لم تمضِ سوى أيام قليلة على بداية عام جديد، ومع ذلك، لا تزال مدينة زايو في الشرق المغربي غارقة في الظلام. في وقت يشهد فيه المغرب تقدمًا ملحوظًا في العديد من المجالات، بما في ذلك مشاريع البنية التحتية في بعض المدن الكبرى، فإن زايو تظل نقطة مظلمة في هذا المشهد التنموي واستثناءً يثير التساؤل. فرغم الجهود التي تبذلها الحكومة لتحسين وتوسيع شبكة الإنارة في مختلف المناطق، تواصل المدينة معاناتها من نقص حاد في الإضاءة العمومية، مما يفاقم الإحساس بالعزلة والتهميش لدى سكانها.
ما يحدث في زايو ليس مجرد نقص في الإضاءة، بل هو انعكاس لحالة أعمق من الإهمال، حيث يظل البعض في انتظار ضوءٍ قد يتأخر أو قد لا يظهر أبدا. وكأن المدينة قد اقتُبست من بين صفحات رواية العمى للكاتب البرتغالي جوزيه ساراماغو، حيث تسير حياتها في دائرة من الظلام والعشوائية، بلا بوصلة تنير طريقها، وكأن لعنة الأدب قد وجدت في زايو مسرحًا حيًا لتمثيل فصولها المظلمة. ومثلما صور جوزيه ساراماغو في روايته، تبدو زايو وكأنها أصيبت بعمى جماعي، حيث يتعذر على الجميع رؤية سبيل للخلاص. وبينما يمضي العالم قدمًا نحو النور والتقدم، تظل زايو غارقة في ظلامها الدامس، تعيش سيناريو مشابهًا لأبطال الرواية الذين تقطعت بهم السبل في عتمة لا نهاية لها، في انتظار بصيص أمل قد لا يلوح في الأفق.
في شوارع زايو، يحل الظلام سريعًا كل مساء، ليغرق المدينة في عتمة تبدو وكأنها امتداد لليالي الشتاء الطويلة. مع تسلل الليل، تتوارى معالم المدينة تدريجيًا، كأنها تنسحب إلى أعماق النسيان تحت ستار كثيف من الإهمال. هذا الظلام لا يكتفي بتغطية المباني والأزقة، بل يمتد ليبتلع الأحلام الصغيرة وأماني السكان، وخصوصًا الأطفال الذين يجدون أنفسهم محرومين من بهجة اللعب والمرح في الهواء الطلق، وكأن الظلام قد صادر طفولتهم قبل أن تبدأ. العائلات وخصوصا النساء، على وجه التحديد، يُجبَرن على مواجهة واقع أكثر قسوة، إذ يضاعف الظلام من شعورهن بعدم الأمان، ليصبح الليل عدوًا جديدًا يضاف إلى قائمة التحديات اليومية.
وفي هذا السياق، يبرز إلى الأذهان مثل شعبي مغربي قديم: “طاح الظلام على ساليكّان، ما بقى حد يبان”. ورغم ما يحمله المثل من إيحاءات عنصرية ترتبط بحقبة الاستعمار الفرنسي، حين استخدم الأفارقة كأدوات لقمع المقاومة المغربية، فإنه يعكس بعمقِ حالة التستر والفوضى التي يجلبها الظلام. في زايو اليوم، لا يقتصر هذا الظلام على حجب معالم الشوارع والطرقات، بل يمتد ليطمس معه آمال السكان في أن يروا مدينتهم مضيئة، تنبض بالحياة كما هو حال مدن أخرى، وكأن العتمة تُحكم قبضتها على حاضرهم ومستقبلهم معًا.
أما عن التنقل داخل المدينة، فلا يختلف الحال كثيرا. الشوارع الرئيسية التي كانت في يوم من الأيام شرايين المدينة، اليوم أصبحت مجرد معابر مظلمة، يخشى الجميع من عبورها بعد غروب الشمس. لا يقتصر الظلام على الليل فقط، بل يمتد إلى النهار أحيانًا، محاصرًا المدينة في عتمةٍ متواصلة. هناك، على سبيل المثال، محور الطريق المؤدي إلى رأس الماء، وطريق حاسي بركان، بالإضافة إلى المدخلين الرئيسيين على الطريق الوطنية رقم 02 المؤديين إلى الناظور وبركان، هي شوارع تعاني من انعدام الإنارة بشكل شبه كامل. وهذا ليس مجرد نقص في الإضاءة، بل هو تجسيد لغياب الاهتمام الحكومي المستمر بالمدينة. تلك الشوارع، التي كانت في الماضي تمثل شرايين الحياة الاقتصادية والاجتماعية، أصبحت اليوم مجرد خطوطٍ مظلمة، تعكس حالة من التهميش العميق الذي يعانيه سكان المدينة.
ورغم كل هذا، لا يزال السكان يحاولون التكيف مع هذا الواقع المرير. فالبعض يرفض أن يستسلم لهذا الظلام، ويمضي في حياته اليومية، لكن الحقيقة التي لا يمكن تجاهلها هي أن الظلام في زايو لا يمثل فقط انعدام الإنارة، بل هو انعكاس لفشل التنمية في المدينة. وبالرغم من محاولات بعض الهيئات المحلية لتجاوز هذا الوضع، فإن الأمور تسير ببطء شديد، وكأنها تشبه في بعض جوانبها مشهدًا من رواية “العمى” لجوزيه ساراماغو، حيث المجتمع عاجز عن اتخاذ أية خطوة حقيقية نحو الحل، مُعلَقًا في حالة من الانتظار.
في عام 2025، بينما يشهد العالم من حولنا تقدمًا هائلًا وتطورًا سريعًا، يغرق جزءٌ من المغرب في الظلام. وبينما تحتفل المدن الكبرى بالإنارة الحديثة التي تحوّل شوارعها إلى شرايين تنبض بالحياة، تقبع مدينة زايو في سكونٍ قاتم، كما لو كانت قد تم اختطافها من بين صفحات رواية “العمى” لجوزيه ساراماغو. سكانها، مثل أبطال الرواية، لا يرون شيئًا سوى الظلام. ليس ظلامًا مؤقتًا، بل ظلامًا سرمديًا، لا يتوقف ولا يرحم. الشوارع خالية من الأنوار، أحياءٌ تُركت تتخبط في الفراغ، والسماء لا تلوّح بأي بصيصٍ من الأمل. وكأن المدينة نفسها قد أصيبت بلعنةٍ، لا شيء فيها يتغير، وكأنها في حالة انتظار لأمرٍ قد لا يأتي أبدًا. في تلك الرواية، كان الظلام بداية لمعركة من أجل البقاء، لكن في زايو، لا معركة تُخاض، ولا بقاء يُحتفل به. بل هي مجرد حالة من السكون، تنتظر “لمبة أمل” قد تنير يومًا ما، أو قد تظل في ظلام ساراماغو إلى الأبد.
تعليقات الزوار ( 0 )