نورالدين لشهب من السمارة
لم يدر في الخلد ولا الذهن أن تصادف في أدغال الصحراء، وعلى وجه التحديد بمدينة السمارة بجنوب المغرب، معلمة حضارية أو بناية أثرية، لأن المتعارف عليه الذي وقر في الأذهان أن الصحارى تخلو من بعض الآثار التي تخلد ثقافة قوم أو حضارة سالفة، وإن وجدت فهي في حكم الانمحاء والاندراس بسبب الرمال الزاحفة التي تتكفل بالقضاء على أي معلمة حضارية أو بناية أثرية شاهدة على التاريخ والحضارة.
غير أن هذا الحكم سيتبدد فور الوصول إلى مدينة السمارة، فأول ما يشد انتباهك وأنت تمر على “وادي سلوان” هناك قلعة بنيت فوقها بناية أثرية بالحجر والخشب، إنها زاوية العلامة الشيخ ماء العينين.
سبب اختيار الشيخ ماء العينين السمارة لتشييد زاويته
الاقتراب من هذه المعلمة يغري بالاكتشاف ومعرفة تاريخ وحاضر هذه الزاوية لصاحبها العلامة والشيخ ماء العينين، والذي يعد مرجعا روحيا في الصحراء المترامية أطرافها ما بين المغرب والجزائر وموريتانيا ومالي، وأيضا في المشرق العربي وكثير من البلدان الإسلامية، فعند دخولنا كنا نكتشف البيوت المغلقة والدروب الضيقة التي تفصل البنايات، وكلما تقدمنا كنا نصيح بأعلى الصوت: السلام عليكم، وننتظر من يرد السلام، لا مجيب على من يرد التحية.
بعد مرور خمس دقائق على المشي وسط الدروب الفاصلة بين عدد من البيوت والدور المغلقة، والتي كانت تضم عدة حظائر مخصصة لما فيه الحاجة من الإبل والبقر والغنم والتي كانت تنحر وتذبح يوميا و يتم توزيعها على من في الحاضرة، وكذلك عدد من الأفران لتوفير الخبز الذي كان يصنع من الشعير ومن القمح وكان يشرف على توزيعه على أهل القرية عشرات من الطلبة.
صحنا مرة أخرى السلام عليكم، فرد هذه المرة شيخ وقور تحية السلام، إنه العلامة محمد الأمين ماء العينين حفيد الشيخ ماء العينين مؤسس الزاوية والذي يوجد لوحده داخل مقر الزاوية يؤذن ويصلي ويقرأ ورده ويغادر الزاوية في اتجاه بيته ليعود في اليوم الموالي.. وهكذا دواليك.
قبيل موعد صلاة المغرب بنحو عشرين دقيقة، جلس الشيخ محمد الأمين يحدثنا عن الظهير الملكي الذي تحصل عليه من الملك محمد السادس، وطفق يشكو مآل هذه المعلمة الحضارية الذي هجرها الجميع، وتنكر لها الجميع، حسب رأيه، وبين الماضي والحاضر هناك تفاصيل شاهدة على التحول الذي طرأ على حياة الشيخ ماء العينين وانعكست آثارها على التاريخ الحضاري والثقافي والعلمي والروحي للمغرب والمنطقة بشكل عام.
جلس الشيخ الوقور مرتابا من حضورنا في البداية، غير أنه اطمأن إلى وجودنا معه في رحاب الزاوية التي خلت من أهلها وأحبابها وطلبتها المريدين والمجاهدين من أهل الله وخاصته، وجدها الشيخ الوقور فرصته ليشكو علينا أسباب الهجر والتنكر لهذا الموروث الحضاري والتاريخي الذي طبع تاريخ المغرب الإسلامي.
يحكي العلامة محمد الأمين ماء العينين أن جده الشيخ ماء العينين بعد تجول في بلاد المغرب وكذا لقاءاته مع الملوك العلويين، حيث فضل، وبرأي منهم، أن يختار قلعة أو محلة لتكون مقرا له. ويضيف حفيد ماء العينين، في حديثه إلى هسبريس، أن جده الشيخ ماء العينين عاصر خمسة ملوك علويين من مولاي عبد الرحمن ومولاي محمد ومولاي الحسن الأول ومولاي عبد العزيز ومولاي عبد الحفيظ، وعاش معهم وقدم لهم البيعة، باعتباره عالما مكلفا ببث العلم ونشره.
لقد جاء الشيخ ماء العينين إلى المغرب طالبا وعمره 28 سنة من الحوض الشرقي على الحدود بين موريتانيا ومالي حاليا، حيث أنهى دراسته، وحفظ النصوص والمتون من ألفية وعاصمية وقرآن وبيان ومنطق عن ظهر غيب، وبقيت له المعاهد مثل جامع القرويين وجامع الزيتونة وجامع الأزهر في مصر وكذلك المشرق العربي الذي تشوق لزيارته، ثم بعد ذلك زار جامع الزيتونة والأزهر ووصل للحج واستقر مدة إلى أن وصل إلى سوريا لأنها معقل العلم آنذاك.
وكذلك زار العراق ومصر والسودان التي كانت محسوبة على مصر، زار هذه المناطق كلها عام 1874م، وبعد رجوعه وكان عمره ثلاثين سنة عاد إلى الحوض الشرقي لموريتانيا حيث يقيم والداه هناك، على الحدود ما بين موريتانيا ومالي، بقي مدة قليلة تقدر بنحو شهر، فقال له أبوه: لا يمكن لك ولا يمكن لي أنا أيضا أن نقيما في مكان واحد، فلا بد لك أن توسع فكرك وتبث علمك.
وأضاف له: أنا أستطيع أن أدبر أمر الزاوية هنا فأنت ابحث عن نفسك. لأن والده رأى فيه الكفاية رغم صغر سنه ، لنشر الدعوة الإسلامية ، بإنشاء زاوية بالساقية الحمراء ووادي الذهب.ولجمع كلمة وتوحيد قبـائل البدو الرحل ، اعتبارا لما بينه وبين هذه القبائل من الأخوة والنسب ، خاصة وأن جل قبائل الصحراء ينتمون إلى نفس الجد وهو المولى إدريس الأكبر.
يعني أن أباه كانت له زاوية؟ يجب العلامة ماء العينين بالقول: “نعم، وهي مدرسة علم أيضا، والشيخ تلقى العلم على يد والده، والأسرة تنحدر من جدنا المولى إدريس وإلى فاطمة الزهراء، وهي شجرة علم وجهاد..”
إنها القلعة الحمراء هكذا تذكر المصادر التاريخية ،”بناء القصبة يوم الخميس 26 مايو 1898م على هضبة صغيرة مطلة على وادي سلوان”. وقد كان بناء هذه القصبة التي ستصبح الزاوية التي ارتبط بها اسم الشيخ ماء العينين، زاوية للعلوم الشرعية والطرقية الصوفية في عباب الصحراء، ارتبط تأسيسها بالسلطان مولاي عبد العزيز الذي بعث بمواد البناء والمهندسين لبناء الزاوية اعترافا منه بجلالة علم وروحانية الشيخ ماء العينين ومكانته في قبائل الصحراء.
كانت المواد التي استخدمت في البناء تجلب من مدينة الصويرة الرخام الجبس والجير والخشب إلى الطرفاية من ثمة إلى السمارة” كما أوكل “السلطان مولاي عبد العزيز عددا من المهندسين المهرة في مجال البناء وبعض المتخصصين في الزخرفة والتزيين من أبرزهم الحاج عبد القادر الفكيكي و الحاج علي الوجدي والحسين الحرطاني الوعروني” .
وتضيف ذات المصادر أن الشيخ ماء العينين لما استقر به المقام في السمارة قام بحفر عدة آبار قرب القلعة، وغرس مئات الأشجار من النخيل التي جيء بها من واحات أدرار، وتم حفر قنوات بين الآبار وبساتين النخيل و حقول الزراعة لسقيها بطريقة منتظمة، وكان يحث على الاشتغال بالزراعة و الغرس و يقول: “الزراعة و الغرس فرض كفاية و على الإمام أن يجبر الناس عليهما”.
ولماذا اختار الشيخ ماء العينين مدينة السمارة لتأسيس زاويته؟
يجيب حفيده في حديثه لهسبريس، بالقول: ” المدينة لم تكن موجودة أبدا كما الصحراء، لا ماء ولا آبار ولا نخيل، فالملوك العلويين طلبوا منه تأسيس قلعة تليق بالسكان، وبحثوا بواسطة العقلاء من أهل الصحراء ووجدوا مكانا فيه عشب “السمار” الذي يدل على الماء والموجود بواد اسمه سلوان، وهو واد طبيعي، فبحثوا عن الماء ووجدوه ماء عذبا واستقر هنا، فذهب لدى الملوك العلويين واقترح عليهم هذه القلعة”.
كان الشيخ ماء العينين مدرسة متنقلة لتدريس العلم ونشره، فأينما حل وارتحل إلا وحل وارتحل معه طلبته، وحين استقر به المقام بالقلعة الحمراء/ الزاوية كانت المدرسة تعج بالطلبة من كل بقاع العالم الإسلامي، حيث قدر عددهم 10 آلاف طالب وفق وثيقة حصلت عليها هسبريس من داخل الزاوية.
وكان الشيخ يكره المحتلين النصارى، ” كان الشيخ يبغض النصارى إذا اعتدوا على البلاد، ورفض أن يتحدث مع الإسبان وقال لهم: إن أردتم أن أتحدث معكم فاذهبوا إلى بلادكم. وتوصل بشيكات على بياض من فرنسا وإسبانيا ورفضها، وقال لهم: أنا أبغضكم في الله ومات على هذي الفكرة عام 1910 في مدينة تزنيت” يحكي حفيده.
وعلى إثر رفض الشيخ ماء العينين المفاوضات مع الاستعمار الفرنسي والإسباني للمنطقة ستتعرض القلعة الحمراء/ الزاوية لهجوم فرنسي عام1913. حيث وصل طابور عسكري فرنسي من أطار بموريتانيا ، بقيادة الليوتنان كولونيل موريت، ليقود هجوما عسكريا شرسا على زاوية الشيخ ماء العينين، انتهى بقصف عنيف للزاوية، وهد القصبة الرئيسية والمستودعات وحرق ما فيها عن كامله ، وهدم معظم أجزاء الصومعة والمسجد.
ونجح الاستعمار الفرنسي في تنفيذ هجومه الشرس لأنه لم يواجه مقاومة شرسة ميدانية من طرف القبائل الصحراوية المجاهدة نظرا لانشغالها في البحث عن الماء والكلأ للمواشي، ومنها من نزح إلى مناطق كلميم وتزنيت ، ولم تكن الزاوية آنذاك تضم إلا نفرا قليلا من السكان والتلاميذ المريدين.
وعن الأدوار الطلائعية التي قامت بها المدرسة عبر التاريخ، يقول محمد الأمين ماء العينين، “تمثل الدور في بث العلم ونشره، حيث كان مع الشيخ ما يقدر بحوالي 10 ألف طالب علم، وهذه المدرسة تخرج منها العلماء معروفون على الصعيد العالمين وإلى حدود الآن يحضر إلى زاويته العلماء من مصر والسودان ومن بلدان المشرق ويتحدثون عن الشيخ ويحارون فيما يقولون حول الشيخ وعطائه العلمي والروحي..كان يدرس معه علماء في البيان والمنطق والنحو وحفظ القرآن وكان هو مديرهم والمشرف عليهم جميعا كونه يتقن جميع هذه العلوم..”.
وترك الشيخ عدة مؤلفات كان البعض منها ملقى في وسط الزاوية، وهي كثيرة منها: مفيد الحاضرة والبادية، ونعت البدايات، وهداية من حار في أمر النصارى، والمرافق على الموافق (هو شرح لمواقفات الشاطبي) وتبيين الغموض عن نعت العروض، وحزب البسملة، وحزب الخير الجسيم، والمقاصد النورانية، وفاتق الرتق على راتق الفتق، دليل الرفاق على شمس الاتفاق، ومظهر الدلالات، ، ومفيد النساء والرجال، ومفيد السامع والمتكلم في أحكام التيمم والمتيمم، وهداية المبتدئين في النحو وغيره من العلوم..
زاوية الشيخ ماء العينين من التألق إلى التهميش
عاش الشيخ ماء العينين أغلب عمره متنقلا في فيافي الصحاري مع طلبته، إذ كان مدرسة متنقلة حظيت بالاحترام وانتزعت تقدير الجميع لسيره في الأرض يبتغي الجهاد ضد الاستعمار الفرنسي والإسباني، بث علمه الزاخر بكل ألوان المعرفة في الفقه والبيان والمنطق وتحفيظ القرآن الكريم وتجويده، وبذلك اختار أن يقيم في بلاد المغرب بدعم من أبيه، قدم في البداية إلى ولاية أطار (التابعة للتراب الموريتاني حاليا).
وكان شخصا محبوبا يهاب جنابه، فأهدى له ساكنة أطار الكثير من النخيل والعير، ومن أطار وصل إلى الداخلة ولبث عند قبيلة أولاد دليم مدة من الوقت ليست بالقصيرة، لأن هؤلاء الناس، كما يصفهم حفيده محمد الأمين “كرام”، ويضيف العلامة محمد الأمين ماء العينين واصفا هذه المنطقة بـ”عنبرة المغرب” وهي المنطقة المتاخمة لموريتانيا شرقا إلى الجزائر ومنها إلى جنوب المغرب.
هذه المنطقة، حسب رأي حفيد ماء العينين، “كلها تدين بدين الإسلام، وتحافظ على هذا الدين وتدافع عن قيمه السامية، وتبغض الاحتلال أنى كان أصله وفصله، سواء قبيلة أولاد دليم أو العروسيين أو تدرارين والزركيين والرقيبات بكل فخذاتهم 19 المعروفة والمشهورة، أي الركيبات ما بين “القاف” و”الكاف” فهؤلاء جميعهم تشعر مع واحد منهم أنك في الصحراء كلها، هؤلاء أهل الكرم والعلم والجهاد مع تفاوت الطبائع كما في سائر البلدان، هؤلاء أسمهيهم “عنبرة المغرب” حين يحبونك فأنت محبوب وحين يبغضونك فأنت مكروه”.
غير أن السؤال المطروح الذي يتبادر للرائي أو الزائر للقلعة الحمراء/ زاوية الشيخ العلامة ماء العينين المطروح يرى ويلحظ أنها تتعرض للتهميش، فمسجدها مدمر، ولوحاتها مكسرة، وبناؤها بالرغم من صموده فهو آيل للاندراس والانمحاء، أما آبارها وواحاتها فهي أيضا تتعرض للتدمير ناهيك عن البناء العشوائي المترامي خلق الزاوية، أضف إلى ذلك أن المبنى، وبالرغم من شساعته يبقى مهجورا إلا من شيخ وقور يأتي يوميا لتنظيف المكان ورفع الأذان والصلاة وحيدا.
فما هي الأسباب يا ترى التي تجعل معلمة تاريخية من حجم زاوية الشيخ ماء العينين تتعرض للتهميش؟
سؤال وجهناه إلى العلامة محمد الأمين حفيد الشيخ ماء العينين، فأجاب بعد تنهيدة حارقة: “الأسباب أن الزاوية لم تزود بالرعاية الكافية، ها أنت جئت عندي الآن ولم تشرب ولو كأس شاي، في الماضي كان هذا المكان موئلا للكرم، يُكرم فيه الطلبة والعلماء والزائرون من كل بقاع العالم الإسلامي، من يزودها الآن؟ وزارة الأوقاف؟ وزارة الداخلية أم العمالة؟ لا أحد يزودها الزاد الكافي لتقوم بدورها كما كان عليه الحال في الماضي؟”.
ألم تتوصلوا بدعم من وزارة الأوقاف مثلا؟، يقول محمد الأمين في حديثه مع هسبريس: “منذ 16 سنة وأنا موجود هنا، ومنذ شهر نونبر الماضي أرسلت رسائل خطة إلى وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية وذهبت للمندوب في مدينة السمارة، وجلست معه يومين وطالبته برقم الإرسالية فقال لي لا استطيع أن أسلمها لك وها هو عندي كما تلاحظ، وخرجت”.
ويضيف المتحدث: ” وفي اليوم الموالي ذهبت إلى الرباط واتجهت إلى وزارة الأوقاف وسجلت الرسالة في الوزارة وانتظرت شهرا وكتبت رسالة أخرى إلى الحاجب الملكي بالقصر وأمتلك التوصيل بأنهم توصلوا برسالتي، وكاتبت وزير الداخلية باعتبارها هي المشرفة على المغرب وسمعته في المجالين الديني والسياسي، وبعد مرور ثمانية أيام كتبت رسالة للسيد العامل الإقليمي على الإقليم، وتسلمت توصيلا من العمالة. اش عندي ما ندير؟ إنا قمت بجميع هذه المجهودات وأملك جميع التفاصيل..”.
الزاوية مرجعية روحية لا وجود لها على أرض الواقع
تعتبر زاوية الشيخ ماء العينين مرجعية روحية لدى سكان الصحراء بما فيهم جماعة البوليساريو، كما يكشف العلامة محمد الأمين، حيث يقول: “زاوية الشيخ ماء العينين لا وجود لها في المغرب، هي اسم بلا مسمى، دال بلا مدلول” أما عن السر في اتخاذ جماعة البوليساريو الشيخ ماء العينين مرجعا روحيا لا سيما لدى ساكنة المخيمات، فيقول: “جماعة البوليزاريو هم أبناؤنا وبناتنا وكلهم من هذه المنطقة وغير مولودين في مخيمات تندوف والتي لم يلتحوا بها سوى سنة 1975″.
وقبل أن يقوم محمد الأمين ماء العينين لأذان صلاة المغرب، فضل أن يختم اللقاء معنا بكلمات تنم عن الألم الذي يستشعره بسبب ما حاق بهذه المعلمة التاريخية والحضارية الشاهدة على تاريخ المنطقة، إذ قال: ” أنا وحدي الموجود هنا وإذا تغيبت فلا أحد يأتي إلى هذا المكان، فالقلوب تشرئب إلى هذا المكان ولاسيما يوم الجمعة حيث يأتي الناس إلى الزاوية.. لم أعد أعي ولا أعرف سر هذا التهميش الذي تعانيه هذه المعلمة التاريخية والروحية، راسي يؤلمني من فرط طرح هذا السؤال”.
تعليقات الزوار ( 0 )