل و علا في سورة البقرة: “و لولا دَفْعُ الله النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لفسدت الأرض” صدق الله العظيم.
فالأصل في الوجود هو الاختلاف و التدافع و التباين و كلها تفاعلات اجتماعية و سياسية ايجابية و صحية للحياة و حركية الانسان و سلامة المجتمع. فالتماثل لا يولد إلا جموداً و انتكاسة و عُقماً و موتاً سَريرياً.
فالديمقراطية كنمط للحكم و التدبير تنبني على التدافع و الحركية و التداول. أما أنظمة الحكم الشمولية و السلطوية فهي ذات طبيعة رجعية كونها جامدة و منغلقة.
إن أزمة السلطوية تكمن أساساً في فراغ فكرها و تقديسها لصورتها و تأليهها للسلطة كوسيلة للقهر. تتكلس و تتجوهر حول ذاتها ورؤيتها و نموذَجِهَا. ففي استعلائها لا تصغي سوى لِصَداها يتردد و لا تُبصر سوى من منظورها الخاص لترمق صورتها وحيدة في المرآة حيث لا حيّز وجودي للآخر. في مأزقها الوجودي هذا لا مناص من إلتحاف الإيديولوجيا و إستراتيجية التدجين.
هكذا وجب أن نفهم لماذا تحيز القرآن للاختلاف و الحوار و نبذ بقوة رموز الاستبداد و التماثل من أمثال فرعون و قارون و بلعم ابن باعوراء.
حين أخرج ميشال فوكو مقولته: حيثما توجد سلطة، توجد هناك مقاومة”، فالمفكر عنى بالمقاومة – على الأرجح- حركية المجتمع المدني و دوره في خلق حالة الردع و التوازن أمام ممارسات السلطة بالنظر لاحتكارها لآليات القهر و القوة. من هُنا نتساءل أين هو دور المجتمع الجامعي وحمولته النضالية في مشهد التغيير والتطوير؟؟
فإشكاليات قِيَم العدالة والحرية و الكرامة و تغييبها قسراً عن الواقع تكمن أصلاً في إقصاء الفرد الفاعل و المجتمع المدني (الجامعي) القوي الواعي ببنيات الواقع و المستوعب لتعقيداته و دوره المحوري في تفكيك منظومة القهر و الإكراه.
يقول عزمي بشارة في كتاب (المجتمع المدني: دراسة نقدية) : ” إن المجتمع المدني من دون سياسة و خارج سياق المعركة الديمقراطية هو إجهاض لمعاني المجتمع المدني التاريخية و طاقته النقدية، فضلاً عن نزع قدرته التفسيرية على فهم البُنى الإجتماعية و السياسية”.
فالمجتمع المدني هو مجتمع المكونات المؤطرة (أحزاب، جمعيات، نقابات، منظمات، …) لا يتبلور بمعزل عن المواطنين والفاعلين و لا حتى عن السلطة بل ينبني أساساً من خلال عملية تفاعل قوي و تباين حاد معها. و حين لا يتأتى ذلك، آنذاك نكون إزاء مكونات لمجتمع مدني مستلب و ضعيف بأدوار شكلية و تبريرية و إزاء دولة تحتكر السلطة بمنهج سلطوي للحُكم تمرر عبره مفهومها الوحيد للمجتمع و للديمقراطية بل و تكرس نفسها مصدراً وحيداً للتنزيل طالما تؤمن بفوقية و عقيدة أن من يقبع أسفلها غير مؤهل و لم يبلغ بَعدُ سِنّ الرُّشد و أن رهانها الأسمى و واجبها التاريخي توجيه و إرشاد و حماية الجميع.
من ناحية أخرى، طرحنا هذا لا يبرئ المجتمع في ضعفه و سلبيته حين يقاد عن بعد و لا يتحرك باستقلالية في تدبير شؤونه واتخاد قراراته أو حين تأتي الممارسات متماهية مع إرادة السلطة و متناغمة معها عبر مواقف سلبية و تبريرية حتى صارت (غالبية مكونات المجتمع) سلطوية -أكثر من السلطة- نظرا لتغييبها للديمقراطية الداخلية في فرز هياكلها و تدبير شؤونها فكان أن تفردت المومياءات برئاستها بلا سقف زمني. تأبى الرحيل و ترحل فقط حين يتوفاها عزرائيل أو حين تؤمر هاتفياً بالرحيل فهي قطعاً لا و لن ترحل يوماً بقرار من القواعد. فالسلطوية اليوم هي التي تملي على الجميع ثقافة و شكل و مضمون و توقيت الديمقراطية.
هكذا وجب أن نعي اليوم سياقات الجوائح (الفساد، التسلط، التحكم، الإفلات من العقاب، فيروسات الريع، ظهور الجواميس….) وكيف تتعاطى السلطة مع الحركات الاجتماعية ونضالات التنسيقات و هكذا علينا فهم محاولتها مع حلول الفاتح من ماي تمرير قوانين الفضيحة في ظرفية غير ملائمة تماماً و في غفلة من الكل. فكيف و متى تنهزم الجوائح الحقيقية؟
تنهزم حين ننتصر على الترهيب و التضليل و التضخيم و التجهيل و على تغول الأنا و الجشع و الوصولية و حين ننتصر على خوفنا الفطامي من سيف رق -السلطوية و التسلط- المصوب على رقاب الوعي و على الفكر الحر و الفعل المستقل. ستنهزم الجوائح حين نشفى من الأسقام النفسية الدفينة فينا فردا فردا و من المركبات الكامنة بهدوء و ارتياح في أعماق المخيلة و اللاوعي الجمعي. هذا واقع السلطوية في تدجينها وتنميطها للمجتمع المدني ولَكم أن تَتخيَّلوا مستويات الشطط و ممارسات التسلّط والسلطوية بكلّ أبعادها عندما يتعلق الأمر بالمجتمع الجامعي لإعتبارات تواجد أمثال زُحل و المُشتَري و حمَّالَة الحطب بين أحضان هكذا مُجتَمَع…!!
تعليقات الزوار ( 0 )