“بنات الخريف” هي الرواية الثالثة بعد “أمواج الروح” و”مرايا” للروائي المغربي مصطفى شعبان، صادرة عن “أكورا للنشر والتوزيع” في طبعتها الأولى عام 2022 موزعة على 228 صفحة من الحجم المتوسط في فصلين.
قراءة في العنوان وفي الغلاف:
يشكل العنوان مكونا أساسيا للنص؛ وهو بمثابة عتبة ولوج إلى فضائه الداخلي، بل هو هويته لأن النص بلا عنوانه يصير عرضة للذوبان في نصوص أخرى، و”بنات الخريف” عنوان مثقل دلاليا لنسيج سردي ثري؛ إذ تنطوي كلمة “بنات” على معاني الصبا واليفاعة و النضارة ولكن “الخريف” يحيل على فصل ذبول وأفول لدورة الحياة العادية للإنسان وللطبيعة ، لترتسم امام المقبل على قراءة هذا العمل الثنائية الضدية القائمة على حدي الحياة والموت بكل أبعادها الرمزية والتي تتماوج عملية السرد عبرها لتتوالد المعاني و تتناسل الدلالات ويتشكل متخيل حكائي ارتأى الكاتب إهداءه إلى روح الأخ الغائب الذي تصير” الامكنة مظلمة موحشة لغيابه”، ويأتي منطوق أبي حيان التوحيدي “اغرب الغرباء من صار غريبا في وطنه، وأبعد البعداء من كان بعيدا في محل إقامته” لتعضد فكرة الاغتراب كشكل من أشكال الموت في المكان وفي الروح ايضا…
صورة غلاف رواية “بنات الخريف” لمصطفى شعبان
وجه الغلاف صورة خمس شخصيات نسائية بمظهر حداثي، إحداهن في وضع إعاقة، تنوء أربعة منهن بحمل جهاز مكبر للصوت، فيما تتولى الخامسة فعل ما يشبه الصراخ لإسماع صوت تتبدد موجاته في الهواء. بظهر الغلاف نص يمتزج فيه منطوق ساردتين تتقاسمان الحكي في الرواية، ويتعالق هذا المنطوق مع العنوان بشكل لافت؛ إذ البعد الرمزي للخريف نلمسه قبل الولوج لعالم الرواية، فالخريف في هذا العالم هو خريف قيم وثقافة وحب وعمر. وحين نقرأ هذه العبارة على ظهر الغلاف” مشيتنا صارت عرجاء نتكئ على عصا الماضي حينا وعلى عصا الحداثة حينا آخر” فإننا نحال كقراء على ماض يثقل الكاهل بالحنين وبالذكريات وعلى حاضر يكبل الآمال والأحلام، لنصير أمام حالة إعاقة لا على المستوى الفيزيولوجي كما تشي بذلك صورة الغلاف ولكن على إعاقات في الوعي وفي الشعور.
التوالد السردي في الرواية
ينبني المتخيل الحكائي في الرواية بالارتكاز على واقع حياة شخصيات، مجملها نسائية؛ في الوطن حيث تروي” كنزة” وعبر صوتها المتماهي مع ضمير المتكلم قصتها وقصص صديقاتها ومعاناتهن بين مطرقة البطالة وسندان العنوسة، وفي أرض الغربة حيث ساردة الفصل الثاني “صفاء” تنسج خيوط قصتها المتعالقة مع قصص شخصيات الفصل الاول ومع أخرى في بلاد المهجر.. ومن خلال التوليف بين فضاءات متعددة وشخصيات متباينة يمتح الروائي مادته الحكائية من العوالم الأنثوية الصرفة في ارتباطها بسياق تاريخي يوسم بالمتناقضات وبأنماط حياتية جديدة أحدثت تحولا في الفكر والسلوك والقيم، وفرضت ايقاعات جديدة للحياة.
تتولى “كنزة” السرد عن نفسها وعن الأخريات اللواتي يخضن تجربة العنوسة كخاصية أنثوية وتتقاسم معهن إكراهات الحياة المجتمعية والنفسية ، ولأول مرة يطرق هذا الموضوع بقلم رجالي في المنطقة الشرقية من المغرب…تقدم الرواية من خلال” كنزة” في الفصل الاول و”صفاء” في الفصل الثاني نمط الراوية التي هي في الوقت نفسه شخصية معنية بكل ما يتخلخل ويتحول في واقع آيل لآخر فصوله/الخريف، فهي الشخصية التي تحكي كل ما تراه وتسمعه وما تعيشه وتحكي أيضا ما تراه وتسمعه وتعيشه باقي الشخصيات الاخرى التي لا ترقى إلى موقع الراوي ولكنها تشارك في الحكي حوارا: “ياسمينة” تروي عن زوج خالتها و”كوثر” تروي عن حبيبها ، وتروي” صفاء” عن” بوغفالة” الذي يروي بدوره حيوات اناس كثيرين بعد أن كان موضوع حكي، بل إنه يمتلك أحيانا معرفة أوفر من تلك التي تمتلكها “صفاء” يقول:” أنا لا أبخل عليك بكل ما أعرف، أمدك بسر المهنة لتصبحي سيدة المكان،” سميرة الرياشة” كانت تشتغل بمقهى ” الكلب الذي يبتسم”” ص 185 يعرف “بوغفالة” صفاء وعبرها القارئ ب”اراضي النعناع البلدي” حيث تمارس الجالية المغربية نشاط بيع مواد البلد وحيث “يلتقي هؤلاء، يقاومون غربتهم” ص184. معرفة الساردة هي أيضا معرفة من يعرف حقيقة العلاقة بين أطراف الرواية، أي انها تمتلك معرفة ما يمكن أن يفسر ويقول الأسباب الخفية؛ “كنزة” الساردة لمجموعة من الوقائع في حياتها تطرح السؤال وتحلل أسباب التيه وأسباب العزوف عن الزواج ” من أين جاء استقراء مفاهيم عازب، عانس، فصارت احكاما تتداول ،، يستفزني النعت، يتأكد لي يوما بعد يوم أن هذا زمن الخوف نعيش فيه ولا نحيا، استنبتت فينا جذور الاستهلاك حتى صار الزواج من الكماليات” ص38.
رواية” بنات الخريف” محكومة بموقع الساردتين اللتين تفتتحان السرد وتختمانه وعلى امتداد النص تصاحبان باقي الشخصيات، تتركان لهن فسحة الكلام ثم تعودان لاستلام السرد في خطوط زمنية متقاطعة وفي أمكنة تتباين في انفتاحها وانغلاقها على هواجس ذوات مكلومة تحتل مواقع مركزية داخل الإطار العام للفضاء التخييلي.
بين “الهنا” و”الهناك” بحث عن الهوية
ليس غريبا والرواية رواية غربة واغتراب أن تطالعنا الساردة “كنزة” بواقع الفراغ الذي تعيشه منذ بداية الحكي، تقول بص 23 “ينتظرني فراغ واسع يمتد طيلة النهار وسيهرب النوم مني في الليل لا محالة” الوقت لديها وقت فراغ نهاري وأرق ليلي وهي المتخرجة من الجامعة والحالمة بوظيفة بالتعليم العالي، لكنها تلتحق بصفوف العاطلات عن العمل وعن الحياة وتنخرط مكرهة في عوالم التفاهة ” أقاوم قلقي بمسلسلات تتناسخ باستمرار، نعيش حياة أشخاص المسلسل، متاعب العلاقات العاطفية ونجاحها” ص 79 وتجعل من البحث عن زوج هاجسها الأوحد “أحتمي معه من الخوف الذي يتهددني لأشعر بالأمان على غدي، رجل له دخل نواجه به الأيام، رجل يخلص النية، يضع يده في يدي ونقول إلى الأمام وبدون تردد” ص32 ، ولأن شبح العنوسة يتهددها، وينطفئ بداخلها شيئا فشيئا ذلك الإحساس العذب بالأمومة، ترتد “كنزة” عن الكثير من قناعاتها كفتاة متعلمة واعية وترتمي بأحضان العالم الرقمي للبحث عن العريس الافتراضي، لكنها تصطدم بواقع موبوء “أسأله عن نظرته للمرأة فيجيبني بكلام عذب رقيق، أطمئن لأحاديثه الرصينة، أصدق، تتعدد الدردشات، ينزع جبة الفقيه، يتلون كحرباء ، يغير أسلوب الحديث شيئا فشيئا، تسدل حجب الفكر والثقافة وينطق عجبا: كيف أحوال الزينة ديالي”ص42 تدخل “كنزة” أيضا عالم الأبراج ، وتنحدر إلى عالم الشعوذة، تقترح عليها “ياسمينة” تجريب “لخفيف” عند “أم كلثوم”، “ياسمينة” التي تتوسم الخير من أفواج المهاجرين العائدين للبلد ، تترقب كل صيف عريس الغفلة، وتصير رغم انفتاحها الفكري رهينة الفكر التقليدي عن الزواج ، وتتحول العنوسة إلى ظاهرة مرضية أو حالة شذوذ مجتمعي تبتغي الشخصية التعافي منها خاصة وأن هاجس الأمومة يصير ملحا “أعرف أنني لن أركب قطار الشغل والوظيفة لكن علي أن أركب قطار الحياة ولن أقبل بصفة العنوسة” ص 95 ولكن “ياسمينة” تذوق بدورها مرارة الخيبة بعد اقتفائها أثر زوج “الشات” بلا جدوى لتسلو عن كل ذلك بالحلم ،الحلم بالعريس والأهازيج والزغاريد.
يداهم الشعور بالخيبة ومرارة العيش شخصية أخرى من “بنات الخريف” وهي شخصية “كوثر” التي أنهت دراستها في الحقوق وتقدم بها العمر” وعينها على حبيب القلب وما بقي من أحلام لعلاقة الحب والالتزام وليس له عنوان قار إلا في قلبها” ص66 الحبيب الذي سوى وضعه في الخارج بعد رحلة من اللاشرعية والاغتراب وترك “كوثر” هائمة بحب موقوف التنفيذ، وقد ظلت تخلق الأمل في نفسها مؤمنة بأن “الحب وحده لا يوقفه شيء… وهو كالدخان لا نستطيع التكتم عليه” غير أن الفقر وقلة الوفاء يخنقان هذا الحب لتدخل كوثر عالم الكآبة منتهية إلى الجنون…
شقت “نوال” أيضا رحلتها في البحث عن زوج، اقترنت بزهير لكنه تركها بعد احتفال وخطوبة ، فانضافت إلى قافلة العانسات العاطلات الغريبات في وطنهن ، و”كريمة” التي اقترنت برجل فقير اضطر للهجرة تاركا طفلين ، عادت إلى بيت أهلها بعد انقطاع أخبار زوجها، لتثبت في النهاية خسارة الرهان على الزواج دون تحقيق الاستقلال المادي في واقع تغيرت فيه قيم العلاقات الانسانية أمام سيادة التفكير المادي الخالص..
ومن الضفة الأخرى تطل علينا “صفاء” الساردة الثانية في الرواية من قاعة مديرية الأمن في سعي لتجديد بطاقة إقامتها بباريس، لتقدم لنا نماذج من الشخصيات المهدد مصيرها هناك، وتبوح بشعورها بالتيه والضياع في بلاد حلمت وبنات جيلها بالهجرة إليها، تقول في ص 145 “تهت أستعيد مشاهد حياتي في باريس وهمومي مع الشهادة المغبونة، أراجع مرحلة بمرحلة ومحطة بمحطة أين ستذهب هذه المركبة وأين سترسو، البحر هائج وشواطئ الأمان تبتعد” ، حالة من التشتت الذهني تعيشه صفاء كلما أقدمت على تجديد إقامتها وخوف من أن تدخل عالم “اللاشرعية” ،،، ومنذ بدء السرد من طرف “كنزة” نلمس ذلك الحضور الطاغي لشخصية “صفاء”، إنه الحضور في الغياب الذي يعلن عنه بالصفحات الأولى من الرواية ، تقول “كنزة صفاء التي هاجرت إلى الضفة الأخرى، أستاذها المشرف لا يفهم إيقاع خطواتها في البحث، تعود خطوتين إلى الوراء، توقف بلوغ الشهادة ثم تتقدم متثاقلة إلى الأمام” ص 25 لا تني الساردة الأولى أن تحث الثانية في البقاء هناك رغم كل الإكراهات، ومنذ بدء السرد يسكن القارئ الإحساس بمأساوية الوضع وتأزمه هنا وهناك، تقول “صفاء” ص 26″ محظوظ من يعيش في بلده وغير بعيد عن ثقافته، هو من السعداء من ضمن قوته في بلده ..هي كرامة أدركها، لا يشعر بها حتى يفقدها ويتجرع مرارة الوحدة والاغتراب”.
إن جدل الساردتين عن “الهنا” و”الهناك” يطرح إشكالية التأقلم في الفضاء ومفارقة الداخل والخارج وهي إشكالية أساس أو تيمة مهمة يجسدها تقسيم الكاتب لروايته إلى جزأين: الأول تنبثق شخوطه المغتربة من داخل البلد والثاني يستوعب شخوصا يختلف تكيفها مع المكان. بين الوطن وبلاد المهجر تعيش العديد من الشخصيات واقع الغربة وتكابد ألم البحث عن الذات؛ “ريحانة” التي حلمت بأن تصير طبيبة في بلدها، تراجعت أحلامها بعد أن أخفقت في مباراة التمريض، دخلت فرنسا متسللة وحققت حلما واحدا هو توافق قامتها مع قامة زوجها هناك. “لطفي” صديق كنزة بالجامعة ركب البحر وذهب بلا عودة ولا أخبار عنه، “بوعلام” الشاب الأربعيني الدائم التسكع بحي الساردة كنزة جرب بدوره الهجرة السرية، يعود بعد خمس سنوات من الغربة ليعيش في الوطن غربة أعمق و”تتشابك في رأسه خيوط المعرفة والغضب، ينطق أحيانا من منبع الحكمة ومرات من منابع أخرى”ص21.. وليس “زهير” الذي خطب “نوال” أقل اغترابا من هؤلاء، فإثر عودته إلى باريس بدأ يراجع نفسه حول أمر الخطوبة، قلص من اتصالاته بخطيبته إلى أن قطعها، دون مبرر واضح، وقد عبر عن ضياعه بقوله” كل شيء تبدل في البلد ولا شيء بقي على حاله، أحس بغربتي تكبر هنا أكثر من باريس” ص 76 ،، ويغدو “العياشي” نموذجا للاغتراب داخل الوطن بعدما تجرع لأربعين عاما مرارته خارجا، تقول عنه كنزة بص77″ بقي العياشي متشبثا بصورة البلد المنحوتة في ذهنه، يخاف عليها من الضياع لأن فيه ضياعه الثاني والنصف المتبقي”، إنه الشخصية المكتوية بنار الحنين إلى الوطن ولكنه يصطدم بعد عودته النهائية بواقع مغاير في البلد، العياشي يمثل بهذا الجيل الأول من المهاجرين الذي تقول عنه أم نوال “ذاك جيل معذور يا بناتي، جيل تمحن في غربته” وتختزل تأسيها وشعور زوجات هؤلاء بالفقدان بموال شعبي بليغ ” جاء في الليل، مشى في الليل كالمنام ما عقلت عليه” ص 79 .غير أن للشاب “عزوز” حارس ضيعة عمي العياشي والذي لم يهاجر بعد، رأي آخر: “لماذا لا أتغرب في فرنسا لعلي أفتح باب الرزق وأجمع مالا،،،أمي موجودة في قرية لا ماء فيها ولا كهرباء، قرية يلبس فيها الفقر الجوارب والحذاء العسكري”ص33 وتعضد” ياسمينة” هذا الرأي بقولها” الغربة هي الحكرة، هي أن تبقي بلا عمل تبحثين عن رجل كمحطة إنقاذ” ص92
ليس اعتباطا إذن أن يجعل الكاتب من ملفوظ التوحيدي عتبة لنصه الروائي، لأن الغربة في هذا السياق هي غربة الذات في فضاء تجذرت به كينونتها وحوى لحظة الميلاد ومراحل النشأة الأولى، وحين ترتد “كنزة” في مستهل الحكي إلى دواخلها باحثة عن صورتها في المرآة “أتفحص من أين تبدأ التجاعيد ويترهل الجلد، تائهة لا أعرف كيف يبدأ يومي”ص12 فلكي تفشي أسرارا عن الزمن وعن المكان الذي تنغلق داخله ذاتها، صعبة هي البدايات، بداية الحكي وبداية الحفر في أغوار المكان ،،، تتجشم “كنزة” عناء تحمل الفراغ وعناء سرده، الفراغ الكامن بداخلها وذاك المعربد بالخارج؛ بالمدينة وبالزقاق، تبدأ كنزة السرد من مآسي الفقر في المكان، من جحافل المياومين في مزارع الفلاحين الكبار والعاملين في أوراش البناء، من بعض المتسولين الوافدين على الزقاق والذين صاروا مع الوقت كأنهم منه، يبدأ السرد من سخط “المرتضي” الحوذي الذي يلهب ظهر بغله بالسوط، ويبدأ من الحركة البطيئة والاستيقاظ المتأخر لأهل المدينة ومقاهيها التي يكثف الكاتب من بعدها الدال على الضياع في هذا الملفوظ “هي كمطاحن الوقت والاعمار، أيدي الملتفين على موائدها تقبض على الفراغ، والألسنة تزايد في بورصة القيل والقال”ص12 ،،،
يشكل الزقاق في الجزء الأول من الرواية الخلفية المكانية التي يتشكل عبرها النسيج السردي في علاقته بالشخصيات والذي تراهن الكتابة السردية على أبعاده الدلالية. إنه الفضاء الأكثر انفتاحا وأقل انغلاقا قياسا إلى بيت الساردة، مما يؤهل القارئ للانفتاح على سكانه والوافدين عليه، إنه مكان سوقي خصب نكتشف جوانيته عبر ما تنسجه الساردة من علاقات بينه وبين الملتحمين بجنباته.
من اللافت أن يجعل الروائي من الأصوات داخل هذا المكان مركز جاذبية سردية إذ يلج القارئ فضاء الرواية عبر الأصوات؛ أصوات ساكني الزقاق، والساردة لا تنفك عن الوصف، بل تعطل السرد لتفسح المجال فسيحا للأصوات، وهي أصوات اكتشاف فضاء يستيقظ رواده صبحا، لاوجود للزقاق دون هاته الأصوات “تستوقفني أصوات بعض المتسولين الوافدين على الزقاق، تصل إلى مسامعي وأنا في فراشي كنا نميز بين أصحابها من خلال نداءاتهم و حركاتهم” ص14… الحركة التي تتسارع وتيرتها مع عربات المتسوقين وتبلغ أوجها حين يبدأ الاستعداد لإعداد الغذاء، تبدأ في الزقاق وتمتد إلى البيت ، حركة من الخارج في اتجاه الداخل ، غير أنها حركة متعثرة يسكنها العجز، الأم تجر قدميها وتتحرك فقط لتخفف من آلام الروماتيزم، وداخل فضاء البيت تكون كنزة شاردة صامتة أغلب الوقت ، وهذا الفضاء بالرغم من انغلاقه فإنه يشعر بالسكينة خاصة وأن أم كنزة تبتعد عن المواضيع المثيرة للقلق داعية عقب كل صلاة لابنتها بانفراج غمتها .
نقف في الرواية على الكثير من الفضاءات المغلقة والمنفرة كفضاء المكتبة المهجورة ” كقبر غريب لا يزار، أجلس لأعيد علاقتي بالكتاب، يصيبني الدوار، أغلق الكتاب وأعود للمنزل توا”ص27. ولأن المدينة هي خلفية الفضاء الروائي في “بنات الخريف”، فإن الحكي يتأسس من خلال ما يؤثثها من مبان كثيرة زحفت على المساحات الخضراء وطمست جماليتها، ومن خلال الزحام الذي تعرفه خاصة في فصل الصيف حيث تصير منبهات السيارات لغة الغضب والاحتجاج، و”يصير القلق في الهواء، في الطبيعة، في أماكن الراحة والهدوء”ص24 مما يولد في نفس الساردة الاحساس بالضيق ويقيم نوعا من القطيعة بينها وبين عالم الخارج/خارج الزقاق. “عمي العياشي” يضيق به منزله بعد الاصلاحات التي أقامها أبناؤه “غيروا التصميم ليصير المنزل حديثا، فأكثروا من الغرف التي أكلت الحوش الواسع، ضاقت الأمكنة التي كانت تسكن قلبه، كلما تذكر الحوش الواسع تذكر شجرة التين؛ جلساتها وظلالها صيفا، تذكر الكرمة وعناقيد العنب المتدلية بها”ص80، ويمثل سطح المنزل المنفتح على السماء مكان ارتياح له،،، بهذا تسهم الرواية في بناء فضائها الخاص ومنحه ابعاده الدلالية مستعينة بالإيحاء بثنائية المكان الضدية: الانغلاق والانفتاح؛ فالمكان المنغلق مكان منفر ومغيب للذات، يمارس تأثيره السلبي على الشخصية ويقيد حريتها.” صفاء” داخل غرفتها المتناهية في ضيقها بباريس تزورها الكوابيس “لاح الظلام في باريس وأحكم قبضته على غرفتي…بدأ سباق الصراصير على جدران الغرفة، تعيد سباقاتها كلما سكنت للراحة وأطفأت النور…اجتاحني النوم فغفوت …تكبر الحجرة وتضيق، تكبر الصراصير وتصغر،،، أجدني وسط قاعة الحفلات، صراصير أم أناس مسخوا على هيئات صراصير، ألبسوني خرقة صرصور..” ص 139، في مثل هذا الفضاء تشعر الذات بالفقدان وتنسلخ عن هويتها،،،ومع ذلك فإن هذا المكان يصير ملاذا مؤقتا ومكانا آمنا تحتمي فيه الساردة من وحشة الخارج “أسكن إليها، قلبها يتسع، يحفظني من التشرد الذي يهددني كلما فقد العمل” ص207… ويشكل ميترو باريس لعمي العياشي متاهة وكابوسا مرعبا ” كلما تغير مكان الورش بات ليلته حائرا مغتما، يفكر كيف سيهتدي للعنوان الجديد، يسعى في كل مرة أن يبتكر دليلا يستأنس به ليخف هوس التنقل شيئا فشيئا”ص85.
تصير باريس في أذهان المهاجرين العرب فضاء صغيرا هو المقهى، إنه المكان الذي تتشكل بفضائه شبكة من العلاقات ويتسع ليمتد إلى حدود العالم الخارجي الذي يأتي منه الزبائن، إنه مكان مرجعي لشخصيات تتباين أحلامها وذكرياتها واهتماماتها ولكنها تتوحد في غربتها ،،، في هذا المكان نتعرف على “بوغفالة “و”أمقران”، على” ليندا” وعمي” سعدان” و”جمال السياسة” و”المكي” رشام المجموعة و”ميمون بوركزة” وغيرهم ممن “تعلقوا بالمقهى وفرجته، أصبح بيتهم الثاني، يجلسون فيه أكثر من جلوسهم في المنزل، يطوفون به مرارا كأنهم يتفقدون أحواله، هل مازال قائما في مكانه” ص161،،،إن المكان هنا لا يقاس بضيقه أو اتساعه بقدر ما يقاس بمدى ايحائيته ورمزيته ، إنه الفضاء لأنه يتشكل وفق تموقع الذات ويرتبط بهواجسها وطموحاتها وبانكساراتها أكثر من ارتباطه بموقع خارجي، وهكذا فإن هذا المكان نفسه الذي يجتمع به المهاجرون يتأسون فيه عن غربتهم، يتبدى ل”صفاء” مكانا مقيتا فرضت الظروف القهرية التواجد بين جدرانه وتحت سقفه خاصة وأن “بوغوفالة” يمارس فيه ضغوطا عليها، فهو الناعت لها ب” البلدية” وهو الذي كتب على باب مرحاض النساء ” لتحيا “ليندا” ولتمت من جاءت بعدها”. من هنا يتحول المكان في الرواية إلى نسق رمزي يخرج من محدوديته ليصير مبنيا على تفاعل الذاتي بالموضوعي، وحين يتحدث الكاتب بإسهاب عن المقهى في بلاد الغربة فليؤكد حضوره ويعكس العلاقات المتداخلة بين شخصياته، وكثيرا ما لا يكون المكان محايدا في العمل السردي الذي ينبني على مفارقات دلالية عميقة : الوطن/الغربة، البقاء/ الرحيل، الوفاء/الخيانة، الأنا/ الآخر، الخوف/الاطمئنان، و”صفاء” التي لا تجد ذاتها في مدينة الأنوار تعيش على ذكرى المكان في الوطن “أتلذذ بعشب حقلنا بعدما أعدت اكتشافه في بلاد الغربة، صرت أعظمه أكثر وأكثر، أعظم أماكن تسكنني وأسكنها، أبتسم لها وتبتسم لي، وحين يشتد الشوق تطوي الزمان والمكان، وتأتي زائرة أو تحلق روحي فيها، تجدد الوصل وتخفف الظمأ” ص113 إنه نداء الأمكنة للأرواح المغتربة الحالمة بالوصل والدفء، والتواقة إلى الالتحام بتربة البلد.
ما يمكن أن نخلص إليه من خلال مقاربة رواية “بنات الخريف” هو أن المكان يخلق المعنى وينتج الدلالة؛ تتحدد أبعاده من خلال حركة الشخوص وإحساسها بالحرية ولا يمكن إدراكه إلا في علاقته بذكرياتها وتباين أزمنتها، إنه يتأسس من خلال علاقته ببقية المكونات السردية وخاصة بالزمن؛ فالغربة التي تكابدها الشخصيات ليست غربة في المكان فقط ولكنها غربة في العمق، في الوجدان وفي الذاكرة.
سطوة الذاكرة وترميم الذات
سعيا إلى تحقيق توازنها تمارس الشخصيات المغتربة فعل “التداعي” والارتداد إلى أزمنة ماضية؛ زمن الطفولة والصبا، إنها التقنية السردية التي تحيلنا كقراء على وقائع سابقة وعلى لوحات ناطقة من الذكريات تحن لها الشخصية. ولأن رواية “بنات الخريف” رواية شخصيات لا رواية أحداث إذ لا تتمحور حول عقدة نامية باتجاه حل أو نهاية، كما أنه لا يحدث تبدل في وضعها، بل إنها تمارس فعل البوح والمناجاة وتصرخ عاليا من وضع مأزوم لا تملك له بديلا، لأن هاته الشخصيات المغتربة روحيا تنكفئ على ذاتها، على دواخلها وأعماقها وتنزع إلى الهروب من الخوف والقلق، فإن فعل التذكر يصير مركزيا ومولدا لبنية زمنية خاصة، وهذا الفعل الوجداني الداخلي الذي ينفجر من خلال ضاغط خارجي يمثل عزاء للذات المحبطة المحكومة بالحنين ، وتظل الرحلة من الحاضر إلى الماضي رحلة انتكاسية لا تحقق للذات توازنها بقدرما تضاعف من آلامها وتزيد من اغترابها، تقول كنزة “النوم تحجر في عيني، الأحلام الجميلة تهجرني حين يحل الأرق وحين ينعم الليل بجوده، تسافر روحي إلى أجواء الجامعة”ص28، تسترسل في تذكر الأجواء الرفاقية والعلاقات العاطفية والاغاني والأشعار الملتزمة، وأيضا محنة المنحة الجامعية، تسهب في تذكر كل التفاصيل وكأنها تعيش اللحظة بكل ألقها ومتاعبها، ولكنه التعب الجميل “إن متاعب الجامعة تجلب لي فرحا عارما، كلما تهت فيها بالنوم أو باليقظة، تبحر الروح في الذاكرة فتعيش ماضيها حاضرها” ص30
من زمن الطفولة تتذكر الساردة “كنزة” ما كانت تخوض فيه مع صديقاتها من حديث عن المستقبل والآفاق المهنية ، عن الحياة الزوجية المرتقبة “كنا ندبج حياتنا بريشة فنان، نحلم بعالم لوحة ربيعية لريف من أرياف الدول السكندنافية” ص 69 صورعن حياة مثالية كانت تملأ مخيلة الصغيرات اللائي تقترن أعمارهن حاضرا بالإكتهال، بالفصل الخريفي دون أن ينفتح في أفقهن عمل أو حياة أسرية… ومن الطريف جدا أن ترتبط الذكريات بدال رمزي؛ هو صندوق الجدة الذي لم يكن به أي شيء غريب، لا ذهب ولا فضة،، كانت به ذكرى وجودها وحنينها، وهو عنوان استمراريتها وذكرى اقترانها بالجد،،، وكانت الجدة تضطلع بدورها بمهمة سرد حكايات الزمن الجميل.. وهكذا فإن ارتداد بنات الخريف ، الممزوج بالحنين الى الماضي يصير في الكثير من السياقات استحضارا لقيم ذلك الزمان، وتأسيا على فقدانها واندثارها، تقول ياسمينة “كان الحي الجامعي يصنع الإنسان، كانت العلاقة تساوي الالتزام وكان هجر العلاقة خيانة وتلاعبا بمشاعر الآخر، مات زمن الاخلاق، تلاشى زمن الوفاء،، صار ذكرى واغترابا”ص47 ، وبقدر ما ترتد الذاكرة إلى الزاهي من ماضيهن فإنها تنفتح أيضا على المرارة والفقد وفراق الأحبة الذين كان يفترض أن يصيروا أزواجا ولكن البطالة وانسداد الآفاق بددت الأماني وعمقت الجراح، فعن “وليد لحلال”/ لطفي تقول كنزة التي تقاسمت وإياه حلم الارتباط “عشنا علاقة الالتزام وحب الأرواح وانتظرنا أن نعيش هتافات الجسد ليكتمل مشروع حبنا بالزواج ففككت البطالة كل شيء” ص36 وحين تشتغل الذاكرة بتداعيها على أيام الوصال، تصير الأمداح بكل حمولتها الصوفية وقعا موجعا على أوتار القلب “صوت الأمداح يوقف شرودي، تردده والدتي بصوت رخيم، فيه تعبد وحزن، يصل إلى قلبي كشهيق ناي، يتدفق ألما”
كانوا هنا كانوا يا سيدي يا حنيني
وتقول ما كانوا
فين غابوا.. سيدي يا حنيني
راه وحشنا ليكم سيدي يا حنيني
عيني بغات النوم سيدي يا حنيني
والنوم ما جاها ص 93
أمثلة كثيرة يوظفها الكاتب مسعفا من خلالها الشخصية على ترميم ذاتها وبناء عالمها الخاص ليصبح الزمن لديها زمنا “ذاتيا” مرتبطا بالتقلبات النفسية والاحساس براهنية اللحظة في تقاطعها مع الماضي البعيد والقريب وفي تداخل الواقع المر بالذكريات، وينمو لدى الشخصية ذلك الرفض للتواصل مع العالم الخارجي لتزداد بالتالي حدة الاغتراب … قد تشرئب الشخصية أحيانا نحو زمن مستقبلي يتشكل من خلال مقاطع استباقية تتمثل في الاشتغال على ما سيحصل كحديث “كنزة” عما سيحصل لو أنها خرجت من شرنقة العنوسة، تعيش ياسمينة هذا الزمن الاستباقي عبر الحلم بالعرس وطقوسه الاحتفالية.
وإذا كانت غربة الشخصيات داخل الوطن تدفعها إلى الاستعاضة عن الحرمان بالتذكر، فإن تلك التي بالخارج تعيش اغترابا مركبا؛ فهي المرتحلة عن مكان الولادة والمكابدة في مكان آخر أشكالا مختلفة من الاقصاء و التهميش، مما يجعل منسوب الحنين لديها مرتفعا والارتداد إلى فضاء زماني ومكاني آفل أكثر بروزا، ليصبح النسيج السردي متحركا بين “الهنا” و”الهناك” وبين “الكائن” و”الما كان”، وتمارس الذاكرة سطوتها على “عمي سعدان” أحد رواد المقهى بباريس. إذ كلما هم بأكل الكسكس عند “أمقران” “تغيبه الملعقة المصبوغة بنقطة خضراء، فتذكره بملاعق للا صفية، ترميه في مشهد خروجه من المسجد يوم الجمعة في البلد”ص172 وحتى مفتاح داره المغربية يرافقه في غربته ” يخرجه كلما اغتم وقهرته الظروف، يضعه في كف يده، مواسيا نفسه وممتصا غضبها” ص173 .تمتلك الشخصيات المهاجرة في الرواية إحساسا خاصا بالزمن الذي يتم اختصاره إلى لحظة فاصلة في حياتها بين الهنا والهناك، فيتذكر كل واحد يوم هجرته، والمكان الذي نزل به وأول شخص تحدث إليه و”يهز رأسه بصرخة ميلاد عسيرة تؤرخ لفراق أرض معجون بثقافتها وذكراها ونزول بأرض لا يعرفها”…
ومن مظاهر هذه الغربة المزدوجة ما يعيشه الطالب “مني” من حيرة بين العودة إلى الوطن أو البقاء في باريس حيث خليلته “لورانس”، ودون أن يحسم هذا الصراع بداخله يتزوج بنت البلد فيما يظل قلبه عالقا بالأجنبية .ولعل أبرز تجل للغربة المكثفة ما نقرأه عن شخصية “بوغفالة” الحامل لتسميات متعددة؛ فهو “جلول” و”جلو” و”بوغفالة”، شخصية مقنعة تعيش حياة موزعة ما بين جلوس دائم بالمقهى وبين سكر وتعدد في العلاقات الغرامية، يشم “جلول” اسم “بديعة” على ذراعه ويتحسس ندوب الحب وجراحاته كلما أفرط في الشرب، بداخله شروخ وأعطاب تعبرعن فضاعاتها ما أصبح يعيشه بالخارج بعد تجربة حب فاشلة في الوطن غيرت من مفاهيمه للعلاقة، فأصبحت النساء لديه مجرد “وليمة في الفراش”. تنزع هذه الشخصية إلى ملء الفراغ الباطني بتلوناته في هويته وفي مظهره “دفن ماضيا تعيسا، ينذعر عن ذكراه، يمتعض إذا نودي بجلول، تنزل به غمة جوانية، يبتلع نارها دفعة واحدة ولا تعرف يده كيف تتسلل إلى الفزاعة يداعبها” ص 193 يعوض “بوغفالة” خواءه الروحي بالإسراف في السخاء على رواد المقهى بأداء ثمن مشروباتهم … وهو لم يندمج في المجتمع الفرنسي إلا ظاهريا، يعيش القهر الذي يغلفه بمسايرة الموضة في مداراة لفراغه العاطفي المريع “همه أن يقال عنه إنسان حداثي، يواكب العص، اندمج الرجل على أحسن ما يرام” ص196، يفهم الاندماج بشكل مقلوب وهو كما تقيمه صفاء “شهادة حية على صناعة استبلاد العقليات ص 197، وحين يشن “بوغفالة” الحروب في اتجاهات متعددة وخاصة على صفاء الصافية القلب التي ينعتها بالسذاجة فلكي يداري ضعفه وعدم قدرته على إيجاد هويته، وفي رفضها الزواج منه يزداد حنقه وحقده عليها. “بوغفالة” شخصية منكسرة، مثخنة بالجراح، طعنه الحب في الوطن وكسرته صلابة الواقع في بلاد الغربة، يعيش حالة توتر، حالة التباس مع الذات ومع المحيط، مقصي في بلده حين بدت حالته غريبة وهو “يتفنكس” بسيارته داخل الزقاق، في الغربة يتعمق احساسه بالتهميش حين ترفض صفاء الاقتران به، ولا يفلح في استعادة بعض من كينونتك إلا بالسكر الطافح ودخوله حالة اللاوعي أو “دار الغلبات” .
من الملفت أن شخصية “بوغفالة” تصور في الرواية بكثير من الصدق والتدقيق إذ استطاع الكاتب أن يسبر أغوارها ويكشف عن انشطاريتها واستهاماتها الواعية وغير الواعية لينذر بذلك بمأساوية الوضع وفداحة أوجاع المغتربين الذين تمتزج لديهم هموم الوطن وإخفاقاته بصعوبة الاندماج في واقع جديد ومختلف ثقافيا، فتتبدى حقيقة الانتماء الصعب والمركب إلى فضاءين متناقضين تحكمهما علاقة توتر والتباس، ويظل سؤال الهوية مطاردا لشخصيات الأجيال اللاحقة من المهاجرين فيما يتعاظم احساس الحنين عند الجيل الأول، فيستمرون على إثر عودتهم النهائية إلى البلد في ممارسة نمط العيش نفسه الذي كان قبل الهجرة وبالتصورات والقيم نفسها. عن صعوبة الاندماج مجددا لديهم تقول كنزة ” توقفت البلدة في ذهن كل واحد منهم يوم هجرته، يغيب الرجل بالأعوام والسنين، يعود فيبحث له في البلد عن صورة تشبهه يوم ذهابه” ص92
أمام مأساوية الوضع بالداخل وبالخارج، والاحساس بالغبن واللانتماء، تلجأ الشخصيات للبحث عن بدائل، عن عزاء يخفف الأوجاع، عن آفاق تنفتح لتكوين أسرة وإيجاد عمل، فترتمي” كنزة” في عالم الشات، وتتفنن “ياسمينة” في نسج أحلامها: “تحدث نفسها عن اسم الزوج ويسافر طيفها ليقطع الحدود بلا تأشيرة” ص46 غير أنهما تصطدمان بواقع المسخ في العالم الافتراضي، ويحضر الزجل والاغنية الشعبية كشكل من أشكال التعبير عن القهر، تتغنى كنزة بإخفاقها في ايجاد زوج في عالم ما أسمته ب”بركة الضفادع “
شافوني ناس بالصنارة
دازوا وقالوا لي مبروك
ضنوني صياد مهارة
وانا لقصيبة في يدي شوك
أيامي يا ناس مشات خسارة
والحب اللي كان ولى مشروك ص 49
تتوسل شخوص الرواية أمام انتكاستها أيضا بالخرافة والشعوذة، “ياسمينة” تشير عليها “أم كلثوم” بتعليق ملابسها الداخلية على شجرة صفصاف قرب الولي الصالح والدوران حولها سبع مرات…
بهاته الطرق الغارقة في التيه والعتمة تنفس الشخصيات المحرومة عن نفسها وتشرع في نسج أحلامها التي تنكسر على صخرة الواقع الممسوخ والرغبات المشبوهة لتتعمق ندوبها وتثقل روحها بهموم الذات، وليس اعتباطا انبثاق شخصية “للا الطاووس” من بين خيوط هذا النسيج السردي، فهذه المرأة المتحدثة باستمرار عن الموت تعتبر المعادل الحقيقي لواقع الشخصيات التي تعيش ولا تحيا،،، وتشكل ملفوظاتها عن الموت مظهرا آخر من مظاهر اليأس من الحياة واحباط آمال الشخصيات. تعلق الساردة على هذه المغالاة في استحضار شبح الموت قائلة “صعقت وأنا أسمع للا الطاووس تتحدث عن كفنها، أصبحت أخاف فستاني الأبيض الذي اشتريته لعرس مرتقب، صار لون بياضه يخيفني ويذكرني بكفن الطاووس”. قمة اليأس من الدخول إلى الحياة وغرق الساردة في بحر من الأسئلة الوجودية يحيل القارئ على الواقع الممسوخ الذي تتماهى معه أحلام “صفاء” في غرفتها الباريسية وهي بين نوم ويقظة، ويغدو التعبير بالجسد لغة منتجة للمعنى في طقس غنائي ملعلع ” هاج الحاضرون، جابوا القاعة رقصا، أطلق حمادي زناد بارودته، انفجرت من بطنها فرقعة قوية، تبعتها الحناجر بصوت واحد: اركز، اركز، اركز” ص143 يصبح الرقص هنا بديلا وتعويضا بدوره عن حالة القمع والفقدان، به ينفجر الجسد بكل مكنوناته، يتحرر من الضغوط، وينخرط في عالم الفرح اللامنتهي كلما استشعر انفراجا وأشبع رغبة. فهذا “ميمون بوركزة” يقوم من مجلسه صائحا راقصا كلما فاز في لعب الورق: “اركز يا حبيبي اركز وزيد اركز” ص 160 ليصير فعل الركز تثبيتا للذات على الأرض التي تشكل من ذراتها والتي إليها العودة في آخر العمر…
“بوغوفالة” يؤكد انتماءه وهويته التي تضيع منه في الصحو بين اسم مستعار ومظهر شاذ، يستعيد شيئا من كينونته وهو يمارس الرقص بالطريقة الاحتفالية المائزة للتراث الغنائي البلدي” يتموج يمينا ويسارا على أغاني الراي، يذوب في مقاطعها، يلوح بيده راقصا ويردد: الهدة، الهدة..” ص 203 يؤكد تميزه داخل فضاء يلفظه باستمرار ويغيبه ليس من خلال الرقص فقط ولكن من خلال” وشم الجسد”، لقد وشم جلول على ذراعه اليسرى قلبا يقطعه سيف وبداخل القلب الجريح كتب اسم حبيبته .وتمثل ظاهرة الوشم التي يدمنها عادة المهمشون مجتمعيا رد فعل تمردي عنيف ضد الذات التي يطالها المحو من طرف قوى ضاغطة مهمشة، هي لغة دالة تحبل برموز تنقش على الجسد بشكل أبدي وكتابة بالدم تسعى إلى أن تحتفظ بالذكرى وتخلد المفقود.
يصبح الجسد في موضع آخر أداة تعبير عن السخط وعدم الرضى عن أوضاع حياتية مفروضة من قوى سلطوية قاهرة، فهذا “بوعلام” الموسوم بالمجنون يستعمل جسده تنفيسا عن الامتعاض الذي يستشعره تجاه ساسة هذا البلد ومنتخبيه في تلاعبهم بمصائر الناس وضربهم لمبادئ الديموقراطية في العملية الانتخابية وفي تسييرهم للشأن العام؛ يتعرى “ىوعلام” وسط السويقة في نوبة جنون هستيرية ليجسد من خلال جسده معنى الرفض وعدم الخنوع ويستنكر وضعا مأزوما، ورغم استنكار أهل الزقاق لفعله فقد انتهوا إلى حقيقة أن هذا الرجل “حكيم الحي” وليس مجنونا،،، ما مفهوم الجنون وما حدود التماس بينه وبين العقل؟؟ تقول كنزة وهي تضحك “نحن في زمن الغرابة والاستغراب، فيه كل شيء مقلوب، الناطق فيه بالحق انسان غير سوي ومجنون يعيش بعيدا عن الواقع، المجتمع والسلطة تدفعان لضغط متواصل وحين يتولد الانفجار ويتحرر المرء من قبضة ضغوطاتهم، يتكلم بالحكمة وبالواقع، يتهم بالجنون، وإن صبر على القهر واللكمات الموجهة إليه فصبور، فمن هو العاقل ومن هو المجنون؟” ص69
وتعتبر “كوثر” من أكثر الشخصيات النسائية في الرواية اكتواء بنار العطالة من جهة وبنار الحب من جهة أخرى، تبخر حلمها في أن تصير محامية تدافع عن المظلومين، انتظرت الوفاء بميثاق الحب لكن “رشيد” صدمها فانكفأت على نفسها تسخر من العشق ومن الرجال، كانت في نوبات جنونها تقيم جلسات محاكمة وتنعت الزمن بزمن “الكلاب الضالة المسعورة” وتصرخ عاليا “سيكبر هذا الصمت، يكبر في قلوب المجانين والعوانس والعاطلين، ثم تتفرقع البطيخة دون سابق إنذار، ويسيل ماؤها دما”ص71/72 هكذا تحاكم المجنونة الحكيمة عصرا موبوء وزمنا ممسوخا ويصير” الهذيان عند أبطال بعض الروايات بمثابة لحظة أراد الكتاب من خلالها أن يدلوا بآرائهم في الكثير من القضايا المعقدة والشائكة على لسان شخص مجنون”5 وإن كان من الناحية النفسية ارتباكا وفقدانا للتوازن وانفلاتا من قوة العقل الضابطة ، فإنه يغدو من الناحية الابداعية انزياحا عن القاعدة والنسق وتعبيرا عن صراع محتدم بين المجنون وبين بنية مجتمعية ضاغطة. و قد عبرت “كنزة” عن ذلك قائلة “إنها(كوثر) تتحدث بما يتغلغل في قلوبنا ولا نستطيع الجهر به” ص73،،، وبهذا يبدو منطوق كوثر كحالة مرضية مقصية من محيطها أكثر بلاغة من منطوق باقي الشخصيات ويمكن اعتبار إعاقتها شكلا من أشكال العبقرية التي يقرنها الفلاسفة وعلماء النفس عادة بالجنون.
يتأثث فضاء الرواية بمجموعة أخرى من الشخصيات المقصية وينفتح الزقاق خاصة على أصناف من البشر الهائمين المشردين؛ فالمجذوب مثلا يستحضره السرد كشخص يزرع تجليات تغير في الزمان والحال “الله ينجيك من المشتاق الى فاق ومن الكذاب الى تاق ومن الساكت الى دوا ومن الحبيب الى خوا ومن الصداع الى قوا” ص 17و”بنسنس” شخصية زئبقية ترهب وترغب ” يضبب للسامع الفهم في ذهنه” ص18 يحتال ويمارس فعل التكهن كشكل من أشكال التكسب، تمكث هذه الشخصيات بين حدي المعادلة: الرفض الذي يتمظهر في الهذيان والرضى أو الاستكانة التي تجسدها شخصية “عش واها” التي يحيل مدلول لفظها إلى ما يعزي به أهل الفاقة أنفسهم تهوينا من حالة التفقير التي يعتبرونها ابتلاء وعقابا على ذنوب لم يقترفوها، فيفرطون في الانصياع والخضوع لذوي الأمر والنهي . ورغم انصياعية هاته الشخصية إلا أنها تخلق الفرجة في السوق فتكون أكثر طلاقة في غنائها ورقصها، هي شخصية “تتقن الفرجة ولا تجيد التسول” ص16، الفرجة هي البديل الذي يستعاض به عن واقع الفقر والمرض وهناك من يستعيض بالبديل الديني: الرجل السبعيني الذي يسمع أهل الحي بعض الأذكار وعيناه تدفقان دمعا مذكرا إياهم بآخرتهم كبديل عن الدنيا الفانية المتعبة…
تعدد أشكال الاغتراب والتهميش في رواية “بنات الخريف” من خلال شخصيات متأزمة تتوسل من الحلم والوهم والخرافة والذاكرة سبلا لتجاوز واقع القهر والاستعباد المادي والمعنوي، وتتأثث الفراغات النفسية والمكانية من خلال استحضار الموروث من الأغاني والأمثال والحكايات التي يبرع الكاتب “مصطفى شعبان” في نسج عوالمه الروائية من خلالها، ليغني الخزانة الروائية المغربية بجنس أدبي يمتح من المرجعيات التراثية سعيا إلى تعرية واقع بات قاب قوسين أو أدنى من التلاشي والاندثار القيمي.
*باحثة مغربي
تعليقات الزوار ( 0 )