شارك المقال
  • تم النسخ

زيارة الرئيس الفرنسي ماكرون للمغرب بين الدلالات الرمزية والندية السياسية

تعتبر زيارة الدولة التي قام بها الرئيس الفرنسي للمملكة زيارة مفصلية في تاريخ العلاقات بين البلدين . فبخلاف زيارات رؤساء فرنسا السابقين بما فيها زيارة الرئيس الراحل  فرنسوا ميتران، تختزن زيارة الرئيس ايمنويل ماكرون الأخيرة  للمغرب مجموعة من الدلالات الرمزية  والسياسية.

الدلالات الرمزية لزيارة الرئيس الفرنسي ماكرون

اختزنت زيارة الرئيس الفرنسي عدة أبعاد رمزية عكستها مراسيم الاستقبال الملكي التي يمكن تمثلها في الابعاد التالية:

-الاستقبال الملكي والتأكيد على المظهر السيادي للمملكة 

بخلاف زياراته السابقة للمغرب، يبدو أنه تم الحرص في مراسيم الاستقبال الملكي للرئيس الفرنسي خلال زيارة الدولة التي قام بها للمغرب مؤخرا التركيز على كل مظاهر سيادة المملكة التي سبق أن خضعت لحماية الإمبراطورية الفرنسية طيلة أكثر من أربعة عقود والتي انتهت برجوع الملك محمد الخامس إلى المملكة ونزوله من الطائرة مصرحا بانتهاء” زمن الحجر والحماية” ، في حين كان استقبال الرئيس الفرنسي ماكرون بنفس المطار من طرف الملك محمد السادس، حفيد الملك محمد الخامس، مظهرا من مظاهر تأكيد المملكة على استكمال سيادتها . فزيارة الدولة التي قام بها الرئيس ماكرون للمملكة تعتبر زيارة مهمة ومتميزة في تاريخ العلاقات  بين البلدين نظرا لأنها أتت بعد فترة من التوتر السياسي بين البلدين خاصة وأن هذا التوتر كان بسبب قضية وطنية تعتبر من أولويات قضايا المملكة حيث حدد العاهل المغربي شروطا خاصة لا تقبل مناقشة او تفاوضا. وبالتالي فاستجابة ماكرون لهذه الشروط السياسية يمكن اعتباره بمثابة مرحلة “استقلال ثاني للمغرب  عن فرنسا ”  وتعكس سيادة المغرب على قراره الخارجي  سواء على الصعيد السياسي او الاقتصادي. وبالتالي فقد جسدت  الأجواء الاحتفالية المهيبة لمراسيم استقبال الرئيس الفرنسي التأكيد على مظاهر سيادة الدولة المغربية من خلال مرافقة” كوكبة الخيالة التابعة للحرس الملكي الموكب الملكي في طريقه إلى ساحة المشور السعيد بالقصر الملكي في الرباط، خلال الحفل الاستقبال الرسمي الكبير الذي  نُظّم على شرف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وحرمه” واصطفاف كوكبة من خيالة الحرس الملكي بزيهم التقليدي  طول مسار الموكب  الملكي ،مما أضفى طابعًا من الفخامة والأصالة على استقبال الرئيس الفرنسي.  

 الاستقبال الملكي والتأكيد على المظهر الشخصي  للعلاقات الثنائية

تضمنت مراسيم الاستقبال الملكي للرئيس الفرنسي وعقيلته حضور أفراد العائلة متمثلا في ولي العهد مولاي الحسن  وأخته سمو الاميرة للاخديجة في أول بروز رسمي لها بالإضافة إلى أخ الملك مولاي رشيد وأخته الاميرة للا مريم ، إظهارا للطابع الشخصي والعائلي التي أريد أن تتسم به هذه الزيارة . إذ أن الاستقبال بهذا الشكل العائلي يرمز، بالإضافة إلى حميمية العلاقات الثنائية  إلى إظهار مركزية السلالة الملكية واستمراريتها . مما جعل الرئيس الفرنسي يستشعر هذه الإشارة السياسية ليعبر بأن ذلك قد مسه بعمق مؤكدا في خطابه داخل البرلمان بعراقة السلالة الملكية فمراسيم هذا الاستقبال فيه إشارة سياسية  إلى أن الرئيس الفرنسي قد حظي بحظوة خاصة لم يتمتع بها من بين الرؤساء السابقين سوى الرئيس جاك شيراك الذي كان من أصدقاء الملك الراحل الحسن الثاني وأحد المقربين من العائلة  الملكية.   

 الاستقبال الملكي واستحضار التاريخ المشترك

خلال مراسيم استقبال الملك محمد السادس لماكرون  بالقصر الملكي ،أهدى الملك محمد السادس خنجرا ذهبيا إلى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الشيء الذي عكس تذكارا له دلالة تاريخية عميقة في الوعي العسكري المغربي، يرتبط بفرق “الكوم المغاربة”. هؤلاء الجنود المغاربة الذين  عُرفوا بولائهم الكبير للوطن، واستجابوا لدعوة سلطان البلاد محمد الخامس للدفاع عن فرنسا أمام الاحتلال النازي ، حيث جاء تلبية لنداء أطلقه السلطان محمد الخامس في خطاب له سنة 1939. على الرغم من أن المغرب كان  وقتذاك خاضعا للحماية الفرنسية التي بدأت منذ عام 1912 بعد توقيع السلطان مولاي عبد الحفيظ معاهدة فاس؛ فحكمت باريس المنطقة السلطانية، بينما بسطت إسبانيا نفوذها على المنطقة الخليفية، وظلت طنجة منطقة دولية.  وقد استوعب الرئيس الفرنسي هذه الإشارة السياسية ليرد عليها من خلال خطابه المطول بالقول أنه  : “عندما تنظر فرنسا إلى السنوات الثمانين الماضية من العلاقات الفرنسية المغربية، فهي تشعر في المقام الأول بالامتنان. لكل هؤلاء الرجال الذين جاؤوا من المغرب لتحرير وطننا من نير المحتل، في بروفانس، وفي وادي الرون، ولكن أيضًا في جميع المسارح الأخرى التي انخرطت فيها القوات الفرنسية الحرة”.

الدلالات الرمزية لزيارة الرئيس الفرنسي ماكرون 

تختزن زيارة ماكرون للمغرب بالإضافة إلى دلالاتها الرمزية العميقة، دلالات سياسية واضحة تؤكد على الندية السياسية والشراكة الاستراتيجية.

 زيارة ماكرون والندية السياسية

     تعتبر زيارة الرئيس الفرنسي ماكرون للمملكة إنهاء لفترة من التوتر السياسي بين البلدين دامت أكثر من ثلاث سنوات. فقد اتفق البلدان على مشروع زيارة للرئيس الفرنسي إلى الرباط. لكن أحداثاً بارزة ومشكلات حالت دون إنجازها. والذي يأتي على رأسها قرار فرنسا في سنة 2021 تقليص تأشيرات الدخول للمغاربة، والضغوط التي مارستها على المغرب لاستقبال مواطنيه غير القانونيين الذين تم طردهم من فرنسا، الشيء الذي اعتبرته السلطات المغربية نوعاً من الابتزاز السياسي ، وأيضاً اعتداء على حرية التنقل، في الوقت الذي كانت باريس تعبر عن رغبتها في الضغط على المملكة للحد من تدفقات الهجرة المغربية على غرار ما قامت به تجاه كل من تونس والجزائر . وقد تفاقم التوتر السياسي بين الدولتين بعدما أبدت السلطات الفرنسية امتعاضها بعدما كشف تحقيق صحافي استقصائي استهداف المغرب أرقام هواتف ماكرون ووزراء في سنة 2019 ببرنامج التجسس الإسرائيلي “بيغاسوس” الشيء الذي نفته السلطات المغربية بشدة . لكن يبدو أن الجوهر السياسي لمظاهر هذه الخلافات الثنائية تكمن في تكسير إدارة ماكرون للتوازن السياسي والدبلوماسي  الذي كان يحرك علاقات فرنسا بكل من الجزائر والمغرب . فتخلي الرئيس ماكرون لضعف تجربته السياسية وعدم تمرس مستشاريه ، عن «حياد» فرنسا التقليدي إزاء مستعمرتيها السابقتين  حيث اتبعت باريس هذا النهج، لسنين طويلة، تجنباً لحدوث توتر في علاقاتها مع الجزائر والمغرب بما في ذلك موقفها من النزاع الجزائري المغربي حول الصحراء.سيما بعد أن دعا الملك محمد السادس، من  خلال خطاب سنة 2022 ” شركاء المغرب التقليديين” خاصة الاوربية إلى أن “توضح مواقفها، وتراجع مضمونها بشكل لا يقبل التأويل” بخصوص نزاع الصحراء متسلحا في ذلك بالاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء. لكن بالتزامن مع الضغوط المغربية على الشركاء الاوربيين بما فيهم فرنسا، سعى ماكرون إلى التقارب مع الجزائر، التي قطعت علاقاتها الدبلوماسية مع الرباط في سنة 2021، وهو ما أثار غضبا شديدا في المغرب وأدى إلى تأجيل زيارة ماكرون إلى المغرب عدة مرات وذلك منذ سنة 2022، علما أنه لم يزر المملكة منذ العام 2018.  غير أن تصاعد التوتر بين الجزائر وفرنسا دفع الرئيس ماكرون إلى حسم  خياره لصالح تحسين علاقاته الخارجية مع الرباط، خصوصاً بعد أن اقتنع من استحالة تجسيد مشروع زيارة الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون إلى باريس، والذي تم الاتفاق على تحديد توقيتها خريف سنة 2024. وبالتالي أبلغ ماكرون العاهل المغربي محمد السادس عبر رسالة، أن مخطط الحكم الذاتي يعتبر بمثابة  «الأساس الوحيد» للتوصل إلى تسوية للنزاع المستمر منذ نحو 50 سنة مع جبهة «البوليساريو» المدعومة من الجزائر. وكان هذا الموقف كافياً لطي كل الحساسيات التي لبدت سماء العلاقات بين البلدين، ودافعاً قوياً لفتح صفحة جديدة في العلاقات بين الدولتين. لكن بالمقابل زاد من عمق الفجوة مع الجزائر التي احتجت بشدة على قرار ماكرون، وعبرت عن ذلك بخطاب حاد جاء فيه أن “الاعتراف الفرنسي بمغربية الصحراء هو بمثابة تفاهم بين القوى الاستعمارية القديمة والحديثة”.في إشارة سياسية للتحالف المغربي الأمريكي الإسرائيلي.  

زيارة ماكرون وتقوية التعاون الثنائي

     يرتبط البلدان تاريخيا بعلاقات اقتصادية متينة، لكن عودة الدفء لعلاقاتهما الدبلوماسية فتح آفاقا اقتصادية وتجارية جديدة أمام الشركات الفرنسية التي تأثرت في السنوات الأخيرة جراء التوترات السياسية بين الدولتين . فبعد يومين من نشر رسالة الرئيس الفرنسي ماكرون إلى العاهل المغربي رسميا، فازت شركة “إيجيس” الفرنسية للهندسة بالاشتراك مع نظيرتها “سيسترا” وشركة “نوفيك” المغربية بعقد لمد خط السكك الحديد للقطارات السريعة بين مدينتي القنيطرة ومراكش. 

كما باشرت شركات فرنسية ومغربية العمل في الأقاليم الصحراوية، من بينها مجموعة “إنجي” الفرنسية للطاقة التي تقوم حاليا بالاشتراك مع “ناريفا” المغربية ببناء محطة لتحلية مياه البحر في مدينة الداخلة ، حيث تعتبر الأقاليم  الصحراوية ، التي تملك مواردا هائلة على صعيد طاقة الشمس والرياح، منطقة إستراتيجية للنمو الاقتصادي في المغرب الذي يتجه نحو الطاقات المتجددة ويأمل في إيجاد موقع له في سوق الهيدروجين الأخضر التي تستقطب اهتمام الشركات البريطانية التي ترغب في الاستثمار في هذا المجال. وبالتالي ،ففي حفل ترأسه الملك المغربي محمد السادس والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مساء الإثنين 28 أكتوبر 2024 في الرباط، تم إبرام عقود واتفاقيات استثمار بقيمة تناهز 10 مليار يورو، في خطوة لطي صفحة التوتر بين البلدين وتعميق الشراكة والتعاون بمجالات الدفاع والأمن والهجرة والطاقات المتجددة والتعليم والثقافة والطيران والنقل. كما وقع الجانبان إعلانا مشتركا لإرساء “شراكة وطيدة استثنائية”، تؤكد على ” أن الجهود المشتركة التي يبذلها البلدان على الصعيدين الثنائي والدولي ستظل قائمة على أساس المبادئ التالية: العلاقة بين دولة ودولة، والمساواة في السيادة، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية وفي اختيارات السياسة الخارجية، واحترام الالتزامات المبرمة، والثقة، والشفافية، والتشاور المسبق، وتضامن ومسؤولية كل طرف تجاه الطرف الآخر”.

الشراكة الثنائية الخارجية

أتت هذه الزيارة في مرحلة مفصلية بالنسبة لقضية الصحراء ، حيث أن الاعتراف الفرنسي بمغربية الصحراء بعد الاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء ومساندة شركاء اوربيين وعلى رأسهم اسبانيا للمبادرة المغربية للحكم الذاتي ، شكل محطة حاسمة في هذا الملف الشيء الذي ظهر من خلال تركيز الأمين العام في تقريره على هذا الموقف الفرنسي بحكم أن فرنسا لا تتوفر فقط على حق الفيتو بل أيضا لكونها تعتبر دولة استعمارية تلم بخبايا هذا الملف وتعقيداته ورهاناته. وبالتالي ، فقد كان الحدث الأبرز في اليوم الثاني لزيارة ماكرون للمغرب، الخطاب المطول الذي ألقاه أمام غرفتي البرلمان المغربي بكامل أعضائه، حيث لقي تجاوباً ملحوظاً، وقوطعت كلمته بالتصفيق مرات عدة، خصوصاً في حديثه عن الصحراء وعن موقف فرنسا إزاءها ، حيث قال ماكرون: “أعيد التأكيد أمامكم أن فرنسا تعتبر أن حاضر ومستقبل هذه المنطقة يندرجان في إطار السيادة المغربية مؤكداً أمرين: الأول وهو أن باريس ومعها الفاعلون الاقتصاديون وشركاؤنا سوف يرافقون تنمية هذه المنطقة، عبر استثمارات ومبادرات دائمة وتضامنية لصالح سكانها، بحيث تتصرف فرنسا وفق قراءتها لمنطوق القانون الدولي. والآخر أن باريس تلتزم مواكبة المغرب في المحافل الدوليةّ بشأن ملف الصحراء”.

وبالإضافة إلى هذا الملف، فقد تم التوقيع  بالديوان الملكي بين قائدي البلدين على  الإعلان المتعلق بالشراكة الاستثنائية الوطيدة بين المملكة المغربية والجمهورية الفرنسية، الرامية الى تمكين البلدين من رفع جميع التحديات التي تواجههما بشكل أفضل، وذلك عبر تعبئة جميع القطاعات المعنية بالتعاون الثنائي والإقليمي والدولي : فعلى الصعيد الإقليمي، شدد قائدا البلدين على” الأهمية المحورية التي يوليانها في حوارهما الاستراتيجي الثنائي لكل من إفريقيا والفضاء الأطلسي، والعلاقات الأورو-متوسطية والشرق الأدنى والأوسط. واتفقا على تطوير مشاوراتهما من أجل تشجيع مبادرات مشتركة تهدف إلى الإسهام بشكل جماعي، مع البلدان المعنية، في أمن هذه المناطق واستقرارها وتنميتها. ” أما على الصعيد الدولي، فقد أكد قائدا البلدين إرادتهما القوية للإسهام معا في تسوية الأزمات التي يواجهها المجتمع الدولي، سواء فيما يتعلق بالتصدي لتفاقم النزعات الخلافية وتراجع سيادة القانون، أو فيما يخص تحسين مستوى حماية الممتلكات العالمية المشتركة”.               

شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي