اتضحت معالمُ ارتداء الملك محمد السادس بذلة غير داكنة مع ربطة عنق حمراء، لأول مرة في مناسبة رسمية، تجلت في “تنزيل” الملك لرغبة رئيس الحكومة عزيز أخنوش في إجراء تعديل حكومي، يوم الأربعاء 23 أكتوبر 2024، طبقاً لما يخوّله له دستور 2011.
استقبال الملك جرى بقاعة العرش بالقصر الملكي بالرباط، في غياب لافت لولي عهده الأمير مولاي الحسن وكذا لمستشاره السياسي فؤاد عالي الهمة، وبربطة العنق الحمراء، التي ترمز إلى القوة والثقة والسلطة، لتنقل إشارة قوية تجمع بين العزيمة والحسم في رسالة تحذير لمن يهمّهم الأمر (…)، مفادها أن المغرب دخل مرحلة الحسم مع التسيّب واللامسؤولية، مع دخول ولي العهد على الخط… فما علاقة زيارة الدولة، التي قام بها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى المغرب، وتعديل أخنوش الحكومي؟
المثير أن لائحة المرشحين للاستوزار سيطّلع عليها القصر بفرنسا، ولعلّ رئيس الحكومة عزيز أخنوش لم يفهم كيف أن الملك محمد السادس موجود في باريس ويبعث به ليمثّله في القمة التاسعة عشرة للفرنكوفونية، التي انطلقت أشغالها يوم الجمعة 4 أكتوبر بفيلاركوتري (Villers-Cotterêts)، المدينة الجميلة، التي واكبتُ منها فعاليات القمة، وتنقلتُ منها إلى العاصمة الفرنسية، التي لا تفصلها عنها سوى 77 كلم، دون أن يلتقي به أحد من مستشاري الملك ليتفاعل معه حول الأسماء المقترحة للاستوزار كما جرت العادة، يجري هذا ورئيس الحكومة يعلم أن يوم الجمعة الموالي (11 أكتوبر)، سيكون الملك محمد السادس قد عاد إلى المغرب ليترأس افتتاح الدورة الخريفية للبرلمان. وقبل ذلك، سيكون الملك قد وضع اللمسات الأخيرة على زيارة الدولة التي سيقوم بها الرئيس الفرنسي إلى المغرب، وما تتطلبه من إجراءات وإعدادات لعُدّةٍ ضخمة من الاتفاقيات والاستثمارات مع مختلف الفاعلين والمتدخلين وفي مختلف المجالات… ولعلّ زيارة ماكرون كانت مناسبة أخرى لفضح “حكومة موروكومول”، عندما توالى عدد من وزرائها على الطاولة لتوقيع اتفاقيات ضخمة بلغت 22 اتفاقية باستثمارات ضخمة بلغت 10 ملايير أورو، تشمل مجالات متنوعة، من اندماج سلاسل القيمة والأنظمة الصناعية، إلى الطاقة الخضراء، ومن البنيات التحتية، إلى الشباب والابتكار وإدارة تدفقات الهجرة، وصولا إلى الفضاء الإفريقي… كان وزراء يوقعون على أوراش لا يعلمون عنها شيئا، كيف دُرست وروجعت وعُدّلت ودُقّقت قبل أن تأخذ شكلها الجاهز للتوقيع وللانخراط الفاعل في عمليات التنزيل… هل كانت إشارة أخرى إلى أن العد العكسي لسقوط “الحكومة الموروكومولية” قد انطلق في مسارها الزمني نحو محطة الوصول: انتخابات سابقة لأوانها؟
المثير أكثر أن الملك محمد السادس خصص خطاب افتتاح البرلمان، على غير عادته، وحصْريا، لزيارة الدولة، ولقضية الصحراء المغربية، مبرزا الخطوط العريضة لمستقبل المغرب، من خلال التحول الذي سيطرأ عليه بهذه الزيارة التي اعتبرها مفترق طرق بين حاضر المغرب وهذا المستقبل، واستعمل لذلك عبارات لها معانيها وخلفياتها… يقول الملك في خطابه: “ندعو إلى المزيد من التنسيق بين مجلسي البرلمان، بهذا الخصوص، ووضع هياكل داخلية ملائمة، بموارد بشرية مؤهّلة، مع اعتماد معايير الكفاءة والاختصاص، في اختيار الوفود، سواء في اللقاءات الثنائية، أو في المحافل الجهوية والدولية”… فهل كان الملك يوجّه رسالة سلبية، وإن تضمّنت مختلف الأحزاب، لكنّها كانت تتوجه على وجه التحديد إلى أحزاب الأغلبية الحكومية، التي تهيمن، بأغلبيتها العددية، على الديبلوماسية الحزبية الموازية، في البرلمانات وكذا المنتديات الإقليمية والدولية، التي حوّلها البعض إلى ريع ومجال للسياحة والتفسّح بأموال المغاربة، مما يعلّل الحضور الضعيف في العديد من الملتقيات التي تهيمن فيها وفود الجزائر وجنوب إفريقيا وإيران في دعم وفد حركة البوليساريو الانفصالية، عوض أن يعتمدوا “موارد بشرية مؤهّلة”، بناء على “معايير الكفاءة والاختصاص”؟!
كل هذا لم يُثنِ السي عزيز أخنوش و”الشريفة” فاطمة الزهراء المنصوري وصهرها نزار بركة ليغيروا من منطق التعامل مع تعديل حكومي رفضه الملك في نصف الولاية، قبل أن يعطي الإشارة ليمرّ ولم يتبقَّ على نهاية الولاية سوى أقل من 18 شهراً، حتى أنه جاز فيهم قول الملك في أحد خطاباته: “يستغلون التفويض، الذي يمنحه لهم المواطن لتدبير الشأن العام، في إعطاء الأسبقية لقضاء المصالح الشخصية والحزبية، بدل خدمة المصلحة العامة”…
كان الملك قد أخذ علما بالمنحى المهزوز، الذي سيمضي فيه التعديل، وفق مخطط قادة أحزاب الأغلبية الحكومية، الذي ظهرت معالمه عندما أصرّ أولئك الثلاثة، عشية الخطاب الملكي، على التخلّي عن النعم ميارة في انتخاب رئيس مجلس المستشارين للنصف الثاني من ولايته التشريعية، وإسنادها إلى محمد ولد الرشيد، النجل الأكبر لمولاي حمدي ولد الرشيد القيادي البارز في حزب الاستقلال، وأعلنوا عن هذا القرار في يوم ترؤس الملك لافتتاح البرلمان…! لا يتعلّق الأمر، هنا، بالأسماء، فمحمد ولد الرشيد كفاءة شابّة في عالم السياسة وفي عالم المال والأعمال، وهو منتوج حزبي استقلالي وليس كائنا مصبوغا، وإنما يتعلّق بالتدبير، الذي تغلب عليه علائق مطبوعة بعوامل ذاتية، وليس بمعايير موضوعية تأخذ بالاعتبار الإطار المجتمعي العام في اتخاذ القرار، بالإبقاء على هذا أو بتغيير ذاك، بناء على معطيات الواقع، واستنادا إلى أن الأمر لا يجب على الإطلاق أخذه بالساهل أو على الخفيف، لأنه يتعلق بمنصب الرجل الرابع في الهرم البروتوكولي للدولة، وهذا ما لم يحصل، لأن معطيات الواقع تفيد أن النعم ميارة حقّق الكثير من المكتسبات لحزبه ولأغلبيته، إلى درجة أن أحزاب الأغلبية الثلاثة، إلى حدود عشية الدخول الاجتماعي في شتنبر الماضي، كانت قد قررت الاحتفاظ برشيد الطالبي العلمي رئيسا لمجلس النواب، مثلما كانت متفقة ومتوافقة على الاحتفاظ بميارة، رئيسا لمجلس المستشارين، خصوصا بعدما حقّق، أيضا، مكتسبات مهمة لوطنه، إذ صار يمثّل الملك في المنتديات والمحافل الدولية، وهو أيضا رئيس منتخب لبرلمان البحر الأبيض المتوسط، حيث سيصبح الآن رئيسا بصفة شخصية لهذه المنظمة البرلمانية الإقليمية الفاعلة والمؤثرة، والتي أسستها البرلمانات الوطنية لبلدان المنطقة الأورومتوسطية… وفي علم الرياضة، كما في علم السياسة، ليس من الذكاء في شيء تغيير الفريق الرابح!
ميكانيزمات التغيير، لدى أغلبية أخنوش، إذن، تقع خارج منطق السياسة، وهذا ما تأكد لما اطّلع القصر على لائحة الاستوزار، لقد كان أخنوش وصحبُه ينتظرون من القصر مباركة اللائحة ليتحمّل الملك، بدوره، وِزْر التعديل، قبل أن يتفاجأوا بقرار الملك الذي ترك لرئيس الحكومة كل الصلاحيات… فهل جاء القرار الملكي ليفضح “حكومة موروكومول” مما يُعتبر مقدمة للإطاحة بها؟
أقول “الفضح” لأنه بفضل قرار الملك هذا، أصبح المغاربة اليوم على بيّنة من حقيقة وخلفيات ونوايا الرئيس أخنوش والصهرين بركة والمنصوري، الذين يعطون الأولوية لمصالح ذاتية ضيقة، أكثر من مصالح الوطن ومن مستقبل الدولة والمجتمع، الأمر الذي يعكس صورة ومستوى هذه النخبة القيادية، ومستوى أحزابها، ومستوى منتخبيها، الذين أدين بعضهم وتحوم شبهات فساد حول العديد منهم، ولعلّ مواجهة هذا الوضع هي ما يعلّل حركية الإدارة الترابية الواسعة لعدد مهم من الولاة والعمال، الذين أشرف الملك على تعيينهم، بالتزامن مع تعيينات التعديل الحكومي، ليأخذوا بزمام الأمور لتأهيل مدن المغرب لاحتضان كأس إفريقيا 2025 وكأس العالم 2030، وحتى لا يتركوا الحبل على الغارب لـ”فئة محظوظة” من المنتخبين تراموا على مواقع مؤثّرة في بنيات وهياكل الأحزاب، من أجل الولوج إلى مراكز حزبية يغطّون بها على ممارساتهم في النهب والاغتناء اللامشروع…
الولاة والعمال المعيّنون، الذين يعوّل عليهم الملك في مواكبة تنزيل وتطوير المشاريع الملكية الكبرى، لديهم مهمة أخرى في غاية الأهمية والخطورة، وتتعلّق بالورش الملكي المتعلّق بالتخليق، الذي حصدت فيه حكومة أخنوش الفشل الذريع، وفي صدارة هذا الورش نجد التخليق السياسي، ومقدمته النزاهة الانتخابية، أي أن الولاة والعمّال المعينين لن يتسامحوا ولن يغمضوا العيون على المرشحين “المشبوهين”، الذين ستُقطع عليهم الطريق، فضلا عن الإشراف على تنفيذ توجيهات الملك المتعلقة بتحصين وتخليق الانتخابات، حتى لا تنتج لنا برلمانيين ورؤساء جماعات ومستشارين تلاحقهم ملفات ذات صلة بجرائم الأموال…
التوجيهات الملكية المتعلقة بالتخليق تنبني على قضيتين أساسيتين، أولا مواجهة الفساد والمفسدين، باعتبارهم يهددون التنمية المجتمعية، ويهدّدون استقرار الدولة، ويهدّدون تماسك المجتمع، وثانيا تحقيق النزاهة الانتخابية، التي تنطوي على تعليمات استباقية لما يجب أن تكون عليه الانتخابات ولسلوك المنتخبين والناخبين، من أجل أن يتحمّل الجميع مسؤولياته في شكل وبنية التركيبة السياسية لحكومة المغرب المقبلة…
في القضية الأولى المتعلقة بمواجهة الفساد، يظهر أن الحكومة “الموروكومولية” تعاكس إرادة الملك في التصدي للفساد والمفسدين، ولعلّ أبرز نموذج على هذه المعاكسة هي الاحتفاظ بوزير العدل، الذي صار “يشرّع” خارج أوامر وتوجيهات الملك الرامية إلى تحميل الدولة والمجتمع معًا كامل المسؤولية في التصدي للفساد وفضح المفسدين… في خطاب الذكرى 17 لعيد العرش (30يوليوز 2016)، كان الملك واضحا وصريحا وهو يخاطب المغاربة بالقول إن: “مفهومنا للسلطة يقوم على محاربة الفساد بكل أشكاله: في الانتخابات والإدارة والقضاء، وغيرها”، قبل أن يشدّد على أن “محاربة الفساد هي قضية الدولة والمجتمع: الدولة بمؤسساتها، من خلال تفعيل الآليات القانونية لمحاربة هذه الظاهرة الخطيرة، وتجريم كل مظاهرها، والضرب بقوة على أيدي المفسدين. والمجتمع بكل مكوناته، من خلال رفضها، وفضح ممارسيها، والتربية على الابتعاد عنها”… الجالس على العرش يؤكد، بوضوح وبلا أدنى لُبس، على تحميل مسؤولية محاربة الفساد، كذلك، إلى “المجتمع بكل مكوّناته”، محدّدا هذه المسؤولية في “رفض الفساد” وفي “فضح ممارسي الفساد”، وهذا بالذات ما تقوم به العديد من الجمعيات، وبفضلها تفجّرت العديد من ملفات الفساد، بعضها قال فيها القضاء كلمته، وبعضها مازالت قيد نظره…
لكن وهبي يسبح في تيار آخر، في إعداده لمشروع تعديل قانون المسطرة الجنائية، حين يصرّ على منع جمعيات حماية المال العام من تقديم شكايات ضد المنتخبين والشخصيات العامة في قضايا اختلاس المال العام، من خلال منع إجراء الأبحاث وإقامة الدعوى العمومية بشأن جرائم الأموال إلا بناء على طلبٍ، حصريا، من الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض، بصفته رئيس النيابة العامة… ومبرّر وزير العدل هو أن “هذه الجمعيات تستغلّ هذه الشكايات للابتزاز وتصفية الحسابات السياسية”، وهذا حُكم خطير ليس من حق الوزير، الذي سيُدخل به المغرب إلى محاكم تفتيش الضمير وتقرير مصير ما بذات الصدور عوض الثقة في القضاء، الذي له وحده إصدار حكم بالبراءة أو الإدانة!!! وهذا تناقض جوهري مع إرادة ملك البلاد المعلنة والمؤكّدَة في مواجهة الفساد…
وفي القضية الثانية المتعلقة بالتخليق الانتخابي والسياسي والحزبي، نجد أن الملك، الذي يضع نفسه جنبا إلى جنب مع الشعب، خصوصا في سؤال الثروة وفي فقدان الثقة في النخب المستخلدة في الأحزاب، (نجده) يحمّل الشعب مسؤولية قرارات الحكومة المرفوضة، فالحكومة هي نتاج أصوات الشعب، وبالتالي، فإن تفريط الشعب في إرادته وأصواته، عبْر الاستنكاف عن المشاركة في التصويت، وعبْر كذلك الخضوع للمتاجرين في الضمائر والذمم في الانتخابات، هو الذي يعطيهم حكومة تشبههم وسياسات لاشعبية تنهك أوضاعهم… الملك يريد مشاركة مكثّفة للناخبين، من أجل استعمال أصواتهم في تقرير مصيرهم ومصير بلادهم… ومن أجل ألا يتركوا للأحزاب العبث بأوضاعهم في حاضرهم ومستقبل أبنائهم، ومن أجل أن يشاركوا في بروز جيل جديد لديه من الكفاءة ما يكفي للمساهمة في بناء المغرب الجديد…
وهذا ما نجده حاضرا بقوة في خطاب الذكرى 62 لثورة الملك والشعب (20 غشت 2015)، الذي بلور فيه الملك ما يمكن أن نسميه “المفهوم الجديد للانتخاب”، حذّر فيه من أن الهدف من الانتخابات “لا ينبغي أن يكون هو الحصول على المناصب، وإنما يجب أن يكون من أجل خدمة المواطن فقط”… وفي مواجهة حالات استبلاد وتحقير المواطنين المفقّرين في عمليات بيع وشراء الأصوات والذمم، سيتوجّه الملك إلى المواطنين ليدركوا قوّة أصواتهم، من خلال الإشارة إلى أن “الصوت” هو “السلطة التي يتوفر عليها المواطن، للحفاظ على مصالحه، وحل بعض مشاكله، ومحاسبة وتغيير المنتخبين”، ليخاطب المواطنين مباشرة بالقول: “إن التصويت حق وواجب وطني، وأمانة ثقيلة عليكم أداءها، فهو وسيلة بين أيديكم لتغيير طريقة التسيير اليومي لأموركم، أو لتكريس الوضع القائم، جيدا كان أو سيئا”، ليصارحهم بالقول: “عليكم أن تحكّموا ضمائركم وأن تحسنوا الاختيار. لأنه لن يكون من حقكم غدا، أن تشتكوا من سوء التدبير، أو من ضعف الخدمات التي تقدّم لكم”.
من المؤكد أن حركية الولاة والعمال الجديدة تندرج في هذا الإطار، أي تنزيل التوجيهات الملكية الرامية إلى تأمين النزاهة الانتخابية… فهل ستكون الانتخابات السابقة لأوانها المرتقبة سدّا أمام عودة “الحكومة القائمة” بعد سقوطها؟ المؤكد أن هذا الاستحقاق الدستوري سيشكّل، هذه المرّة، امتحانا قويا لكل الأحزاب المغربية، من لم يستوعبه سيُبقي على “الخشب المسندة” إلى أن يجرفها تيار الانحدار، ومن يدرك آفاقه، سيبادر إلى تحريك المياه الراكدة لدى النخبة المهيمنة على المشهد الحزبي، لعلها تنخرط في ثورة داخلية سياسية وتنظيمية، من شأنها أن تنتج أحزابا مؤهّلة وقيادات جديدة تفرز للمغرب منتخبين لديهم تمثيلية حقيقية للناخبين، ونخبة بديلة بكفاءات عالية تحقّق النجاح المنشود لتمكين البلاد من مؤسسات قوية وقادرة على تحقيق إصلاحات جوهرية ورفع التحديات المصيرية لمغرب الغد، مغرب ولي العهد، ومغرب “الحسن الثالث”…
تعليقات الزوار ( 0 )